للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نتيجة حرب الجزيرة
وما تجب مراعاته في الصلح

لقد تجلت نتيجة الحرب بسرعة لم يكن أحد ينتظرها، على اختلاف الآراء
فيها فقد انهزمت الجيوش اليمانية أمام الجيش النجدي السعودي في كل من الميدانين
الذي يقوده فيهما نجلا الملك: الأمير سعود ولي العهد في جهة نجران التي احتلها
كلها، والأمير فيصل في تهامة فاحتل الحُدَيْدَة وما حولها، ودان له بقية أهلها،
وأمسى الأميران يهددان عاصمة اليمن (صنعاء) من طرفيها.
ثبت عندنا في هذه الحرب أمور متعارضة، أظهرها أن ضلع الرأي العام
الإسلامي العام مع الملك السعودي، وأنه لم تبث له دعاية رسمية، ولا غير رسمية
لا بتكبير قوته، ولا بإطراء فوزه، ولا بالدفاع عنه؛ ولكن أحد محرري الصحف
زعم أن حكومته هي التي أتقنت هذه الدعاية بجميع وسائلها دون خصمه، وما زال
يكرر هذا حتى صدقه غيره وهو لم يصدق نفسه، وصار من القضايا المسلمات.
وأما الإمام يحيى فقد بثت له دعاية واسعة بدون سعيه، منها أن قوته الحربية
أعظم عددًا وعدة، وبأسًا ونظامًا، وقوادًا ومالاً، وأن قبائل الحجاز وقبائل شمر في
نجد والعراق وقبائل شرق الأردن ستثور على خصمه الملك ابن سعود بله قبائل
عسير الثائرة بالفعل، حتى إذا ما دارت المعارك، وانهزم الجيش اليماني في كل
ميدان صاروا يكذبون أنباءها، ويعدونها من الدعاية التي صارت مسلمة عندهم
وعند غيرهم، وما زالوا بالإمام على جلالة قدره حتى أنزلوه إلى ميدان تكذيب
الحسيات المجمع عليها، وأخيرًا فسروها بما فسرها هو به، وهو حب السلم
وكراهة الحرب، فإذا سلمنا هذا وجب أن يبنى عليه الصلح الدائم، فتجعل قوة
الدفاع عن الجزيرة إلى المملكة السعودية القوية الحربية، فهل يقبل الاعتراف بهذه
النتيجة لتلك المقدمات المنطقية؟
حقًّا إن الإمام يحيى قد جنح للسلم، وإنه قد آن له أن يقبل ما طالما دعي إليه
من إبرام العهد، وإن أدنى الدرجات لذلك ألا يعقد الصلح على دخن، ولا تتخذ
المعاهدة دخلاً بين الفريقين، فتكون هدنة يستعد بها كل منهما لإعادة الكرة والأخذ
بالثأر، في وقت ربما تكون الحرب وبالاً عليهما وعلى الأمة كلها، بل يجب
استئصال جذور العداوة من أعماقها، ويجب أن يتدبر وفد الصلح الآيات الآتية،
ويقيموا بناء الصلح وحصن المعاهدة على أساسها.
وهي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى
مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا
صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: ٩١-٩٤)
بل أصرح بأن شر ما تنتهي به هذه الحرب أن يكون كل من الفريقين كفؤًا
للآخر، قادرًا على استئنافها عند سنوح الفرصة، ففي هذه الحالة تجعل الدسائس
الأجنبية كلاًّ منهما خصمًا للآخر تهدده بإمداده وتأليبه بالمساعدة عليه عند الحاجة،
وإن من شرار المسلمين لَمَنْ هم شر من الأجانب، وقد كان كل البلاء في هذه الفتنة
منهم، فكل من أظهر الميل والانتصار للإمام يحيى فيها سرًّا أو جهرًا كان شرًّا له
من كل من ظن أنهم عدو له، ولم يكن أحد منهم مخلصًا له، وإنما كانوا يتبعون
أهواءهم.
وأما الدرجة العليا للملة الإسلامية والأمة العربية، فهي أن تكون لجزيرة
العرب حكومة واحدة، بل للأمة العربية كلها إذا أمكن، فهذه سياسة الشرع
ومقتضى العقل وتجارب الأمم، فإن لم يمكن خضوعها أو إخضاعها لحكومة واحدة
من غير فتنة ترجح فيها المفسدة على المصلحة، فالواجب أن يكون التعدد في
الصورة والشكل مع الوحدة في السياسة والقصد، كالمعروف في الوحدات الغربية
كلها، وسويسرة والولايات المتحدة في شمال أمريكة.
وأما اختلاف الحكومات في تكافؤ القوى، ومحاولة منع العدوان بينها
بالتوازن، فهو مثار كل شقاق وشقاء كما نراه في دول أوربة، فعسى أن يوفق وفد
الصلح بين الإمامين لسد ذرائع الفساد، وإحكام بناء الصلاح والاتحاد، هداهم الله
سبيل الرشاد.