للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الله بن علي بن يابس


تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده

(لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء
وغيرهم، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ
الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار
المصرية، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك، ومنهم إمام اليمن وإمام
عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ
صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب
الثانية؛ فسررنا به، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه، وهذا نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي
ألفتموه فألفيته أولاً في بابه، بديعًا في خطابه، أبان بأن الدين ضرورة لازمة،
وحجة قائمة، أقام الحجة على صحة الإسلام، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة.
بأوضح برهان وأجلى تبيان، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية، والتشكيكات.
الإلحادية، والمغالطات الإيهامية، التي أرصدها دعاة الفتنة، وأعدها رؤوس
الضلالة حرابًا للدين، وغوثًا للشياطين، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم، وأسرار
التشريع ما سطر التنزيل بيانه، وأجمل تبيانه، ومع ذلك فهو سهل المتناول، قريب
إلى الفهم، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله.
وبما أن مسائل العلم معترك العلماء، ومجال الأذكياء، وساحة الميدان،
وحلبة الرهان، والجواد قد يكبو، والسيف قد ينبو، والخطأ لم يعصم منه إلا
الشارع، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ فإن لي في كتابكم
ملاحظات سأبديها، ومواضع سأتكلم فيها، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه،
ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم
لمنازلة الانتقاد، وتواضعتم لهذا المراد، وتلك خلة العلماء السابقين، وطريقة القادة
المهديين.
(١) قلتم في صفحة ١٦٣: قد شرع الله لإبطال الرق طريقين: عدم تجديد
الاسترقاق في المستقبل. وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة
والإجماع، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة
الاسترقاق، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء
قد أبطل أساسه، وحرم تجديد أصله، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة،
وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة،
فهل تقولون: إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح؛ لأن تجديد الرق قد مُنع؟ فإن قلتم بهذا فما
رأيكم في الدليل الثاني، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل، وجوَّز
بالقول والتقرير، وما أرى أنكم تنكرون هذا؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق
من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم.
وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على
شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون،
بل آلاف من الرقيق، وكان عثمان بن عفان والعباس من أكثرهم رقيقًا، ولعمر
رقيق، ولأبي بكر رقيق، وهذا ما لا ينكره أحد، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام
الساعة والكفار موجودين في كل زمن، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا
عليه بطريق الحرب.
(٢) قلتم في صفحة ١٤٩ على قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) : إن حروب النبي
للكفار كانت كلها دفاعًا، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز
إلا إذا قاتلونا، والكلام عليه من وجوه:
(أولاً) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم
اعتداءً؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو
إدخال الإصلاح عليهم، وحملهم على الطريق القويم، وإنقاذهم من نار الجحيم.
(ثانيًا) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف؛ فكيف
إذا عارض منطوقًا صريحًا؟
(ثالثًا) : إن الآية {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: ١٩٣) ، وآية {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: ٥) ،
والآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: ٢٩) وما
يشابههن، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن
لم يقاتل.
(رابعًا) إن آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: ١٩٠) ، {وَجَاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ} (المائدة: ٣٥) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع
عن النفس فحسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: الرجل يقاتل
شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله
القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له.
(خامسًا) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم
إلا سماع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار.
(سادسًا) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل
من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من
أئمة المسلمين، قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس،
وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل.
(سابعًا) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم: اغزوا في سبيل
الله، قاتلوا من كفر بالله، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال.
وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع
من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم، وآية الجزية مبينة للإكراه، وأما تعليل
الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها، وأما {َ وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: ٤٥) وما في معناها، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن
المدنيات.
(٣) قلتم في صفحة ١٦٢: على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط
جعل عصمتها بيدها؛ فتطلق نفسها إذا شاءت. قول الشريعة هي الكتاب والسنة
والإجماع، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين، والمنار معروف أنه
يدلل على ما يذهب إليه، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة، وأنا لا أعتقد أنكم
تقلدونه، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق
تزوج بامرأة في المغرب؛ فولدت أن الولد يلحق به، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما.
فهل تقولون: إن الشرع ألحق الولد به. وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في
الوحي المحمدي، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث، فإن لم يكن
إلا في رأي أبي حنيفة، فهو شرط ليس في كتاب الله، ومن اشترط شرطًا ليس في
كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وهو قول ليس عليه أمر الشارع، ومن
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا
ولاية على أمر الرجل (ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط
الأسر وتفريق الجماعات، وهي التي تغضب للكلمة، وتطيش للصدة، وتتميز
للإعراضة.
(٤) قلتم في صفحة ١٨٧: فكلام الله عندنا شأن من شؤونه، وصفة من
صفات كماله كعلمه، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء
ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء. هذا التعريف لا
يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك، والسفيانين، وأحمد، وإسحاق،
ويحيى بن معين، والبخاري ولا كالزهري، وأيوب، وابن سيرين ولا عن
أحد من الصحابة، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس، وما رأيكم لو كشف
الله لعبد بإزالة الحجب، فهل يقال: إنه كلمه؛ فإن تعريفكم صادق على هذا؟ وهلا
يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب؟ وهل
تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب، أو لما هو أعم؟ وهل أنتم تعتقدون
أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه؟
(٥) وقلتم في صفحة ٨: وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد؟ فهل عندكم
خبر صحيح يعين ليلة المولد، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف،
وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، ولا أظن
أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل، على أني اختصرت خوف
الإطالة والملل، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل، والله يوفقنا جميعًا إلى
سبيل الرشاد.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن علي بن يابس
((يتبع بمقال تالٍ))