للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان

إن المسلمين على بينة من أمرهم، لا يحتاجون إلى دعاية، ولا إلى التماس
الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور
هذا الكون بدونه، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه، والذي ما زال
ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة
حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين؛
لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه، ويرون جميع
براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى
دليل، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند
الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل
لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ
نشأة أوربية؛ أي: خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها
مبادئ الإسلام مع لبن أمه، فيقال: إنها رسخت فيه من الصغر. ولما كان جميع من
يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية
الحاضرة، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا، كان هذا
الكتاب موجهًا أيضًا إليهم؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية،
أو على ما يقرب من ذلك.
فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين
أيضًا، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع
الأوربي؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة، والمغلوب مولع
بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون. فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين
الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه
السلام يقول:
إن محمدًا كان أميًّا، لم يقرأ سفرًا، ولم يكتب سطرًا، وهذا القرآن العظيم
بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة، وأوجز عبارة،
لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل
علمًا من قبل، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع
إخوته في الرضاع، ثم إنه نشأ يتيمًا، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية،
واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين، ولم يكن أحد يماري في استقامته، وكانوا
لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم، فيستحيل أن يكون رجلاً
موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين،
ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها،
ويقول: إنه سمع صوتًا، ولو لم يسمع صوتًا، وشاهد ملكًا، ولو لم يشاهد ملكًا،
إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من
الدعوة لنقول: إنه كذب على الناس؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا، فكل أحد يعلم
أنه لم يكن ينشد ملكًا، ولا مالاً، ولا ثروة، ولا جاهًا. فلأي شيء يقوم بدعاية
غير صحيحة، ويضع أشياء من عند نفسه، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية، ثم
البغضاء والشنآن، ثم الاضطهاد والانتقام، ويتعرض لخطر القتل، وهو لا يريد
رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة
هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد
مبدع هذا الكون لا إله إلا هو.
قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم،
ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى، وكان من
مزاياه أنه لا يقول الشعر، ولا يخطب في الأندية، ولا يتصدى لشيء من مظاهر
الرياسة ولا الشهرة، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى
التوحيد وإلى مكارم الأخلاق، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا، ويتجشم من العذاب ما
يتجشم، ويتعرض لآلام أمر من العلقم، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له
على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها.
يقول السيد رشيد: إنه من المقرر عند علماء النفس، وعلماء الاجتماع أن من
بلغ سن الخامسة والثلاثين، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد
ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا (بضمتين) أي: جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع
بينهما، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد
العرب مثله وذلك بعد الأربعين، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء، ولا
وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل.
قلت: وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو
لم يتعمد الكذب تعمدًا، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات، ويرى
تلك الخيالات، فيظن ما سمعه وحيًا، وما رآه ملكًا، والجواب على ذلك أن هذا
الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على
نفسه، وطالما خاف [١] أن يكون به جنون، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه
لم يتعمد النبوة تعمدًا، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء، وأنه قد فاجأه الوحي
مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية
كما يقول السيد رشيد، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية
والمدنية والاجتماعية، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ.
ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد [٢] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه
الناس له، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة، وتكلم بعد البعثة، ولا شك أنه
كان من أفصح البشر وأبلغهم، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول؛ ولكنه
لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد، فلا كلامه الخاص
ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل، وكل من تأمل في
القرآن العظيم، وكان بصيرًا بالبلاغة، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير.
لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه، وشدة تأثيره علوًّا
كبيرًا عن جميع كلام العالمين، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا؟
فقول بعض الناس: إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه
يوحى إليه. ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام
الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها
ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام
إنسان واحد.
ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا
عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي، وكونه قولاً ثقيلاً؟ ولماذا يأبون
إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من
أمراض الجسم، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل؟ فأي استحالة في كون
بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة
عصبية يضطرب لها، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام،
وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء
الصرع، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات، والحال أن النبي عليه
السلام كان سليم الجسم، ولم يكن مريضًا، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من
أعدائه، ولا من أصحابه: إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن،
والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل، وإنما هي افتراضات مبنية على
غير أساس، وتخرصات بغير الواقع، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من
الأوربيين، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند
نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي، لم تكن لتحدث لولا ذلك، ولكن
محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا؛ إذ قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق
الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد
كان موزونًا لا شائبة فيه، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له
مجال إلا التعنت.
وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال: إن أعداء الرسول من الإفرنج
وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية،
وتشنجات هيستيرية، وما أبعد الفرق بين حالته تلك، وحالة أولي الأمراض
العصبية في المزاج، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً، ولعله إلى
الدموي العضلي أقرب، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف
والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت، وأما صاحب تلك الحالة
الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من
القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي ... إلخ.
قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد
اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء
النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا، وإنه إنما
أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق، فهذا أمر
قد اتفقوا عليه تقريبًا؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه،
ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن،
وأنها حالة لم يكن يتعمدها، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ
بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية، وذهب آخرون أنه من قبيل
الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد، وعلى كل حال قد اجتاز
الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد، فقد لبثوا طوال
القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا، فرجعوا الآن
عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا، وإن هذا القرآن كان
ينزل عليه، وكان يعتقد هو أنه من عند الله، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه، ولكن
هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم، أو التخيل بقول الآخرين، فادِّعاء الكذب
على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية، وقد اجتيزت المرحلة الأولى
فبقيت المرحلة الثانية، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له
الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى، لا بمجرد التخيل ولا
من قبل المرض، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب
عليهم الاعتقاد بالغيب، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس؛ ولكنهم لو تأملوا
لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً، إلا
وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة
خارقة للعادة، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات
الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية، ويلجئهم الأمر في
أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس.
إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام
قد أتى عصره على قَدَر؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي
هي معدودة إلى اليوم من البديهيات، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا، ونازلاً، ولا
مناص لنا من هذا الاقتداء، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية
اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض
لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام، إلا وقد
أشار إليه.
نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل، ربما كان أدل على إعجاز القرآن
وعلى صحة الوحي به، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات، وهذا هو
ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين
في هذا العصر من جهة التحولات الكونية، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام
فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم، ولا
معارف، ولا جامعات، ولا مدارس، وكذلك لم يكن في المدينة، وإن قلنا: إنه كانت
علوم، ومعارف، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية، وذلك في غير جزيرة العرب
كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك
المحيط العلمي كله، لا صلة له به، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر
لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً، الذي يقتضي أن تكون
الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا، ثم تتجمد كتلة واحدة، ثم ينفصل بعضها
عن بعض أجرامًا متفرقة، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: ٣٠) فلو لم يكن القرآن وحيًا، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة
علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء، قيل: إنه
قال به بعض فلاسفة اليونان، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم، وكذلك
كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية، الحيوان، والنبات، والجماد، لم
يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة
الحيوانية، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية، والحال أن القرآن جعل
هذا المبدأ عامًّا {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: ٤٩) وغير ذلك من
الآيات التي جاء فيها مثل {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: ٥) ، و {مِن كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: ٧) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية، فقد كان الفلكيون
في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم
الهيئة الجديد، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: ٤٠) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد
مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر، وفسره تفسيرًا علميًّا، أثبت ما فيه من
المطابقة للنظريات العلمية الحديثة، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة
والرياضيات والطبيعيات، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم، ولقد
أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع
شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى (سرائر القرآن) ؛ لأن
الذي يؤثر في عقول الأوربيين، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة
القرآن للنظريات العلمية الحديثة، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية
والاجتماعية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان

(المنار)
كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر
وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا: إنه قد فاتنا - لم يفتنا؛
فإننا قد أشرنا إليه في مواضع، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من
خاتمة الكتاب، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها، لما في القرآن من المسائل
العلمية التي في القرآن وزيادة عليها، وقد وعدنا في هذه الخاتمة، كما وعدنا في
تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء
الثاني منه، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية، والأخبار الغيبية، والوصايا
الصحية.
وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه
سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب (حاضر العالم
الإسلامي) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج
إلى الإسلام.
وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب
أو كونه غير موجه إليهم؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام؛ ولكن
السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية، أو دعاة التنصير:
لأنهم أسرى التقليد، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن، والنبوة
في مقدمة التصدير لهذه الطبعة.
وقد وصل هذا التقريظ إلينا في ٢ من ذي الحجة سنة ١٣٥٢ بعد طبع ما
اخترناه من التقاريظ، فجعلناه مسك الختام.
((يتبع بمقال تالٍ))