للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية
في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي
(تابع لما قبله في ج ٤)

(الوجه الثالث النقلي المسيحي) أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح عليه السلام
أنه أنبأ بظهور أنبياء كذبة من بعده، ووضع قاعدة كلية للتمييز بين الصادقين
والكذبة، وهي قوله: من ثمارهم تعرفونهم.
فليخبرنا كاتب مجلة المشرق وآباؤها عن نبي له من ثمار الخير والبر التي
اعترفوا بها عرضًا، وهو قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير من ثمار محمد
صلى الله عليه وسلم التي اهتدى بها الملايين من البشر.
ويؤيد هذه القاعدة كثير من الدلائل الخارجية على نبوته صلى الله عليه وسلم،
منها شهادات كتب العهدين العتيق والجديد له بما فصلناه في تفسير المنار،
وبسطه غيرنا بتفصيل أوسع كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق،
ومنها شهادة من آمن به من علماء اليهود والنصارى، وغير ذلك مما لا محل لإيراد
الشواهد عليه هنا.
بعد هذا نقول لهم: إنه ليس لكم أدلة خارجية على كون هذه الرسائل التي
تسمونها اليوم بالأناجيل كتبت بوحي ولا إلهام؛ وإنما رأينا في كتبكم أنكم تستدلون
على صدقها بدليل داخلي لا يدل عليه، وهو أنها لو لم تكن صادقة لكان كاتبوها من
الكذبة الأشرار؛ وهذا لا يعقل، وخصومكم لا يسلمون هذا لكم؛ إذ يمكن أن يقال
أيضًا: إنه يجوز أن يكونوا غير متعمدين للكذب ولا متحرين للصدق، ويجوز أن
يكون قد دس حزب قسطنطين وغيره شيئًا في كتبهم؛ إذ ليس عندكم نقل متواتر
بالأسانيد المتصلة إليهم كما سيأتي، على أنه لو صح هذا الدليل لكنا أولى به منكم،
وإن كنا لا نحتاج إليه مثلكم؛ لأن عندنا ما هو أصح منه وأقوى.
***
الشبهة الثالثة
في الشهادة الخارجية على وحي القرآن
نحن لم نقتصر في كتاب الوحي المحمدي على الأدلة الباطنية والشهادات
الداخلية على كون القرآن كلام الله تعالى كما زعم معترض مجلة المشرق، بل
أوردنا كثيرًا من الشهادات الخارجية، والأدلة العقلية والعلمية في الطبعة الأولى،
ولما رأيت مثل هذه الشبهات الكاثوليكية الجزوتية زدتها بيانًا في الطبعة الثانية
أكثرها في فاتحتها، وفي الفصل الأول الذي زدته فيها، ومنها أنني أوردت على
النصارى ما نقلوه عن المسيح عليه السلام من الشهادة لنفسه، وشهادة غيره له، فقد
نقل عنه يوحنا أنه قال: (٥: ٣١ إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا ٣٢ الذي
يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق ٣٣ أنتم أرسلتم إلى
يوحنا فشهد للحق) ثم روى عنه (٨: ١٣ فقال له الفريسيون: أنت تشهد لنفسك
شهادتك ليست حقًّا ١٤ فأجاب يسوع وقال لهم: (وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي
حق) نقلت هذا في سياق شهادة الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: ١٦٦) .
ومن شهادة الله تعالى له ما أيده من المعجزات، وأظهرها بعد القرآن وما فيه،
منها أنباؤه عن المستقبل الذي يسمونه بالنبوات، كاستيلاء أتباعه على ملك كسرى
وقيصر وهم في أشد أوقات الفقر والضعف كوقت غزوة الخندق؛ إذ تألبت عليهم
قبائل المشركين مع اليهود، وهجموا عليهم في مدينتهم يريدون استئصالها فأيد الله
المؤمنين بريح وجنود من الملائكة لم يروها، وقذف في قلوبهم الرعب، وردهم
بغيظهم لم ينالوا خيرًا {وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: ٢٥) كما هو
مفصل في أول سورة الأحزاب.
***
مطاعن النصارى على القرآن
قال كاتب مجلة المشرق بعد إيراد تلك الشبهات النحيفة السخيفة: (هذا وإذا
كان الكلام على كتاب فيه ما فيه من العيوب رغم ما يحويه من محاسن الجمال
وأساليب البيان، فلا بد من القول: إن ذلك الكتاب لا يمكن أن يُنْسَب إلى الله)
وأيد هذه الدعوى بما نقله عن أشهر كتاب عندهم في الطعن على القرآن، ولخص
ذلك بما نذكره ونفنده ونبين بطلانه هنا بالإيجاز، وقد سبق الرد عليه بالتفصيل في
كتابنا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) وسنعيده في الجزء الثاني من كتاب
الوحي المحمدي كما وعدنا في تصدير الطبعة الثانية للجزء الأول فنقول:
رد زعمهم ضياع شيء من القرآن
(الطعن الأول) زعم ذلك الطاعن أن القرآن قد ضاع منه شيء، فلم يُكْتَب
كله، وأن الذي ضاع؛ منه ما نسيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما نسيه
الصحابة رضوان الله عليهم، ومنه ما لم يُحْفَظ، قال: (وكثير من آياته لم يكن لها
قيد إلا في ذاكرة الصحابة؛ فضاع منها الكثير)
وجوابنا عن هذا أنه دعوى مفتراة ليس عليها أدنى دليل، فمن المعلوم
بالتواتر أن كل ما كان ينزل من القرآن كان يكتب ويحفظه الكثيرون من الصحابة،
يعبدون الله تعالى به في الصلاة وغيرها، وكانت ملكة الحفظ في العرب أقوى منها
في غيرهم لاعتمادهم عليها في حفظ أشعارهم وأنسابهم ووقائعهم.
