للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تصدير طبع كتاب المنار والأزهر

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٨) ، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: ١١) ،
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: ٢٣) ، {هَذَا
كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: ٢٩) .
صدق الله العظيم
ما للأزهر وما عليه من الحق:
الحق أقول: إنه لا يوجد في العالم الإسلامي بيئة (أو ما يعبر عنه في
العرف المدني بالشخصية المعنوية) أجدر من هذا الأزهر بالكرامة في نفسه،
وبالتكريم من الأمة وحكومتها؛ ولكنه ظُلِمَ وهُضِمَ حقه، بل حقوقه منذ تفرنجت
حكومته، ولم تعد تشعر بالحاجة إلى علم الدين وأهله، فازدرتهم وحرمتهم من
مناصب الدولة، وقد قبل علماؤهم هذا وذاك بلا دفاع أو بلا شعور، فصار من
التقاليد المتبعة والعرف العام الذي يراعى في القوانين ويشبه الشرع الإلهي المُنَزَّل،
وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم، فظلمتهم حكومتهم، وخذلتهم أمتهم؛ حتى قيض
الله تعالى لهم عالمًا أفغانيًّا، سيدًا حسينيًّا، فأيقظهم من سباتهم، ونبههم من غفلتهم
عن أنفسهم، وذكَّرهم بحقوقهم في الدولة وبحقوق الأمة عليهم، وأهاب بهم ليأطروا
الظالم على الحق أطرًا، ويقسروه على العدل قسرًا، كما هداهم نبيهم صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله، وإلا أهلكهم الله تعالى بخضوعهم للظلم، وتنكيس رؤوسهم
للذل، وليستعدوا لذلك بإحياء العلم الذي تحيا به الأمم، وتقوم به الدول.
ثم خلفه من مريديه عالم من بني جلدتهم، ونبتة باسقة من تربة أزهرهم،
جهر بدعوته هذه معه وبعده، إذ قال في بيانه لها في سياق ما دعا إليه من الإصلاح
العلمي والعملي:
(جهرنا بهذا والظلم في عنفوانه، والاستبداد قابض على صولجانه، ويد
الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد،) فماذا جرى؟
نفى الظلم الداعي الأول من القطر، ونفى الثاني أولاً من القاهرة إلى بلده
محلة نصر، ثم إلى خارج وطنه: ثم كان ماذا؟ أو ماذا كان؟ عاد إلى مصر
عزيزًا كريمًا، وجدد الدعوة إلى إصلاح الأزهر، وإصلاح مصر والأمة الإسلامية
به، فسالمه الظلم آنًا، ثم ناوأه آونة، واستعان على صده عن الأزهر ببعض أهل
الأزهر، وقد كان من أعوان الظلم عليه وعلى الإصلاح بعد أن كان معه الشيخ
محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر اليوم الذي عمل في إفساد إصلاحه، وإذلال
الأزهر، وظلم أهله ما لم يعمله أحد منهم، ولا من غيرهم.
الأساس الإداري لإصلاح الإمام للأزهر الاستقلال:
أتكلم في هذا التصدير عن إصلاح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قدَّس الله
وجهه من وجهة إعلائه لشأن الأزهر واستقلال أهله به، وكف يد كل من الحكومة
والأمير عن الاستبداد فيه، وهي الوجهة التي عُني الشيخ الظواهري بإفسادها،
وظهر لكل أهل الأزهر ولغيرهم سعيه وسعايته لهدم الأساس الذي وضعه الإمام لها،
وقد تكلمت في صلب الكتاب عن كيده للإصلاح العلمي الديني بالإفساد البدعي
الخرافي.
كان الأساس الذي وضعه الإمام محمد عبده لإدارة الأزهر أن يكون علماؤه
مستقلين فيه بنظام وقانون لا سلطان للحكومة ولا للأمير على العبث به، كما بينت
ذلك بالتفصيل في المنار، ثم في الجزء الأول من تاريخه (أي تاريخ الأستاذ الإمام) .
وذكرت من جملة الشواهد على ذلك من وقائعه أن سمو الأمير أرسل إلى شيخ
الأزهر رجلاً من أكبر رجالات مصر المكرمين (هو الشيخ محمد توفيق البكري)
يبلغه فيه أمر سموه بتوجيه كسوة تشريف من الدرجة الأولى لغير المستحق لها من
العلماء، فلما عرض توجيه الكسوة المنحلة في مجلس إدارة الأزهر لم يتسن لشيخ
الأزهر أن يوجهها إلى غير مستحقها والشيخ محمد عبده في الجلسة، بل وجهت
إلى مستحقها بمقتضى القانون.
