للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وفد الصلح والسلام

إننا وقد وَفَّيْنَا حادث الحرب والسلم في جزيرة العرب حقه، وبيَّنا ما لنا فيه
من موعظة وعبرة، وشكرنا لكل من الإمامين عبد العزيز ويحيى فضله، فلا يفوتنا
أن نختم حديثه بشكر وفد السلام، وجهاده في سبيل الله بخدمة العرب والإسلام،
فهو الذي انْتُدِب لهذه الخدمة بالفعل من غير دعوى ولا إعلان في الصحف، ولا
تبجح بنشر المقالات وإلقاء الخطب، ولا دعوة إلى جمع المال كما فعل الذين
يقولون ما لا يفعلون، ويُسِرُّون غير ما يعلنون، بل قال وفعل، وجاهد بماله
ونفسه ولم يطلب مساعدة أحد.
أول من دعا إلى هذا زعيم فلسطين الأكبر ومفتيها ورئيس مجلسها الإسلامي
الأعلى، ومؤسس المؤتمر الإسلامي العام فيها: السيد محمد أمين الحسيني، دعا
نفرًا من أشهر رجالات الأقطار العربية الإسلامية ذات الجوار والصلة بجزيرة
العرب: سورية، والعراق، ومصر، فاستجاب له من سورية زعيمها السياسي
الأكبر هاشم بك الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية الممثلة لسورية كلها، واعتذر زعيم
العراق الأكبر ياسين باشا الهاشمي بمرض عرض له.
واستجاب له من مصر محمد علي باشا علوبة من وزرائها ونوابها السابقين،
ووكيل المؤتمر الإسلامي العام، وهو الذي سبق جميع الزعماء المصريين إلى
العناية بأمر المؤتمر الإسلامي، وسافر مع رئيسه إلى الأقطار الإسلامية لجمع
الإعانات له، وعني بخدمة المسألة العربية العامة عناية خاصة.
واستجاب له من أوربة أكبر كتاب الأمة العربية، وأمير البيان فيها، الداعي
إلى وحدتها، المحامي عن حقيقتها، المدافع عن ملتها، ورئيس الوفد السوري
الفلسطيني في جنيف مثابة سياسة الأمم كلها، الأمير شكيب أرسلان، ووافى
إخوانه الثلاثة طائرًا من أوربة إلى مصر، على ما في طيرانه من زيادة النفقة في
هذه العسرة المرهقة، وعلى ما قاساه من عنت الحكومة المصرية وإرهاقها إياه
العسر السياسي، الذي هو أشد على الأحرار من العسر المالي، في مروره بأرضها
من الإسكندرية إلى السويس، وقد رأيت هذا العنت بعيني، وذقت مرارته بنفسي،
إذ سافرت من القاهرة إلى بنها للقائه والذهاب معه إلى السويس، فلم يأذن لنا
الجلاوزة المسيطرون عليه من قبل حكومتنا المصرية - وهم من الإنكليز - بسلام
ولا كلام، ثم كان المصريون منهم أشد من هؤلاء الإنكليز وطأة في القطار بعد
القطار، ثم في السويس، ولم نر أحدًا فهم لهذا العنت معنى.
ركبت أنا ومحمد علي باشا علوبة في قطار بورسعيد والسويس الذي يخرج
من محطة مصر في نهاية الساعة السادسة مساء، وهو يلتقي في محطة بنها بالقطار
الجائي من الإسكندرية إلى مصر، وهنالك نزل الأمير شكيب من قطار الإسكندرية
وركب هو والجلاوزة المحافظون عليه في قطارنا، وأدخلوه في المخدع المجاور لنا،
وأردت أن أسلم عليه وهو يعلم أنه ممنوع من السلام علي وعلى غيري فحالوا بيننا.