من العجيب أن يفتري النصارى على القرآن هذه الفرية، وهو الكتاب الذي
حفظه الألوف من العرب في عصر نزوله وكتبوه متفرقًا، ثم مجموعًا، وما زال
يحفظه مئات الألوف في كل عصر، وهم أهل دين لم يكتبوا من إنجيل مسيحهم
شيئًا من لفظه بلغته، وهذه الرسائل الأربع التي يسمونها في الزمن الأخير
بالأناجيل لم تكن معروفة لمن يسمونهم رسله في العصر الأول؛ إذ لم يذكرها أحد
منهم في رسائلهم، وهذا رابعهم يوحنا يقول في آخر إنجيله: (٢١: ٢٤ هذا هو
التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق ٢٥ وأشياء أخرى كثيرة
صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة
آمين! ! !) فلماذا لم يكتب هو ولا أحد من تلاميذه وأتباعه عُشْر معشارها؟
كذلك ليس عندهم أصل مكتوب من سائر كتب العهدين في زمن أصحابها
بلغاتهم، ولا يدعون هم ولا اليهود أنهم حفظوا كتابًا منها بنصه وحروفه التي جاء
بها موسى ولا غيره من أنبيائهم كما فعل المسلمون.
رد زعمهم وجود المناقضات فيه
(الطعن الثاني) ما سماه المناقضات وضعف البيان في المتشابهات المحتاجة
إلى التأويل، وفي الناسخ والمنسوخ، فأما الأول فشبهته في اختلاف المفسرين في
المتشابه وتأويله كما فصلته في تفسير سورة آل عمران، ثم في سورة يونس أخيرًا،
ولا تناقض فيه ولا ضعف بيان؛ ولكن الأذهان تتفاوت بطبعها في فهم بعض
المسائل بطبيعة موضوعها، ولا سيما الوحي وكلام الأنبياء في عالم الغيب.
وقد حققنا أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابهات، وأما تأويلها
الذي لا يعلمه إلا الله، فهو حقيقة صفات الله تعالى، وما تؤول إليه أخبار الوعد
والوعيد في الآخرة؛ لأنها من عالم الغيب، ويرى القراء في الجزء الماضي (ج
٤) كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.
على أن أكثر كلام المسيح عليه السلام كان رموزًا لا يفهم تلاميذه المراد منها،
وهم أولى الناس بفهمها حتى المسائل التي تدعي هذه الرسائل الأربع أنها أساس
العقيدة كهدم الهيكل وإقامته في ثلاثة أيام، ومنه ما حكاه يوحنا في آخر رسالته من
أقواله عليه السلام لسمعان بطرس في محبته له ومستقبله، وقوله للتلميذ الذي كان
يحبه: (٢١: ٢٢ إذا كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء، فماذا لك؟ (قال يوحنا)
٢٣ فذاع هذا القول بين الإخوة: إن ذلك التلميذ لا يموت، ولكن لم يقل يسوع: إنه
لا يموت ... إلخ) ، فالتلاميذ كلهم لم يفهموا هذه الكلمة بشهادة يوحنا الذي شهد لنفسه
أن شهادته حق، ومن يوحنا هذا؟ وهو غير معروف بالتحقيق، والأرجح أنه من
تلاميذ بولص (راجع دائرة المعارف الفرنسية) فإن عادت المشرق إلى مثل هذا
البهتان أتيناها بالشواهد الكثيرة على تصريحهم بغموض كلام المسيح عليه السلام،
وعدم فهمهم له، فكيف يعيبون غيرهم بالكحل في أعينهم، ولا يرون الجذع في
أعينهم؟
وأما الناسخ والمنسوخ فقد بينا في تفسير الآية الوحيدة الصريحة فيه، وهي
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:
١٠٦) أن المراد بالآيات فيها ما يؤيد الله به رسله بدليل قوله تعالى بعدها: {أَمْ
تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: ١٠٨) وبيانه أنه
تعالى أيد موسى ببعض الآيات الكونية ونسخها بتأييد عيسى بمثلها في الأدلة على
صدقه، ثم نسخ هذه وأيد محمدًا بما هو خير منها، والمقصد من إرسالهم واحد
عليهم الصلاة والسلام، وأما نسخ الأحكام، فأنكر بعض علمائنا وجوده في القرآن،
وقال بعضهم: فيه عشرون آية، وبعضهم: بضع آيات، وكل ما عدوه منها فهو
فصيح بليغ، وفائدة الناسخ فيه ظاهرة، كنسخ الإرث بالإسلام والهجرة عند قلة
المسلمين بإرث القرابة الزوجية بعد كثرتهم، ونسخ القبلة إلى بيت المقدس لبيت
الله الحرام، على أن قبلة بيت المقدس لم تكن بنص في القرآن.
