للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية
في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي
(تابع لما قبله)
معجزة القرآن
أنقل هنا ما نشرته مجلة المشرق من الطعن في معجزة القرآن بحروفه، ثم
أفنده بالبرهان، وهذا لا يفعله أحد من رجال النصرانية لا الكاثوليك، ولا غيرهم
لعلمهم بأنهم إذا نقلوا كلامنا إلى أتباعهم لا يقدرون على الرد عليه بما يقنع أتباعهم
فضلاً عن غيرهم.
قال في ص ٩٥٧، ٩٥٨ من سنة ١٩٣٣ لمجلة المشرق ما نصه بغلطه
اللفظي والمعنوي.
(من المعلوم أن المسلمين يستشهدون بكتابهم على صدق نبوة محمد فهو
عندهم آية الآيات، والأعجوبة الصريحة، والدليل القائم بذاته على مدى الأيام
داعيًا إلى الهدى من غير شاهد يشهد بصحة نسبته إلى أصله، كأن به توقيع الله
بالذات، ويدعمون قولهم بما ينسبونه إلى مفاعيل القرآن من الحوادث العظمى التي
قلبت فئة عظيمة من البشر ظهرًا لبطن، وبالاختصار فالقرآن عندهم كما يقول
السيد محمد رشيد رضا هو معجز للخلق بلفظه، ونظمه وأسلوبه، وعلومه وهدايته،
وبذلك هو (آية لا كالآيات، ونور لا كالأنوار) (ص ٥٩) .
ولكن ما هي قيمة تلك المعجزة وما هي حقيقة مفاعيلها؟
قال الأب دي لانفرسان محرر مجلة (في أرض الإسلام) الإفرنسية:
(ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن الأدبية، كما وأنه ليس من يشك
في قيمة التوراة اللغوية في الترجمة الإنكليزية أو في الترجمة الألمانية لمؤلفها لوتر
على أن تلك القيمة البشرية محضة، وقد يتاح لكل إنسان مثقف أن يتحققها تحققًا
متفاوتًا مع تفاوت تضلعه من اللغة، ومن آداب البلاد التي وضع فيه الكتاب؛ ولكن
تلك القيمة الأدبية ليست مما يزيد أو ينقص في قيمة المتن الدينية
(إننا لا ننكر على القرآن القيمة الدينية، ونحن على بينة من مفعوله في
إثارة عواطف السجود والصلاة والتسليم لإرادة الله، وهناك جمهور المتصوفين
الصادقين من استقوا من مناهل القرآن على مدى الزمان مناهل المودة الصادقة لله
عز وجل.
(ولكن محور كلامنا لا يدور على تأثير القرآن في النفوس، بل على
السؤال هل القرآن بذاته دليل؟ هل هو بذاته آية الآيات ومعجزة المعجزات كما
يسميه السيد محمد رضا (ص ٥٩) وقبله الكثيرون من كبار أئمة المسلمين؟ هل
القرآن هو كلام الوحي، لا بمعنى الوحي الشعري أو الفني المعروف عند أهل الفن
والأدب بالوحي النفسي (كما ذكره المؤلف ص ٢٩) ولكن بالمعنى الكامل المألوف
عند رجال الدين أعني به كلام الله الحي؟
(بعيد عنا القول أن كتابًا موحى به من الله وحيًا بينًا لا يمكن أن ينم عن
أصله الإلهي من غير أدلة خارجه عنه، وإنه من المستحيل أن يشهد الكتاب بذاته
لصاحبه فتثبت فيه علامة الله وتوقيعه؛ ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في أن
تتحقق تلك العلامة من غير ما أن نخشى الضلال، ولا نخاف أن نكون غلطنا في
تحقيقنا، وما المشكل إلا مشكل الدليل الباطني، وهو شهير عند أهل التفسير؛ فإن
قيمة الدليل الباطني على صحة الوحي لم تقع قط في الجدال؛ ولكن الجدال إنما هو
في تطبيق العلامة والدليل الباطني تطبيقًا لا يترك مجالاً للريب؛ ولذلك فقد أجمع
المفسرون على القول: إن الدليل الخارجي هو أشد تأثيرًا من الباطني؛ لأنه أبعد منه
عن خطر الغلط، وآمن على سلامة التأكيد)
(ففي الأمر الواقع ليس للدليل الباطني قيمة إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي
كون مؤلف من المؤلفات يمكن أن يكون قد خرج من عقل بشرى) اهـ بحروفه.