ولما نزلنا في الإسماعيلية، ونزل فيها السيد أمين الحسيني وهاشم بك الأتاسي
القادمين من فلسطين، وانتقلنا جميعًا إلى القطار الذي يحملنا إلى السويس فرَّق
جلاوزة الأمن المصريون بين الأمير شكيب والجائين من فلسطين والجائين من
مصر جميعًا، فلم يسمحوا لأحد منهم في المحطة ولا في القطار أن يكلم الفريق
الآخر، ولا أن يسلم عليه، فكان هذا الحجر أبعد عن العقل والفهم والشرع والعرف
والقوانين من كل ما سبقه، إلا ما يكون من الحجر الصحي في أوقات الأوبئة،
والعسكري في وقت الحرب؛ وإنما يكون الأول لوقاية الأصحاء من المصابين
بالوباء، والثاني لحماية الوطن وأهله من فتك الأعداء، وكلنا أصحاء أصدقاء ولله
الحمد، جنسنا واحد، وديننا واحد وحكومتنا المصرية، موادة لحكومتي فلسطين
وسورية، والدولتين المسيطرتين عليهما، ولأجلهما تحجر على الأمير شكيب
وتُعَنِّته، ولا نعرف لنا وللآخرين ذنبًا.
بيد أننا لما وصلنا إلى السويس نزلنا كلنا في فندق واحد، فارتفع الحَجْر عن
كل منا إلا الأمير شكيب؛ فإن الحكومة أمرت بنقله إلى فندق آخر، حالت فيه بينه
وبين كل أحد منا ومن غيرنا، إلا السيد محمد أمين الحسيني فقد أذنوا له أن يكلمه
في مسألة السفر بأول باخرة أو بطيارة، ولما اجتمعا اتفقا على الإلحاح علي بالسفر
مع الوفد، فأدليت بما لدي من الموانع المالية وغيرها فقبلوا عذري، وكاشفتهم بما
عندي من رأي ورواية في موضوع الحرب والصلح، وحملتهم كتبًا إلى جلالة ملك
العرب السعودي وبعض رجال بطانته أظهرت فيه ما بيني وبينهم من التكافل والثقة
بهم، وعذري في التخلف عنهم، وكان في ٢٧ ذي الحجة سنة ١٣٥٢.
سافروا باسم الله إلى الحجاز فكان لهم عند جلالة الملك ما يليق بمكانتهم
الشخصية والقومية، وبسفارة وفدهم الإسلامية العربية، من حسن الضيافة وكرم
الوفادة، وقلما اجتمع في مجلسه وفد كوفدهم في سعة معارفهم، ودقة خبرتهم،
وصفاء نيتهم، واتفاق رأيهم، وحسن بيانهم، فبسطوا له خلاصة ما يعلمونه من
آراء العالم الإسلامي والشعور العربية في بلادهم وغيرها في مسألة الجزيرة العربية
المقدسة، وما يخشونه من المطامع الأجنبية، وما وقفوا عليه في بيئاتهم الأربع من
دسائسها ومطامعها، وطالت المحاورات والمسامرات بينه وبينهم فيها، فَسُرَّ بما
وقف عليه من معارفهم، وحسن بيانهم وشدة غيرتهم، وأعجبوا بما وقفوا عليه من
استقلال عقله، وبعد رأيه، وحسن نيته، وكمال صراحته، وحزمه وشجاعته،
وعدم مبالاته بدسائس المفسدين، وسعاية المفسدين المحالين.
وكان من توفيق الله أن نجحت المفاوضات البرقية بين جلالته وجلالة الإمام
يحيى حميد الدين بما يوافق رأيهم، فقبل الثاني ما اقترحه الأول لإعلان الهدنة
ووقف رحى الحرب، ووضع معاهدة الصلح، وتلاه إرسال مندوبه الزعيم الكبير،
والسياسي النحرير، الأستاذ العلامة السيد عبد الله بن الوزير، مفوضًا من مقام
الإمامة المتوكلية بذلك، فوجد الوفد الإسلامي من معارف سيادته، ودقة سياسته،
وصفاء طويته، وصدق صراحته، ما كان موضع العجب والإعجاب، والثقة بما
يرجون ويرجو العالم الإسلامي والعربي من الاتفاق والاتحاد.
