للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العبرة بسيرة الملك فيصل
(٤)

أحاديثنا في دمشق:
ذكرت أنني وعدت الأمير فيصلا في بيروت أن ألحق به إلى الشام بعد سفره
بيوم أو يومين، وقد وفيت بوعدي وتركت عملي في بيروت وطرابلس الخاص
بمسألة حقي في الوقف السلطاني الذي آل إليَّ ببراءة سلطانية وكان رجال السلطة
الفرنسية مساعدين لي على أخذه فلما مكثت في الشام مع عدوهم فيصل انقلبوا عليَّ.
سافرت من بيروت يوم الأحد ١٨ جمادى الأولى سنة ١٣٢٨ - ٨ فبراير
(شباط) سنة ١٩٢٠ تحرك بنا القطار من محطتها (س٧ ق ٢٠) صباحًا ووصل
إلى الشام (س٤ ق ٢٠) مساء فأدركت صلاتي الظهر والعصر مجموعتين
وزارني في الليل صديقي الأستاذ الشيخ كامل قصاب وخالد أفندي الحكيم وقالا:
إن الجمعية الوطنية تقوم نهار غد بمظاهرة كبيرة في المزة (من ضواحي المدينة)
يحضرها الأمير وإنهما سيذهبان بي إلى المزة قبل الظهر ونبقى فيها إلى المساء،
والشيخ كامل هو الرئيس المحرك للجمعية وكانت صلته وصلة صديقيه خالد أفندي
الحكيم والدكتور عبد الرحمن الشهبندر بالأمير غير ودية، أذكر هذا لأن له شأنًا
بسيرة الأمير، فالملك فيصل رحمه الله تعالى من أولها إلى آخرها، ومنه سعيي
للتقريب بينهما.
وقد بدت الصلة بيني وبينه من ضحوة اليوم الأول (الإثنين) لوجودي في
الشام إلى ما قبل نصف الليلة التي خرج منها بعد الاحتلال الفرنسي، فأنا أعتمد
فيما أثبته في هذه الفصول على مذكراتي التي كنت أكتبها بعد الجلسات معه:
يوم الإثنين ١٩ جمادى الأولى ٩ فبراير (شباط) :
زرته ضحوة هذا اليوم وتكلمنا خلوة في المسائل الثلاث: السورية والعربية
والإسلامية كلامًا إجماليًّا هو مرتاح لذلك، وقال إن الأخيرة (أي الإسلامية) لم
يسبق له تفكر فيها، وأما الثانية فكان يريد أن يسعى لجمع كلمة زعماء العرب
واتفاقهم ما عدا ابن سعود لأنه عدوهم، وإذا كنت أرى أن اتفاقه معهم ممكن فهو
يرى رأيي في الاتفاق كما تكلمنا في بيروت (قال) ولكنني متحير في اختيار
الرجل الذي يمكن جمع كلمة العرب على تمثيله للوحدة العربية.
هذا ما كتبته وأزيد عليه أنني قلت له: إن الأمة غير مستعدة للخضوع لزعيم
واحد يجمع كلمتها، وإنني فكرت في هذه المسألة عدة سنين فانتهى بي التفكير إلى
وضع نظام الجامعة العربية التي عرف خبرها مما فصلته له في بيروت أي نظام
الحلف بين أمراء الجزيرة وتأييد الجمعيات السياسية في سورية والعراق لذلك،
فإن من أصول هذا الحلف أن يكون له مجلس حلفي يجتمع مرة في كل سنة للنظر
في المصالح المشتركة، وأن يكون هو الذي يقرر كل ما يعززه ويختلف ذلك
باختلاف الزمان والأحوال، والمعقول أن يكون المكان الذي يختار لهذا المجلس في
الغالب هو الحجاز فهو يمهد السبيل لاتفاقهم على جعل الشريف أمير مكة المكرمة
هو الرئيس الموقت فالدائم له، وإننا على هذا لم نبلغ والده خبره ولا دعوناه إليه إلا
بعد أن بلغناه لجميع أمراء الجزيرة وقبولهم إياه قبولاً مبدئيًّا مقيدًا لا مطلقًا، ثم بلغته
لأخيه الشريف عبد الله فبلغه والده كما تقدم , وقد أظهر لي في مكة قبوله وتأجيل
تنفيذه إلى أن يظهر على الترك ويخرجهم من الحجاز، ولكنه صرح لبعض من
يأمن لهم بأنه يوجد اليوم شيء اسمه إمام اليمن وشيء اسمه ابن سعود، ولا يوجد
غدًا شيء من هذه الأسماء، بل تكون البلاد العربية كلها مملكة واحدة خاضعة لملك
واحد، وقد أفشى لي قوله هذا من سمعه منه؛ لأنه كان ممن قبلته في الجمعية،
وخلاصة ما قلته له أن جمع الكلمة قد يرجى بنظام يُتَّبَع، لا برئيس يُطَاع.
وبعد فراق الأمير ذهبت إلى المزة مع بعض أعضاء الجمعية الوطنية وكانت
الريح شديدة العصف والبرد قارسًا والجو تتكاثف فيه السحب، ولم يلبث الجو أن
بدأ ينثر درر الثلج أو يبث قطنه المنفوش فكان هذا سببًا لإحجام الألوف من الأهالي
عن الذهاب إلى المزة لحضور المظاهرة، على أنه قد وافاها كثيرون ولا سيما
رجال الحكومة والأغنياء أصحاب المركبات المختلفة، وكانت الخيام مصفوفة في
ذلك الميدان الفسيح كالمعسكرات وكلها مفروشة بالطنافس العجمية، فأوى إليها
الناس.