حتى إذا ما اجتمع كبار العلماء في حضرة الأمير في أول مقابلة له في قصر
عابدين، صب سموه سوط التثريب على شيخ الأزهر قائلاً له: ألم أكن أمرت بكذا؟
فحصر لسان فضيلة الشيخ عن الجواب، وفرك إحدى كفيه بالأخرى، فبادر
الشيخ محمد عبده إلى إنقاذه قائلاً: إن الذي قرره مجلس الإدارة في الكسوة المذكورة
هو التنفيذ لأمر أفندينا؛ لأنه مقتضى القانون الموقع بإمضاء سموه، والمجلس لا
يعرف له آمرًا غيره، ولا يمكنه العمل بالأوامر الشفوية المخالفة له، فإذا شاء
أفندينا أن توجه (كساوى التشريف) إلى من يشاء من العلماء فليلغ القانون بدكريتو
(مرسوم) يقول فيه: إن كساوى التشريف توجه بإرادة سنية منا! ! فلما سمع
الأمير هذا تبيغ دمًا، وتفصد عرقًا، وانتصب واقفًا لينصرف العلماء فانصرفوا.
هدم الظواهري لاستقلال الأزهر بنفوذ مستخدمي البلاط:
وأما الشيخ الظواهري فهو يخالف قانون الأزهر وما هو فوقه من هداية كتاب
الله وسنة رسوله بكلمة من القصر غير صادرة له عن لسان جلالة الملك المطاع،
بل من تلفون الإبراشي باشا أو من دونه من حاشية البلاط، لا لحفظ استقلال
الأزهر وكرامة أهله، بل للتمتع بمنافع السلطان الاستبدادي فيه؛ فالشيخ لذته في
التمتع بلذة الرياسة في ظل استبداد السياسة، حتى روي أنه يبذل أكثر راتبه
لشريكه في تبادل المنفعة [١] ، ولذة هذا الشريك في جمع المال لنفسه، وجل منافع
الشيخ المادية ما يناله ولده وأهل بيته وبعض أعوانه من الوظائف بجاهه، هذا ما
يقوله ويكتبه المنقبون في سيرته، ومثل هذا قد فعل غيره؛ ولكن الذي لم يفعله أحد
من مشايخ الأزهر هو هذا الإسفاف والتدلي في إهانة علم الدين وأهله بجعل رئيسهم
يذل ويخزى بخنوعه لموظف إداري أو كتابي ليس له عليه أدنى سيطرة ولا سلطان،
وكل ما يخشاه ويرجوه من وجوده في القصر الملكي أن يكتم عن جلالة الملك
ظلمه واستذلاله للعلماء، أو يتأوله بأن فيه خدمة دينية لجلالته، أي أنه يرجو منهم
أن يغشوا ولي الأمر به، وتسمية هذا خدمة للدين أو اتباعًا لما أوجبه الله تعالى من
طاعة أولي الأمر، من تلبيس إبليس ولبس الدين مقلوبًا كالفرو، كما قال أمير
المؤمنين علي كرم الله وجهه.
وقد بينت في خاتمة هذا الكتاب أقوال أشهر المفسرين في الظلم والركون إلى
الظالمين، وإلى من تدنس بشيء من الظلم وإن قل وكونه سببًا لدخول النار معهم،
وما يجب من طاعة الأمراء والسلاطين بالمعروف، ومن نهيهم عن المنكر، ومن
كون السلطة العليا عليهم للأمة ينفذها أهل الحل والعقد من زعمائها.
وقد قال حجة الإسلام الغزالي في (كتاب الحلال والحرام) من الإحياء:
(الباب السادس فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة ويحرم، وحكم غشيان
مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم) (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة
ثلاثة أحوال: الحالة الأولى وهي شرها أن تدخل عليهم، والثانية وهي دونها أن
يدخلوا عليك، والثالثة وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك) .