(المنار) : في هذه العبارة شبهات نشير إلى دحضها بالإجمال.
***
الشهبة الأولى
في الموازنة بين القرآن والتوراة والإنجيل في البلاغة
نقل عن أحد آبائهم أنه (ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن اللغوية) ؛
ولكنه زعم أنه يشاركه في ذلك ترجمتا التوراة الإنكليزية والألمانية. والجواب عنها
من وجهين:
(أحدهما) أن القرآن معجز للبشر بعبارته اللغوية، عجز عن الإتيان بسورة
من مثله فحول بلغاء العرب الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة، ولم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يعد من طبقتهم فيها، وقد تحداهم الله بأن يأتوا
بسورة مثله مصرحًا بأنهم لن يفعلوا، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، فلو قدروا
لفعلوا، واستمر هذا الإعجاز إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد من الإنكليز، ولا من
الألمان: إن ترجمة التوراة معجزة للبشر لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها فظهر الفرق
كفلق الصبح أو أشد نورًا.
(الوجه الثاني) لماذا لا يوازنون بين القرآن الذي جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم، والتوارة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله، وهي أصل
دينهم فأين هي؟ وأين الإنجيل الذي جاء به عيسى المسيح عليه السلام، ويذكرون
في كتب العهد الجديد أنه أمر تلاميذه أن يكرزوا به في الخليقة كلها؟ ولماذا لا
يوازنون بين قيمته الأدبية وقيمة القرآن؟ حسب القرآن أنه هو الذي جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين، فيعرف به أصل دينه معرفة قطعية؛ ولكن ما جاء به
أخواه موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام غير موجود بنصه الحرفي، وهذه
الترجمات الموجودة لا يمكن إثبات أخذها عن أصلها لفقده من العالم، وهي مختلفة
متعارضة متناقضة، فكيف يؤثق بأنها مطابقة لأصلها لو كان موجودًا؟
* * *
الشبهة الثانية
في دلالة هداية القرآن الدينية على كونه من الله
اعترف أيضًا بأنهم لا ينكرون هداية القرآن الدينية من التسليم لإرادة الله
تعالى والعبادة الصادقة له؛ ولكنهم ينكرون أن يكون تأثيره هذا دليلاً على أنه من
عند الله تعالى، وآية على صحة محمد صلى الله عليه وسلم، والجواب عنها من
ثلاثة أوجه: وجهين عقليين، والثالث نقلي مسيحي
(الأول) إننا لم نحصر البرهان على كون القرآن وحيًا من الله تعالى في
تأثير هدايته للبشر، ولا في إعجاز لغته بل أوردنا في كتاب الوحي المحمدي، ثم
في غيره من تفسيرنا براهين أخرى عقلية وعلمية على ذلك حسبه منها اتفاق علماء
الإفرنج في هذا العصر على أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بكتاب في الذروة
العليا من البلاغة والفصاحة اللغوية بعد دخوله في سن الأربعين إذا لم يكن قد مارس
هذا النوع من الكلام، أو تمرن في سن الصبا والشباب، وأنه ليس في استطاعة
أحد من البشر أن يأتي بكتاب ممتاز في العلوم الدينية أو الأدبية أو التشريع المدني
والسياسي بعد بلوغ سن الأربعين إذا كان لم يمارس هذه العلوم بالتلقي والبحث
والعمل قبل ذلك، وقد ثبت بالتواتر أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا بين قوم
