للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان


تفسير المنار لعلامة الدهر ومصلح العصر
بقلم الأستاذ الكاتب المستقل، والباحث المستدل
الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

يرحم الله مفسري القرآن السابقين من أئمة المسلمين، فقد بذلوا ما استطاعوه
من قوة لتبيان معاني كلام الله للناس، ووقفوا أنفسهم وحبسوها على إظهار ما فيه
من لغة وبيان، وفصاحة وبلاغة، وأدب واجتماع، وتاريخ وحكمة وسياسة
فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ووفاهم الله أجرهم موفورًا، وجعل عملهم الخالص
مشهورًا مذكورًا.
ولكن القرآن هو كتاب الزمان كله، ودستور الحياة إلى يوم القيامة، تنجلى
معانيه بتقدم العلم وبلوغه أشده، وتظهر أسراره بالاختراعات والاستكشافات،
وسلامة الفطر والعقول من الترهات والخرافات، وتشرق حقائقه بزوال العوائق
المغشية الأبصار والبصائر، والتفاسير السابقة فيها أخبار من التاريخ؛ ولكنها غير
ممحصة؛ لانعدام وسائل التحقيق والتمحيص، وفيها طرف من العلوم المختلفة؛
ولكنها محشوة بالغلط والشطط؛ لتعسر طرائق التصحيح والتدقيق، وفيها ذكر للتوراة
والإنجيل؛ ولكنه مبني على فهم غير واقع [١] وعلى ظَنٍّ تبين الآن أنه غير نافع،
وفيها فقه ولكنه مذهبي، وتوحيد ولكنه كلامي، واستطراد فلسفي، واستقراء غير
جلي.
وبهذا صار القرآن في حاجة إلى أن يُفَسَّر من جديد، وصارت التفاسير الأولى
معرضة للنقد السديد، فألف الآلوسي تفسيره؛ ولكنه جعله جامعًا لأقوال من سبق
مع تعليقات يسيرة، وتحقيقات غير وفيرة، وألقى الأستاذ طنطاوي جوهري دلوه
في الدِلاء، ولكنه صير تفسيره نباتيًّا طبيعيًا وجاء فيه برسوم [*] على الكونيات
وأحوال النجوم والنيرات والصخور والجلاميد والمعادن المدفونات، وجلاه برسوم
وصور لا تتسق مع جلال الذكر الحكيم ومكانة القرآن الكريم، ومع ذلك فهو مستحق
للشكران، قمين بأن ينشر ذكره في كل مكان؛ إذ حاول جهده أن يبرهن على عناية
القرآن بالعلوم الطبيعية والكيميائية والزراعية والصناعية وما إليها، ووُفق في كثير
مما أراد جزاه الله خيرًا.
وقد انتظرنا أن يوفق الله رجلاً إلى تفسير القرآن الكريم بشرط المحافظة على
جلاله وكماله والسمو به عما لا يليق بمكانته العليا، وإحاطته بسياج من الحرص
والأمانة يمنع الخطأ والإسرائيليات والأخبار الداحضة أن تتسرب إليه، ويحميه من
التعصب المذهبي، والتكلف الكلامي، وتحميل الآيات الكريمة ما لا يوافقها من
المعاني الرأيية، والتوضيحات النفسية.
وقد أراد الله أن يظهر هذا التفسير على يد السيد الكريم، والمجاهد العظيم،
والمصلح الشهير، والمسلم الكبير، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الأغر، وخليفة الأستاذ الإمام الأبر، وقد صدر من هذا التفسير أحد عشر جزءًا
ضخامًا، تقر بها عين كل مسلم، وينشرح لها صدر كل مؤمن، جاءت عند ما أملنا،
وفوق ما قصدنا، وأبانت عن أن الإسلام هو الدين الخالد، والواجب أن يعنو له
البشر طائعين، فرحين مستبشرين؛ إذ هو الذي يحل مشاكل العصر، ويُزيل ما
تعانيه الإنسانية المعذبة من الضيق والعسر، ويعالج الأدواء التي تشكو منها الأمم،
ويعيد للمسلمين ما فقدوه من العزة والسلطان وعلو الهمم.