ثم شرح كل حالة من هذه الثلاث وهو يخاطب بهذا كل مسلم، فما قولك
بعلماء الدين المتصدرين للإمامة والقدوة فيه؟ ثم ما قولك فيهم إذا كانت حالتهم معهم
دون الحالة التي قال أنها شر الأحوال بأن يكون العالم الكبير أمام أحدهم كالأجير
الصغير، بل رئيس العلماء الأكبر كالمرؤوس الحقير، إن الإمام الغزالي لم يكن
على سعة عقله واختباره لأهل زمانه يتصور أن يضع أحد من العلماء نفسه في هذا
الدرك الأسفل وهو الذي كتب ما كتب في علماء السوء وازدلافهم للسلاطين،
وتذكيرهم بعزة علماء الدين، ووعظهم للخلفاء العباسيين، وهو الذي زاره الخليفة
في بيته واقترح عليه أن يؤلف كتابًا في إبطال شبهات الباطنية، وتفنيد دعوتهم
المفسدة للدين والدولة، فمن كان هذا شأنه في مقام العلم الكريم، لا يخطر في باله
أن يكون رئيس العلماء الأكبر في مصر إسلامي كما نرى في مصرنا هذا.
كان عندنا في الأزهر ذلك الإمام الكامل الذي كان يهابه أميره، بله بطانته
وأعوانه، وكانت مزاياه ترى من الهند في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب،
وأوربة في الشمال، من حيث لا يراه الأزهر الذي يجاهد فيه لرفع ذكره،
وإعلاء قدره، فاضطره الاستبداد إلى الخروج منه والاستقالة من خدمته، ليوجه
جهاده إلى ميدان آخر، فلم يشعر الأزهر يومئذ بهذه الصدمة التي قرع بها، وقد
شعر بقارعتها وشكا منها الشرق والغرب كما شرحنا ذلك في المنار ثم في (تاريخ
الأستاذ الإمام) .
يومئذ خدعوا الأزهر بأنهم يريدون إرجاعه إلى ما وجد لأجله بزعمهم، وهو
(العبادة وعلوم الدين لا غير، ومنع كل ما سواها من علوم العصر، وقصر كل ما
يسمونه الإصلاح على صحة الطلبة وغذائهم، وخدعوا الرجل الطيب علامة مصره
الشيخ عبد الرحمن الشربيني (رحمه الله) بهذا فاتخذوه آلة لتنفيذه، وقبول مشيخة
الأزهر لأجله، بعد التمهيد له بخطاب مفتوح رفعه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري
إلى سمو الخديو قال فيه: وأرجو ويرجو المسلمون من سموكم أن تشملوا هذه
المدارس (يعني الأزهر والمعاهد الدينية) بعنايتكم، وأن تقطعوا منها جراثيم
الفساد والانحطاط) .
ثم أرسلوا صاحب الجوانب المصرية الأديب السوري المعروف إلى الأستاذ
الشيخ الشربيني لأخذ حديث منه ينشر فيها، فتنقله جريدة المؤيد فيخفى على الناس
أنه مكر مدبر كما ظنوا، فكان أول ما سأل الشيخ عنه:
(ماذا يرى مولانا فيما قام يلتمسه اليوم الشيخ الظواهري من الجناب
الخديو؟)
أجاب الأستاذ: الظواهري إنما ينطق بلسان كل محب لخير الأزهر عالم
بالغرض الذي أسس له والخدمة التي أداها للدين. ثم بين في جواب سؤال آخر أن
هذه الخدمة عبادة الله، وطلب شرعه كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لا
غير (وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به، ولا
يرجى له) ... إلخ ما فصلناه في تاريخ الأستاذ الإمام، فكيف قبل الظواهري في
رياسته للأزهر اليوم ما طالب الخديو بقطع جراثيمه بالأمس، بل جعل لعلوم
العصر ومدرسيها السلطان الأعلى على الأزهر وعلماء الدين فيه؟
ماذا فعل العلامة الشربيني الذي لم يدر ما أريد به، كما أنه لم يكن يدري لماذا
أنشئ الأزهر ولا ما فعله الأزهر؟ ثم ماذا فعل من بعده من مشايخ الأزهر منذ
تركه الأستاذ الإمام سنة ١٣٢٣هـ و (١٩٠٥م) إلى هذه السنة ١٣٥٣؟
لم يفعل أحد منهم شيئًا، وإنما تركوا أمرهم للخديو، ثم تركه الخديو للحكومة
فسنت له قانونًا بعد قانون، ولم يكن لأحد منهم رأي في عبث الحكومة بالأزهر،
ولا تأثير علمي ولا ديني فيما تقلب فيه الأزهر من التنقل في الأطوار، ولا فهمها
أحد منهم إلى أن ولي رياسته الشيخ محمد مصطفى المراغي فكان هو الرجل الذي
عرف ما تجدد في الأزهر من أطوار، وما يضطرب فيه من موج ويصطخب من
تيار، فوضع له القانون الذي يمكن أن يجري فيه فلك الإصلاح آمنًا من الأخطار،
فنُوزِعَ في بعض مواده التي يتعذر بدونها حمل تبعة العمل واستقلال فيه فاستقال منه،
فظهر من مزاياه وخلائقه العليا بهذه الاستقالة ما لم يكن يعرف كنهه أعرف الناس
بإدارته وسيرته في مدته القصيرة في رياسة الأزهر، ولا فيما قبلها من رياسة
المحكمة الشرعية، ولا فيما قبلها من رياسة القضاء الشرعي في السودان.
