للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

سؤال أو أسئلة
عن خلافة آدم ونبوته ومعصيته
(٥٢-٥٦) من صاحب الإمضاء:
حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الحجة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الغراء بمصر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أخ أو ابن يعتقد فيكم الصراحة في القول
والإخلاص في العمل، والصدع بالحقيقة متى استبانت، لذا يحفزني إلى الكتابة
إليكم اليوم سؤال طالما جشأت به نفسي وجاشت، عَلَّنِي أجد لديكم ما يشفي
اضطرابها (وبعد) فإني أفهم من الآيات التسع الواردة في خلافة آدم بسورة البقرة
من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:
٣٠) إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٣٨) أن خلافة آدم كانت في
أرضنا التي نعيش عليها (كوكب الأرض) وأنها كانت ملكًا عظيمًا قائمًا بسياسة
الناس إذ ذاك وتدبير شؤونهم على وفق قانون سماوي مقدس، وأن إسكانه الجنة
عقب تعيينه خليفة دليل على أن المراد منها دار الخلافة ومظهرها، وأن إخراجه
من الجنة دليل على سقوط خلافته) .
كل هذا تؤديه الآيات المشار إليها، وكله ظاهر ومفهوم منها، وهو ما أعتقده
الآن وأجزم بصحته، وعندي عليه من الأدلة الصادقة ما هو مقنع، ولكن الذي
أشك فيه، وأرجوكم توضيحه وكشف غموضه هو ما يأتي: -
١- أكانت خلافة آدم كخلافة أبي بكر الصديق وزملائه، أي ليست متضمنة
لنبوته ورسالته؟ وإذًا لم يكن عصيانه بالأمر القادح في الأنبياء إذ لم يكن منهم؟
ولا يرده ظاهر قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: ٣١) لأنه من قبيل {عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٥) ولا ظاهر قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٥) و {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} (البقرة: ٣٥) إذ هو من
باب: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} (الأعراف: ٢٦)
ونحوه.
٢- أم كانت خلافته كخلافة نبي الله داود وإخوانه، أي تنطوي على نبوته
ورسالته؟ وإذًا كيف الجمع بين معصيته وتأسي المحكومين بجميع أقواله وأفعاله؟
والتأسي بالأنبياء أمر لازم بالشرع، الذي لم يندب الناس لعصيان الخالق {وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) ؟ وكيف تؤولون سقوط
خلافته جزاء لمعصيته لو كان في الخلافة معنى نبوته ورسالته؟
٣- وهل من نصر الله لرسله الذي أكده في قرآنه إذ قال بسورة الصافات:
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: ١٧٣) أي للشيطان وحزبه، وقوله في
سورة المؤمن: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (غافر: ٥١) أي
على المخالفين لهم: إسقاط آدم من سلك المرسلين لو كانت خلافته رسالة للخلق أم
هو خذلانه؟ وباطل أن يكون آدم من أنبيائه ورسله الأكرمين.
٤- ولم قال الله تعالى من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى: ١٣) ؟ ومن سورة النساء {إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: ١٦٣) فسكت عن آدم ولم
يذكره قبل نوح ومحمد ومن بينهما لو كان من سلكهما، مع أنه جدهما.
٥- ولم بدأ الله بقوم نوح ثم الأحزاب من بعدهم في كل مقام ذكَّر فيه أهل
القرآن بالأمم قبلهم كقوله في سورة المؤمن: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (غافر: ٣٠-٣١) ولم يبدأ بآدم لو كان ذا أمة وكان نبيًّا مرسلاً؟
هذا ما عَنَّ لي عرضه على سمعكم، وأملي كبير في أن تكتبوا عنه مطولا
على صفات مجلتكم انتصارًا للحق، فهو بالاتباع أحق، ... ... وكتبه
... ... ... ... ... ... ... ... محمد مقبول حلاوة
... ... ... ... ... ... المدرس بمدرسة كفر ربيع الابتدائية
(٥٢و٥٣) معنى خلافة آدم ونوعها:
الخليفة من يخلف من قبله في أمر كان عليه، جمعه خلفاء وخلائف ومنه قوله:
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} (النمل: ٦٢) وقوله في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: ١٦٥) ومثلها آيات. وخلافة آدم فيها
وجهان: أحدهما أنه هو وذريته يخلفون أمة من الخلق كانت قبلهم. والثاني أنه خليفة
لله تعالى في أرضه يظهر هو وذريته حكمه وأحكامه وسننه في خلقه بجعلهم مستعدين
لمعرفة كل نوع من أنواع المعلومات، وهذا خاص بهم في جملتهم لا يشاركهم
فيه جنس آخر من العوالم الظاهرة ولا المغيبة. وما قصه الكتاب علينا من قصة آدم
وتوبته أحد هذه المظاهر والاستعداد للأمور المتعارضة.