ولما وُضعت المعاهدة الإسلامية العربية العظيمة الشأن بالاتفاق السري العلني
من الجانبين، التي كانت موضع إعجاب أهل الخافقين، وحضر أعضاء الوفد
توقيعها في الحجاز، ودعوا جلالة الملك الإمام عبد العزيز، وسافروا مع مندوب
جلالة الملك الإمام يحيى حميد الدين إلى صنعاء اليمن ليشهدوا توقيعها في صنعاء
ثم يحضروا مبادئ تنفيذها، وقد اعتذر محمد علي علوبة باشا العضو المصري عن
السفر مع إخوانه إلى اليمن لكثرة ما ينتظره من الشواغل في مصر، وقد تم الصلح
ولله الحمد، وحَمَّلَهم كتابًا إلى جلالة الإمام يعتذر به عما كان يرجوه من الشرف
بالمثول في حضرته.
سافر الوفد من جدة إلى الحُدَيْدَة فاستقبلهما فيها صاحب السمو الملكي الأمير
فيصل السعودي بالحفاوة والتكريم، وكان أبهج ما سرهم فيها ما رأوه من حسن
التلاقي بين سموه وسيادة عبد الله بن الوزير، فقد كان كتلاقي أخوين شقيقين طال
عليهما البعاد، فطفقا يُطْفِئان لوعته بالتقبيل والعناق، ثم ما رأوه من جيوش كل من
الإمامين على الحدود من منطقة تهامة المحتلة من قبل الدولة السعودية، ومنطقة
الجبال التي ترابط بها الجيوش المتوكلية، وكيف كان تلاقي جماعتهما تلاقي
الإخوان، ثم ما هو أعلى من ذلك وهو لقاء جلالة الإمام الهمام، وحفاوته بضيوفه
الكرام، وما سمعوه بآذانهم من ثنائه على أخيه الإمام الملك عبد العزيز كما كان هذا
يثني عليه، ويشهد كل منهم للآخر بحسن النية، ثم ما شاهدوه في الحُدَيْدَة من تنفيذ
المعاهدة بجلاء الجيوش السعودية عنها، وتبادل تسليم الرايات وتسلمها فيها بما
عليه اتفقا من التكريم العظيم العسكري والود الأخوي.
ثم سافروا من الحُدَيْدَة إلى مصوع وسافر منها إلى السويس السيد أمين
الحسيني، وهاشم بك الأتاسي فوصلا إليها في السابع من هذا الشهر الميمون
(ربيع الأول) واستقبلناهما فيها مع جماهير المستقبلين مهنئين داعين، وتخلف
الأمير شكيب ليسافر منها إلى أوربة.
كنا قد وقفنا على أطوار الحرب والصلح من أنبائها الرسمية وغير الرسمية،
العامة منها والخاصة بنا، وبقي علينا أن نعلم من الوفد ما كان للصلح والمعاهدة من
التأثير النفسي في قلوب الفريقين، مما لا يُعْلَم إلا من رؤية الوجوه المستبشرة أو
الباسرة، ومن سماع جرس الأصوات في الحديث والتفرقة بين نغماتها السارة
والقارة والحارة، ولا يعلم هذا وذاك إلا ممن رأى بعينيه، وسمع بأذنيه، وشعر
بقلبه، وأخبرنا بما روينا عنه.
هذا وإنه قد بلغنا قبل إصدار هذا الجزء أن جلالة الملك عبد العزيز، وجلالة
الإمام يحيى قد أبرقا إلى جلالة ملك الإنكليز يرجوانه بأن يوصي حكومته بالإذن
للأمير شكيب بدخول فلسطين للقاء والدته الجليلة فيها؛ إذ طالت غيبته عنها،
فتقبل شفاعتهما فيه، وأبرق إليه المندوب السامي من فلسطين بالإذن له بذلك فنهنئه
ونهنئ السيدة الفاضلة بهذا اللقاء الميمون، فبارك الله لهما وعليهما.
((يتبع بمقال تالٍ))