للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية، وقوة
سياسية وحربية، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم.
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر، ولا يطلبونه منه، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره (كالأوراد والأحزاب) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص:
٢٩) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: ٦٨-٦٩) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (محمد: ٢٤-٢٥) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره.
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير، ولكنه لا
يدرس في المدارس، ولا يعتمد عليه في التربية، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها، ولا لدفع الغوائل
عنها، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى، وتجديد ثورته الأولى، (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية: وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه، ودعوتهم إلى الإسلام به؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره، فكانت أول صيحة صخت الأسماع، فأصغت الآذان، وأشخصت الأبصار،
وأهطعت الأعناق، بالقرآن للقرآن، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات، وبث دعوته في الأقطار، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن، وروح القرآن، وإن اشترك فيه العربي والعجمي، والسني
والشيعي والإباضي، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان، ومن
آياته المحكمات: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل عمران: ١٠٥) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة، تشير إلى ما تحتها من كنوز، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز، فلا تتعب القارئ الكسول، ولا تنفر السامع
الملول.
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ.
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب. دع
من انتدبوا للترغيب فيه، وبيعه لمن يشتريه، احتسابًا لوجه الله عز وجل.
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين، والملاحدة المتفرنجين، وما يفند تضليل دعاة
التنصير، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير. فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم، ولا معجزات نبيهم (لا ربهم) إلا بثبوت هذا القرآن، وأنه وحي من
الرحمن.
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية (الهندية) قد أتم عمله، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة (هند الجديد) في كلكتة،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة.
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية (أحدهما) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ (الهند) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية. (وثانيهما) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده (قبودان) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها.
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها.
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل، أو الاضطرار إلى استئناف العمل، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها (ص٢١) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها.
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل، وقد ختمت الكتاب
بدونها، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها.
علاوات كتاب الوحي:
(١) أنباء الغيب في القرآن، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه، حتى يأتي أمر الله عز وجل.
(٢) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها.
(٣) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع، وقد ألممنا بها بعض الإلمام.
(٤) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب.
(٥) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب.
(٦) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع.
(٧) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله، الدالة على نبوته.
(٨) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين، وهدي السلف الصالحين، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره.
(٩) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها.
(١٠) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى.
(١١) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل.
(١٢) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي، واستعداده العقلي، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي،
ولكنهم طالبونا بها، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها.
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا، وكثَّرناها عدًّا،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا، والخامس بعدد جمله عشرًا.
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة ١٢٨ منه.
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى (ص ١١) أنني كتبته في
أوقات متفرقة، وزمن هم وعسرة، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه،
وإلى بعض التكرار فيه.
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير، وعسير غير يسير، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره.
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره.
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام (١٣٥٢) على المشهور بين الناس [١] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به. وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل: {اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣)
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين، وإتمام نعمته على العالمين،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين.
((يتبع بمقال تالٍ))