فخلافة آدم لم تكن كخلافة أبي بكر رضي الله عنه لمحمد صلى الله عليه وسلم
في إقامة شرعه، ولا كخلافة داود عليه السلام للحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
(٥٤-٥٦) معصية آدم ورسالته:
إن جميع الأسئلة مبنية على أن آدم كان نبيًّا رسولاً إلى قوم بشرع ينفذه فيهم،
وأن معصيته تنافي رسالته على ما هو مقرَّر في كتب العقائد من عصمة الرسل
عليهم السلام، والواقع أنه لم يكن مع آدم في جنته قوم، ولم يكن له شرع، وإنما
امتحنه الله وهو وزوجه بالنهي عن الأكل من شجرة معينة؛ لإظهار استعدادهما
البشري لكل من المعصية والطاعة كما قلنا آنفًا.
ولم يكن آدم في ذلك الطور مرسلاً إلى أحد فيكون قدوة سيئة له في المظهر
الأول. وإنما أرسل الله الرسل إلى الأمم بعد طور الحضارة وفساد الفطرة وظهور
الشرك فيها، وأولهم نوح عليه السلام. وقد فصَّلنا كل ما يتعلق بقصته في مواضع
أبسطها ما في سورة البقرة من ص ٢٥٨-٢٨٠ ج أول تفسير وص ٣٣٨-٣٥٧ ج
٨، وحققنا مسألة معصيته في ص ٥١٣ وعدم رسالته في ص ٦٠٢ كلاهما في ج
٧ طبعة ثانية منه.
فنحن لا نزيد شيئًا من تلك التفصيلات هنا، وإنما على السائل الفاضل أن
يراجعها في مواضعها التي بيناها، فإن رأى بعد ذلك حاجة إلى استفتاء آخر في
موضوعها فليتفضل به.
قارون وما قاله المفسرون فيه
(س ٥٧) من سعادة صاحب الإمضاء في فم الخليج بمصر
حضرة صاحب الفضيلة العالم الجليل الأستاذ الشيخ السيد رشيد رضا حفظه
الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فقد ورد في التفاسير عن قارون أنه
كان تابعًا لموسى عليه السلام وكان يحفظ التوراة، وكان من السبعين الذين اختارهم
للميقات وغير ذلك مما جاء عنه كما هو معلوم لحضرتكم، ولكن أظن أن التعبير
بأن قارون كان من قوم موسى ليست له الدلالة الكافية على إيمانه نظير قوله تعالى
في سورة الممتحنة: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (الممتحنة: ٤) الآية وقد جاء في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: ٢٣-
٢٤) وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد أن ذكر عادًا وثمود وقارون وفرعون
وهامان {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} (العنكبوت: ٤٠) .
قال بعض المفسرين: قُدِّمَ قارون على فرعون وذُكِرَت عقوبته قبل عقوبة
فرعون لسبق حادثته، وإذا صح هذا فكيف جاوز البحر مع موسى وحضر الميقات
وحفظ التوراة وآمن بموسى. أرجو التكرم بإفادتنا عما ترونه في ذلك؛ خدمة للعلم
نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد شكري باشا
(ج) إن قصة قارون مثل ضربه الله للباغين الطاغين بغناهم ودثورهم
وموضوعه من أخبار الغيب الماضية، والذي نراه أن ما ذكره المفسرون عنه كله
من الإسرائيليات التي لا يُعْتَدُّ بشيء منها، فلا ينبغي أن نزيد في قصته على ما
جاء في التنزيل شيئًا. ومنه أنه كان كافرًا باغيًا ضالاًّ فانتقم الله منه، وجعله عبرة
لغيره.
* * *
الطلاق الثلاث باللفظ الواحد
(٥٨) من مستفت في فلسطين وأجيب عنها بكتاب خاص في العام الماضي.
ما قول فضيلتكم في رجل قال لامرأته إثر مشاجرة وهو يعي ما يقول: (أنت
طالق ثلاثًا) هل يقع عليه بذلك ثلاث طلقات أم يقع عليه طلقة واحدة؟ أفيدونا ولكم
الثواب من الله تعالى.