مخالفة القرآن لكتب العهد العتيق هو الحق:
(الطعن الثالث) مخالفة القرآن لكتب العهد القديم في بعض المسائل
التاريخية؛ وجوابنا عن هذا أن تواريخ العهد القديم لا يقوم دليل على صدقها كما بيناه
بالتفصيل في تفسير المنار، وأما القرآن فقد قامت البراهين الكثيرة على أنه كلام
الله تعالى، فما بينهما من خلاف فقول القرآن فيه هو الفصل، وحكمه فهو الحكم
بالحق والعدل، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: ٤٨) وقال: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن
قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ
الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: ٦٣-
٦٤) .
قصة يوسف في القرآن والعهد العتيق:
(الطعن الرابع) زعمه أن يوسف بن يعقوب تبين قصته في القرآن أنه قد
تراخى للشهوة من ذاته، وقصته في التوراة تبين براءته، يعني أن هذا الفرق يدل
على أن التوراة وحي من الله دون القرآن، والجواب عن هذا أن القرآن أثبت لنا أن
يوسف عليه السلام قد ابتلاه الله تعالى بتجارب محصه بها تمحيصًا، فكان من عباده
المخلصين (منها) مراودة امرأة عزيز مصر له في سن شبابه، فاستعصم ولم يقع
في الفتنة، وآثر عليها السجن، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: ٢٤) ففيه وجهان: أحدهما، وهو المتبادر من اللغة
أن كلاًّ منهما هم بمواثبة الآخر والبطش به كما شرحناه في الجزء الأول من المنار
أخيرًا، والثاني أنهما هما بالفاحشة، ولكن رؤيته برهان ربه صرف عنه السوء
والفحشاء، وهذه منقبة عظيمة له، وهي أدل على اعتصامه وعدم تراخيه للشهوة
مع قوة الداعية الطبيعية لها.
ولكن ما بال الطاعن يستدل بهذه الفضيلة السلبية للتوراة، وينسى ما قذفت به
لوطًا عليه السلام من الزنا ببناته، وداود عليه السلام من أقبح الزنا العمد بامرأة
أوريا الحثي، ثم تعريضه للقتل، مع نزاهة القرآن عن مثل هذا وما يقرب منه؟ دع
ما يرمون به سليمان عليه السلام من الشرك والوثنية لأجل النساء.
(الطعن الرابع) زعمه أن القرآن ذكر إسكندر ذي القرنين بما لا يوافق
أخبار التاريخ المحققة، وجوابه أن ذا القرنين المذكور في القرآن ليس بإسكندر
المقدوني، وإنما هو أحد أذواء اليمن، ولو خالف أخبار التاريخ لكان ما خالفها فيه
هو الحق.
(الطعن الخامس) اعتراضه على الإسراء إلى المسجد الأقصى بأن المراد
به هيكل سليمان قال: (مع أن الهيكل في أيام محمد كان خرابًا) والجواب عن ذلك
أن المراد بالمسجد الأقصى هذا المكان، وسماه بهذا الاسم للإنباء بأنه سيكون مسجدًا
للمسلمين يقابل المسجد الحرام الذي كان هيكل أصنام أيضًا (وقد كان) والمسجد
محل السجود والصلاة فإن كان عامرًا أو خُرِّب فخرابه لا يسلبه اسم المسجد، ولا
حرمته في شرعنا.
(الطعن السادس) نسبة مريم والدة المسيح عليهما السلام إلى عمران
(وجوابه) من وجهين أحدهما: أن ليس عندهم تاريخ قطعي لنسبها، والثاني أنه
يصح جعله من باب نسبة المرء إلى العظيم أو الرئيس من أجداده قريبًا كان أو بعيدًا،
كقولهم في المسيح: (ابن داود) وإطلاقهم لقب إسرائيل على ذريته، وقول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) ، وتسمية جميع الناس ملك العربية
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل (ابن سعود) .
(الطعن السابع) ما حكاه القرآن عن نداء قوم مريم لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: ٢٨) وهذا نحو مما قبله في التجوز المشهور كقولهم: يا أخا الهيجاء.
للشجاع. وهارون عليه السلام كان رئيس الكهنة، ومريم ألحقت بالكهنة في
انقطاعها لعبادة الله تعالى، فقالوا لها: يا أخت هارون تهكمًا بها، إذ اتهموها
بالفاحشة، وقد برأها الله تعالى في كتابه العزيز من بهتانهم، ومن كذب بعض
النصارى أيضًا بقولهم: إن ولدها عيسى من يوسف النجار. ومن كنودهم وبهتانهم
عليه هذه المطاعن المفتعلة، وموعدنا بالرد التفصيلي قريب إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))