للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحمد زكي باشا شيخ العروبة
رحمه الله تعالى

في يوم الجمعة لثلاث خلون من هذا الشهر (ربيع الأول) لبى دعوة ربه
صديقنا (أحمد زكي باشا) الكاتب المؤرخ المصنف الخطيب الأديب الطائر
الصيت، في إثر (ضربة هواء) كما يقول العوام أحدثت التهابًا شديدًا في رئته
أعيا علاجه أصدقاءه من نطس الأطباء، لم تمهله إلا أسبوعًا أو بعض أسبوع،
اختطفته المنية من حجر أمه مصر وهو ابنها البار، ومن ميدان أمته العربية وهو
فارسها المغوار، وشيخ العروبة الذي فاق في شيخوخته وناصع شيبته جميع الشبان
قوة وفتوة، ونضارة وبهجة، وهمة وسعيًا وحركة، وأملاً في طول الحياة، فلو
كانت الأعمار بقوة البنية وشدة العضل ومرونة العصب ويسر المعيشة وقلة الهموم
وكثرة السرور، لكان أحمد زكي باشا جديرًا بأن يبقى بعد المعمر التركي زارو أغا
الذي توفي بعده في هذا الشهر عن ١٣٥ سنة، حتى يبلغ سنه أو يزيد عليها، وما
أراه زاد على نصفها إلا قليلاً، ولعله لم يفته من أسبابها إلا عيشة القصد والاعتدال،
فقد كان في بلهنية من الترف دان له بها الأهيفان، وسبحان مقدر الآجال.
نَعَتْهُ الصحف التي كان يشغل أكثر المشهور منها بمقالاته ومناظراته التاريخية
والجغرافية والأدبية، فراع نعيه الفجائي العلماء العصريين من الشرقيين والغربيين
واختلفوا أفرادًا وجماعات على منزله (دار العروبة) في جيزة الفسطاط للتعزية
عنه، كما كانوا يختلفون إليها آنًا بعد آن لحضور المآدب والاحتفالات التي يدعوهم
إليها لتكريم من يفد على القاهرة من العلماء والأدباء والزعماء الشرقيين والغربيين.
وشُيعت جنازته منها، يحف بها الجم الغفير منهم، وقد أممت المصلين عليها
في أحد مساجد الجيزة فكان هذا آخر العهد بمودتنا الطويلة التي لم تشبها شائبة جفوة،
ولا فترة اختلاف ولا فرقة، ثم حُمِلَتْ إلى القبر المعد لها تحت منارة مسجده الفني
الصغير الذي بناؤه كان شغله الشاغل في سنيه الأخيرة، وأَبَّنَهُ هنالك المؤبنون،
وانصرفوا بعد دفنه فيه مسترجعين مسترحمين.
ومما انفرد به أنه كان كلف الفقيد رحمه الله الشيخ عبد الله الشيبي بمكة المكرمة
أن يأتيه بكناسة غار حراء سرًّا ففعل، فجاء بها ووضعها في القبر الذي أعده لنفسه
ولزوجه في هذا المسجد، وهو بدعة تدل على إيمان كإيمان العجائز، وتعارض ما
كان من فلتات اللسان في دعابته تسيء ظن بعض سامعيها في عقيدته، ويروي
بعضهم عنه ما يدل على تأوله فيه، والدعابة في الحوار كالنكتة في الشعر، لا
تترك، لا تصدر عن إيمان، ولا عن كفر.
رأيت أحمد زكي بك أول مرة في مكتب إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية
رحمه الله، وكان ذلك في سنة ١٣١٦ ثم قوي التعارف بيننا، وكنا نجتمع في أكثر
ليالي رمضان مع طائفة من الأدباء والمحبين للمباحث الدينية، والتوفيق بينها وبين
المعقولات والمعارف العصرية، منهم أحمد زكي بك مدير الأموال المقررة،
وعبد الله بك فائق (باشا بعد) ، ومحمود بك أنيس رحمهم الله وآخرون لم يبق أحد
منهم حيًّا إلا حمزة بك فهمي، وكان من رجال القصر الخديوي، وكانت تلك
المباحث جل ما يدور في سمرنا، وأكثر ما تبدأ به مشكلات تلقى على صاحب
المنار يُطلب منه حلها.
من أجل هذا استفتاني فقيدنا اليوم في عشرة أسئلة ألقاها عليه بعض علماء
الحقوق والشرائع في باريس في صيف ١٩٠٤ ليترجمها لهم بلغتهم الفرنسية
(ليعلموا أن في السويداء رجالاً , وأن الشرق لا يزال عامرًا بأصحاب العقول
الكبار) ، وموضوع هذه المسائل الاجتهاد، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند
أهل التحقيق، ومعنى القانون بوجه التدقيق العلمي، والفرق بينه وبين الشرع
وسلطة الحاكم وحدودها ... إلخ.
وقد نشرت كتابه ومسائله مع أجوبتها في المجلد السابع من المنار في جمادى
الأولى سنة ١٣٢٢ ويوليو سنة ١٩٠٤، واستمرت المودة بيننا؛ ولكنه لم ينشر
شيئًا من مباحثه في المنار، وكان يعلل ذلك أو يعتذر عنه باستغناء المنار عنها.
كان المرحوم أحمد زكي منذ نشأته الأولى من عشاق العلم، وهذا العشق هو
الذي كان يحمله على إنفاق كل ما زاد عن حاجته من المال في اقتناء الكتب النفيسة
ولا سيما الخطية النادرة، وقد جمع خزانة منها ذات قيمة كبيرة وقفها على طلاب
العلوم وأمرها مشهور.
وعني في السنين الأخيرة من عمره بالسياسة العربية، ولقب نفسه بشيخ
العروبة فاشتهر به، بعد أن كنت أسميه في السنين الأولى: حلقة الاتصال بين
الشرق والغرب، وهو فلسطيني الأصل، وأول من جاء مصر جده الأدنى كما
صرح بذلك لبعض الأدباء السوريين، ويقل من يعلم هذا، فنسأل الله تعالى أن
يتغمدنا وإياه برحمته، ويعفو عنا وعنه.