(ج) إن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين
السلف والخلف، فظاهر قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة: ٢٢٩) أن حل
عقدة الزوجية الذي يملكه الرجل ويملك الرجعة بعده مرتان، أي مرة بعد مرة،
وبيَّن حكم الثالثة بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة:
٢٢٩) فالمرة من الشيء هي الفعلة الواحدة فوصفها بالكثرة لغو باطل لغة وشرعًا
وعرفًا، فإن التعدد من الفعل أو القول تكراره مرة بعد أخرى. وفي صحيح مسلم
وغيره أن الطلاق الثلاث باللفظ الواحد كواقعة السؤال كان يُعَدُّ طلقة واحدة في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ثم أمضاه عمر
على الناس، والظاهر أن إمضاءه عقوبة لهم ليكفوا عنه لمخالفته للمشروع، والله
أعلم.
وأخذ جمهور العلماء بهذا وبقي فيهم من يفتي بالأول وهو الأصل، وقد
اعتمدته الحكومة المصرية في محاكمها الشرعية في هذا العصر، وهو الذي أعتقده
وبسطت أدلته في تفسير الآية من جزء التفسير الثاني، وفي مواضع من مجلة
المنار. فمن وقع له ذلك، وكان من أهل النظر والفهم فعليه أن ينظر في أدلة
المسألة التي بسطناها نحن وغيرنا ويعمل بما يراه الأرجح من جهة الديانة، ومن لم
يكن من أهل النظر استفتى من يثق بعلمه ودينه وعمل بفتواه. وأما من جهة
القضاء إذا اختلف مع مطلقته في ذلك فالواجب اتباع ما يقضي به قاضي بلده فإن
حكم الحاكم الشرعي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية دون القطعية.
* * *
(٩٥) الصفات المستحيلة على الخالق تعالى:
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
منشىء مجلة المنار بالقاهرة.
مقدمه لفضيلتكم عبد الله أوانج القطاني الطالب برواق الجاوه بالأزهر
الشريف، وبعد فإنني تلقيت خطابًا من جدي وهو من العلماء المدرسين في بلدنا
(فطاني بسيام) وأمرني فيه أن أرفع السؤال الآتي إلى علماء مصر لأنه حصل
نزاع فيه بين العلماء الموجودين هناك لعلهم يجدون من الجواب مخلصًا وقاطعًا لذلكم
النزاع، أرفع إلى فضيلتكم ملتمسًا أن تفتوا في هذه المسألة إليَّ مباشرة برواق
الجاوه بالأزهر لأرسل ذلكم الفتوى إلى هناك.
(استحالة المستحيلات) هل هي من الصفات الواجبة لله تعالى من الصفات
السلبية أو لا؟ هذا هو السؤال فالرجاء من فضيلتكم أن تفتوا بأدلة صريحة مقنعة
ولفضيلتكم جزيل الشكر، وتفضلوا بقبول فائق التحيات ووافر الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... المقدم: عبد الله أوانج الفطاني
(ج) قوله: (استحالة المستحيلات) ليس صفة لله تعالى ولا لغيره،
وليس كلامًا له معنى يسأل عنه، لكن المفهوم بالقرينة أنه أراد به ما اصطلح عليه
بعض المتكلمين من تقسيم الصفات إلى وجودية وسلبية، وواجبة ومستحيلة،
فصفات الكمال هي الواجبة لله تعالى كالقدم والبقاء والعلم والقدرة، وصفات النقص
هي المستحيلة كالحدوث والفناء والجهل والعجز.
والقاعدة: أن ما يجب له من صفات الكمال وجودية كانت أو سلبية فضدها
يستحيل عليه، وقد خلط السائل بعضها ببعض فلا يعرف مراده من عبارته، على
أن هذا الاصطلاح لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه
وسلم ولا في أقوال الصحابة وأئمة السلف فهو مُبْتَدَعٌ لا يجب على أحد من
المسلمين علمه، ولا يحرم عليه جهله، وإنما الواجب عليه أن يصف الله تعالى بما
وصف به نفسه في كتابه وبما صح عن رسوله وصفه به، وأن ينزهه عما نزهاه
عنه، وأن يسكت عما سكتا عنه، مع اعتقاد اتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل
نقص. وأن يتبع جمهور السلف الصالح دون ما خالفهم به المتكلمون بفلسفتهم
ونظرياتهم الكلامية، وقد بينا هذا بالتفصيل مرارًا كثيرة في التفسير، وفي المنار
وغيره.