وأما الغرض من هذه المظاهرة فهو أن يرى الأمير فيصل أن الأمة كلها متفقة
على طلب الاستقلال المطلق من كل قيد لا ترضى بما دونه بديلاً، وكان الشيخ
كامل وأركان الجمعية علموا أن الأمير جاء من أوربة متفقًا مع فرنسة على نوع من
الوصاية، وقد كنت كتبت إليه من بيروت ما فهمته من حديث فيصل في هذه
المسألة وأنه يعتقد أنه يقدر أن يأخذ من زعماء البلاد تفويضًا إلخ.
وبعد أن تمَّ الاجتماع حضر الأمير فيصل ومعه أخوه الأمير زيد ورجال
حكومته والأمير نوري شعلان شيخ عرب الرولة وكان يكثر التردد عليه، والأمير
محمود الفاغور، وألقى الأستاذ الشيخ كامل خطبته الحماسية الضافية الذيول،
المتدفقة السيول، فأجابه الأمير عنها بأنه يؤيد الأمة في طلب الاستقلال المطلق،
وأنه لا ينال إلا بجيش قوي منظم، وهذا يتضمن الرد الخفي على الخطبة من غير
أن يؤخذ على الأمير شيء تفهم منه الأمة أنه يريد أو يرضى دون ما تريده أو
ترضاه.
ثم وضعت موائد الطعام فأكل الأمير والمدعوون ولم تقبل نفسي أن آكل شيئًا
بل خفت ضرر البرد فعدت إلى البلد (دمشق) مع علي رضا باشا الركابي الحاكم
العام في سيارته.
(يوم الثلاثاء ٢٠ جمادى الأولى ١٠ فبراير) :
كان الأمير فيصل دعاني أمس الاثنين إلى الغداء معه اليوم لأجل أن نتكلم بعد
الغداء في سياستنا التي افتتحنا الحديث فيها، ثم عرض له بعد الغداء شغل فأخر
الحديث إلى الليل فسهرت معه وتكلمنا أولا بحضور أخيه الأمير زيد وقد بسطت
لهما ما دار بيني وبين والدهما في مكة وأهمه إقناعه بترك مسألة الخلافة (كما
نشرتها المنار من قبل ولا حاجة إليها هنا)
ثم تكلمنا في أمور أهمها ثلاث (إحداهما) اقتراحي عليه أن يسعى لجلب
عزيز علي بك المصري من أسبانية فوافقني على ذلك (والثانية) اختيار من نرسله
إلى ابن السعود بعد أن اتفقنا على أن يكتب إليه كل منا كتابًا (والثالثة) مسألة
ارتيابه في بعض زعماء الحركة العربية وارتيابهم فيه وما في ذلك من الضرر.
وكنت عرفت هذا من قبل عودته من أوربة وتلاقينا في بيروت، وازددت به علمًا
في دمشق، ولما رأيت ما أوتيه من اللين والمرونة والاقتناع بالمعقول واغتباطه بأن
أعمل معه بالتعاون حاولت أن أوفق بينه وبينهم كما مهدت لهذا في بيروت.
فصرحت له في هذه الجلسة بأن الشيخ كاملا والدكتور شهبندر وخالدًا أفندي الحكيم
من المخلصين في الخدمة الوطنية ويجب أن يكونوا موضع ثقته، ولم أكتم عنه ما
يُنْتَقَدُ على الثلاثة (هذا ما كتبته عقب الجلسة ولكني نسيت الآن ما قلته له في هذا) .
ومما قاله هو لي: إنه يود أن أبقى في الشام للعمل معه، وأن أكون الحجر
الأساسي في المسألتين الإسلامية والعربية لا العربية فحسب، وذلك أنني أقنعته بأن
هاتين المسألتين متلازمتان فلا يمكن تأسيس الوحدة العربية وإعادة مجد العرب
وحضارتهم إلا بالإسلام، ولا يمكن إعادة هداية الإسلام وإصلاحه للبشر إلا باللغة
العربية والأمة العربية.
وكلمني في نقل إدارة المنار والأسرة من مصر إلى الشام. فقلت له: إن هذا
ليس من المصلحة الآن وهو يقتضي نفقة كبيرة وإضاعة مركز عظيم ثابت إلى
مركز مضطرب حاضره، مجهول مستقبله، ولكنني أترك الإدارة والدار والأعمال
الخاصة والآل في مصر وأبقى الآن في دمشق إلى أن يتم ما اعتزمناه ثم نرى ما
تقتضيه المصلحة بعد. وأعني بما اعتزمناه جمع المؤتمر العام وإعلان الاستقلال
التام، وكنت أول من اقترح هذا على خواص إخواننا من حزب الاستقلال.
(يوم الأربعاء ٢١ جمادى الأولى ١١ فبراير)
تفارقنا أمس على أن نعود قبل ظهر اليوم (الأربعاء) للمضي في الحديث
الذي ابتدأناه، وقد عدت في ضحوة النهار، وزاره وأنا معه كاتب أميركاني يراسل
بعض الجرائد وسأله عدة أسئلة أحسن الجواب عنها.
ثم شرعنا في الحوار وكان الأمير زيد حاضرًا فسألني عن رأيي في المذاهب
الإسلامية فبينت له معنى كلمة المذهب وحكم التقليد والاجتهاد، وما يدخل فيه وما
لا يجوز فيه، سألني هل يمكن إزالة الخلاف الديني وتوحيد المذاهب؟ قلت: إن
الخلاف طبيعي لا يمكن إزالته وإنما الواجب إزالة ضرره ولا سيما التعادي في
التفرق الذي ذمه القرآن ونهى عنه وتوعد عليه، وذكرت له الآيات فيه، وبينت له
طريقة تلافيه، وسهولته إذا وجدت حكومة رشيدة تنفذ رأي المصلحين فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))