وقد قرأنا هذه الأجزاء الأحد عشر كالكواكب، فشكرنا الله كثيرًا وانزاحت عن
نفوسنا غمم كنا نشعر بثقلها، وقلنا: قد آن للمسلمين أن يُسَرُّوا ويفرحوا، فقد أنعم
الله عليهم بتفسير طالما كانوا يتمنونه، وكثيرًا ما رأوه حلمًا بعيد المنال؛ ولكنه
الآن تحقق على أحسن مثال.
جمع هذا التفسير القيم محاسن التفاسير السالفة، ونجا من مزالقها، وخلص
من مشاكيها، وضم بين دفتيه أحسن التحقيقات، وأتم البيانات، وأوضح لمن له
عينان أن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي لا غنى للأمم عنه، ولا حياة لها بدونه،
ولا مفر لها من اتباعه، والاستفادة من هدايته، مذعنة مؤمنة، أو مسوقة بحاجتها
التي تلح عليها، فلا تجد لها ملجأ إلا إياه، ولا معاذًا سواه.
يقرأ المسلم هذا التفسير فيشرق في نفسه نور المعرفة، وتضيء روحه
بشمس التثبت واليقين، ويعود شخصًا مليئًا بالأمل الواسع، مغمورًا بالفرح الجامع،
شاكرًا لربه أن جعله مسلمًا مؤمنًا من خير أمة أخرجت للناس، ويقرؤه غيره من
ذوي البصيرة والمعرفة؛ فيثلج صدره، وترتاح نفسه، ويحس بالرغبة في
الاستزادة منه، معجبًا بالقرآن، وما فيه من علو وعظمة وجلال، ومبادئ تسعد بها
جميع الأجيال.
وقد سلط هذا التفسير على جميع الشبهات نورًا كشَّافًا قويًّا ساطعًا؛ فأزالها
وأحالها هباءً منثورًا، وحل بمهارة ولباقة وقوة وغيرة وشجاعة وصراحة جميع
المعضلات الدينية والاجتماعية والسياسية، وكان الحل مُشْبِعًا مُرْوِيًا، مزيلاً كل
شك وريبة ووهم وظن، ولا يدع لأحد مسلكًا يسلك منه طريق هذه المعضلات مرة
أخرى، وهذه ميزة جلية لا ترفع رأسها موفورًا إلا في هذا التفسير الجليل.
وإلى القراء ثبتًا موجزًا يدعم ما قلناه.
(١) بيَّن إعجاز القرآن بيانًا شافيًا، وأظهر أسراره القدسية، وأزال
الخلافات المذهبية، وجلى الحكمة في الحروف التي تبدأ بها السور الكريمة،
وصعد بالقارئ إلى سماء العرفان الصحيح، والفهم الرائق، ووضع فهرسًا واسعًا
لوجوه إعجازه، فإذا هي لا تكاد تُحْصَر إذا وعينا مفرداتها وتفاصيلها، وألمس كل
فرد هذه الوجوه بما يجعله واثقًا منها، مؤمنًا بها إيمانًا موطدًا، لا تعلق به شية [٢]
من الضعف أو الوهن أو الريبة، , وأثبت أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، ولو تظاهر عليه جميع الملاحدة والمعطلين والمشركين والكافرين؛
لأنه بطبيعته الذاتية يغلب كل متظاهر، ويهزم كل مكابر، وأورد لذلك شهادات
كثيرة للفلاسفة والعلماء والباحثين والمفكرين.