أميين لم يزاول شيئًا من هذا ولا مما قبله، وقد احتج عليهم بهذا كما أمره الله بقوله:
{قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ} (يونس: ١٦) وإذا كان هذا الكتاب الذي يعترف اليوم أعدى أعدائه،
وأشد خصومه جدلاً ومراءً بقيمته اللغوية والأدبية والدينية وتأثيره الحسن في العالم
محالاً أن يكون من تأليف محمد بهذا البرهان العلمي، فهل يمكن أن يكون إلا بوحي
من الله تعالى له؟ وهل يوجد في كتب الوحي التي يؤمنون بها ما يساويه في هذه
الحجة؟
(الوجه الثاني) إن ما كان للقرآن من التأثير في هداية الملايين من البشر
إلى معرفة الله تعالى، وعبادته الصادقة، وترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام
والأوثان والأشجار والكواكب والحيوان والإنسان (وابن الإنسان) من أكبر البراهين
على أنه من وحي الله وكلامه، وهل بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه إلا لأجل هذا؟
وهل وجد كتاب من كتبه كان له أكبر من هذا التأثير أو مثله في هذه الهدية؟ قد
بسطنا الجواب السلبي عن هذا الاستفهام في كتاب الوحي المحمدي.
إذا كان الماديون المعطلون أو المنكرون للوحي والنبوة من أساسها ينكرون
هذه الدلالة على الوحي؛ لأنها فرع الإيمان بالأصل وهو وجود الله تعالى ورسالة
الرسل، فكيف ينكرها من يدعون الإيمان بهما؟ هذا ما تعجب منه موسيو مونتيه
أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف إذ قال: إنه لا يعقل أن يوجد أحد يؤمن بنبوة
أنبياء بني إسرائيل ولا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وبيانه كما بسطناه في كتاب خلاصة السيرة المحمدية وكتاب الوحي أنه إذا
جاءنا رجل بكتاب في الطب والعلاج، ورأينا جميع المرضى الذين عملوا به برئوا
من أمراضهم، ألا يكون هذا أقوى دليل على صدقه وصحة ما فيه من العلم؟ بلى
وإن هذا الكتاب لا يحتاج إلى من يشهد له بأنه كتاب طب مفيد؛ لأن الشهادة الفعلية
القطعية أصدق من الشهادات القولية وحدها، ويمكن أن يعرفها كل أحد؛ ولهذا كان
السبب الأكبر لإسلام أكثر الأعاجم في الصدر الأول ما شاهدوه بأعينهم وعرفوه
باختبارهم من سوء حالة العرب المشركين الجاهلين قبله، وانقلابهم بهدايته وسنة
النبي الأمي الذي جاء به أئمة يهدون بالحق، وبه يعدلون؛ فتحول كثير من اليهود
والروم وأكثر النصارى من السوريين والكلدان والآشوريين والأرمن والقبط
والبربر عن نصرانتيهم إلى الإسلام، وكذا المجوس والهنود الذين كانوا قرناء الروم
في حضارتهم وفلسفتهم.
أما العرب فكان سبب إيمانهم إعجازه اللغوي والعلمي وتأثيره وسلطان
آياته على العقول والقلوب، والاقتناع بأنها حق وخير لهم، مع حالة من جاءهم
به؛ إذ كان إلى سن الأربعين غير معروف ببلاغة ولا علم، وغير ممتاز على أهل
وطنه وبيئته إلا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق.
إن معترض مجلة المشرق يسمي هذا وذاك من الأدلة الباطنية التي ليس لها
إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي كون هذا الكتاب قد خرج من عقل بشري، وقد
غفل عن كون المؤمن بالله وبوحيه يضطر أن يؤمن بما كان كذلك أنه من الله تعالى؛
إذ لا موجود يقدر عليه غيره فقامت عليه الحجة.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))