(٢) ساق الدلائل العظيمة على خلود هذا القرآن وبقائه إلى يوم القيامة
واستقراره وثباته كلما تقدمت العلوم، وارتقت الفنون، وسارت الأمم في سبيل
المدنية الفاضلة، والحضارة الصحيحة، وأرى كل ذي بصيرة نافذة كيف أن الأمم
الغربية لا ينقذها من ويلاتها ومشاكلها المعقدة إلا كلام الله المحفوظ من التحريف
والتبديل والتغيير والنسيان، الذي يوافق الزمان والمكان، ويجد فيه طالب الحق ما
يشبع نهمته، ويزجي طلبته، وذكر نماذج شتى من القرآن لمسائل لم يعرفها العالم
إلا في السنوات العشر الأخيرة، وقال: إن ثمت مسائل كثيرة في القرآن يكشفها
الزمان تدريجًا للدلالة على أنه كتاب الله حقًّا.
(٣) شرح مبدأ الخلق والتكوين، وذكر أحوال الأمم وطبقاتها ودرجاتها
وعملها في هذه الحياة الدنيا، وساق أخبارها من أوثق مصادرها، وقفى على ذلك
في مواضعه بالبعث والنشور والحساب والعقاب والثواب وأحوال يوم الدين، وكان
في هذه الأمور محققًا دقيقًا يصل بالقارئ إلى أسمى غاية يطمع في الوصول إليها
أرقى عقل وأعظم فكر، بحيث يخرج منها فاهمًا جيدًا سر الخلق وحكمته، وتدرج
الأمم في مدارج الرقي حتى استكملت استعداها العقلي وقت نزول القرآن، وبعثة
سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، وعارفًا المعرفة كلها معنى البعث، وكيف
يكون بالجسد والروح معًا، وما الثواب وما العقاب، وما الجنة وما النار؟ ولماذا لا
تكون النجاة إلا بالإسلام الحنيف، الذي جاء به الرسول الشريف؟
(٤) تكلم عن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
وذكر قصصهم وتعقب ما في كتب العهد العتيق المسماة بالتوراة من خروج عن
الجادة في سرد هذه القصص، وصحح الخطأ المنتشر فيها، وفي كتب التفاسير
التي نقلت عنها أو اعتمدت عليها من غير ما تمحيص ولا تدقيق، وصورهم عليهم
السلام بالصورة اللائقة بهم وبعملهم لهداية الأمم والشعوب، ونفى عنهم ما نسب
إليهم كذبًا وغلطًا وجهلاً، ونقاهم مما علق بسيرهم الشريفة الطاهرة بسبب العناد
والمكابرة والمغالطة والعماية، وبرهن على أن النبي أو الرسول يجب أن يكون
مثال الكمال الإنساني، والقدوة الصالحة في الأقوال والأفعال والأعمال والأسوة
الحسنة في الخير وعمل البر.
(٥) دافع عن الإسلام وتعاليمه دفاعًا مجيدًا منصورًا، وأزجى الأسباب
التي تضمن خلوده وبقاءه، ودفع في صدور اليهود والنصارى والملاحدة بما جعلهم
ينكمشون ويتركون سلاحهم المفلول، ويعترفون بضعف حجتهم وبوار بضاعتهم
وكساد سوقهم، ويقولون بملء أفواههم: اعترفنا بعجزنا وقصورنا وانهزامنا.
وأعطى المسلمين الحجج الدامغة التي يستطيعون بها الدفاع عن ذمارهم، والذود عن
دينهم، والنصر على مناوئيهم، وحقق بما لا مزيد عليه أن الإسلام لا مطعن فيه
لطاعن، ولا مغمز لغامز؛ وأن بيته من طود أثبت، وبيوت غيره من زجاج
أضعف؛ وأنه لا يليق لصاحب البيت الزجاجي أن يقذف البيت الحجري بالحجارة،
وقد أثنى الكثيرون من غير المسلمين على مسلكه الراجح، وأدبه الواضح.
(٦) شفى الغليل بمباحثه القيمة في الناسخ والمنسوخ، ورسم صورة رائعة
لهذه المشكلة الدقيقة التي اختلف فيها المفسرون، وتعددت أقوالهم، وتباينت آراؤهم،
وعرَّج على عقيدة النصارى في النسخ، فشرحها تشريحًا وافيًا جامعًا، وكشف
عن خطئهم الدامس فيها، ووضع أصابع الباحث على عوارها وزيغها، فأثلج بذلك
قلوب المؤمنين، وأدخل في صدورهم برد اليقين، ومن اطلع على مسألة النسخ
درى مدى التوفيق العجيب في هذا التفسير البديع الذي صار حجة هذا العصر،
وترجمان القرآن ولا فخر.
(٧) فصل الوحي الإلهي بما يقنع كل منكر، ويسلم له كل معاند، ويعنو
لحججه جميع الورى، ولما وصل إلى الوحي المحمدي كان التفصيل أوسع،
والشرح أمتع، والدلائل أنصع؛ إذ أثبت ببراهين لا تُدْفَع أن الوحي المحمدي ثابت
بالقرآن ثبوتًا لا تعلق به شية من الريب عند أي إنسان، وجلى النبوة المحمدية
بأوضح بيان، وبين أنها أصل إثبات النبوات السابقة، فهي دليلها ومُصَدِّقتها
والمزكية لها.
(٨) كشف فضل الإسلام على جميع الأنام، ونثر الدلائل الكثر من تاريخ
الأمم الشرقية والغربية، على ما استفادته من تعاليم الإسلام الخالد في الدين والأدب
والاجتماع والتشريع، وشهد به رجالها وفضلاؤها وعلماؤها وفلاسفتها ومفكروها،
وعبَّد السبل؛ ليفهم القارئ أن العالم كله سائر إلى الإسلام؛ إذ الإسلام هو الوسيلة
الكبرى لسعادة البشر، والطريقة المثلى لإزالة الخطر.
(٩) قارن بين ما في القرآن من التشريع والحكمة والآداب والمبادئ العليا،
وبين ما تتمدح به الأمم الحاضرة من قوانينها وحكمتها ومبادئها وآدابها، وخرج من
هذه المقارنة بما يُفْرِح المؤمنين، ويرفع رؤوس الموحدين، ويجعل القدح المعلي
للإسلام، الذي جاء به خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
(١٠) قضى على العنت الذي كان يعانيه القارئ من قراءة التفاسير السابقة،
وجعل له مصباحًا كشافًا وضاءً ينير له السبيل، وصوًى ومنارًا كمنار الطريق،
فخدم بذلك المفسرين أنفسهم، وقدم للناس حديقة غناء فيها ما تشتهيه نفوسهم الزاكية،
وقلوبهم الواعية.
هذا نموذج يسير مما حواه هذا التفسير الشهير الكبير، فواجب على كل مسلم
يحسن القراءة والكتابة في أنحاء الأرض أن يقتنيه كنزًا ثمينًا، وذخرًا عظيمًا،
ودائرة معارف إسلامية نادرة المثال، وليس لأحد يقصر في الحصول عليه عذر،
والسلام على من اتبع الهدى.
... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
(المنار)
نشكر لأخينا المقرظ إطراءه لشخصنا الضعيف المبني على حسن الظن،
ونعتذر للقراء عن نشره بحروفه أداءً للأمانة على ما فيه من انتقاد كتب التفسير
كلها بالإجمال، وتخصيص آخرها بالذكر وهو لصديقنا، وقد سبقنا من قبلنا إلى نشر
التقاريظ كما ترى في تفسير العلامة الآلوسي وتفسير الإمام السيد حسن صديق
وغيرهما من كتب المشارقة والمغاربة، على أن أكثر تقاريظ المعاصرين للكتب
شعرية يقرظون بها ما لا يقرؤون لا بيان لعقيدة الكاتب وتعبير عن شعوره كهذا
التقريظ وما قبله، وما كاتباهما بأول من فضل هذا التفسير على غيره، بل
سبقهما إلى ذلك غيرهما، ووافقهما عليه أناس بعدهما؛ ولكن الكتاب يختلفون
بدرجة الصراحة والإجمال والتفصيل.