وأما أهل الأزهر فكان يعرفه بعض أذكيائهم المستقلين في العلم والرأي، ولم
يعرفه علماؤهم وطلابهم كلهم إلا بعد أن جربوا رياسة خلفه المضاد له في جميع
مزاياه، وبضدها تتميز الأشياء، بل عرفه الآن جميع الناس حتى العوام في القاهرة
والإسكندرية وبقية الأمصار التي هي مقر المعاهد الدينية والمدارس العليا إذا
صخت أسماعهم أصوات الألوف المتظاهرة على الشيخ الظواهري من الأزهريين
وطلاب المدارس العليا صائحة في الشوارع بإسقاطه، نابزة له بألقاب الخيانة
ونعوت الإهانة، وملحة في مطالبة الوزارة التوفيقية الحرة بإعادته إلى مشيخة
الأزهر ورياسة المعاهد الدينية.
ثم عرف هذا كله سائر الأمصار والقرى في هذا القطر، وفي غيره بنشر
الجرائد له في العالم مؤيدًا بمقالات كثير من علماء الأزهر وغيرهم من حملة الأقلام،
فكان أقوم شهادة لما يسمى في هذا العصر بالرأي العام.
طور الأزهر الجديد ومن يصلح لرياسته:
إن الأزهر قد دخل في طور انقلاب عصري جديد فيه خطر كبير على الدين
والدولة، وفيه رجاء عظيم لهما، فلا يصلح لإدارته فيه إلا عالم كبير العقل،
عزيز النفس، عالي الهمة، قوي الإرادة، حكيم الإدارة، صادق اللسان، راسخ
الخلق، عزوف عن السفاسف والدنايا والمطامع، يشرف الرياسة فيزداد بها شرفًا،
ويضطر كل من يتصل به أن يجله، سواء أوافقه في الرأي أم خالفه؟
مثل هذا الرجل يندر وجوده في صنف العلماء وغيرهم من الطبقات الراقية
كرجال المدارس العالية والقضاة والمحاماة والوزراء والأمراء لا في مصرنا هذه
التي تشكو من فقر الأخلاق المدقع فيها، بل في أمصار الشرق والغرب أيضًا،
ولكن يكثر في طبقاتنا العراة المجردون من حللها كلها أو أكثرها، وأكبر المصائب
على الأمة أن تُقَلَد المناصب، وتُنَاط المصالح بهؤلاء العراة البادية سوآتهم، أو
ببعض المستورين بالأسمال والأخلاق البالية لأجل تجربتهم؛ ولكن أهل الأزهر
أكلوا من شجرة أبيهم آدم عليهم السلام فبدت لهم سوآت بيئتهم، ورأوا بعين
بصيرتهم العريان من جلل تلك المزايا والفضائل والعاطل من حليها، فهم يرغبون
فيه، ويرون من زينه الله بأجمل زينتهما فهم يرغبون فيه، وإنهم لعلى هدى في
الأمرين، وإن ما تطلبه المصلحة بلسان الحال، أقرب مما تطلبه الرغبة بلسان
المقال {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) .
بيد أن الثورة قد تزين للشبان طلب ما لا ترضاه الحكمة، من حيث لا يدرون
أن مثل هذا الطلب قد يكون مانعًا لا مقتضيًا؛ لأن الحكومات تأبى أن تكون منفذة
لرغبات طلاب المعاهد والمدارس لذاتها، بل يخشى أن يكون التظاهر سبب تأخير
ما اقتضته المصلحة العامة منها، إلا إذا كانت الحكومة كوزارة محمد توفيق باشا
في إيثار المصلحة على كل شيء، وهذا الوزير المستقل في رأيه وإرادته أعلم من
كل هؤلاء المتظاهرين ومن غيرهم بمزايا الشيخ المراغي في نفسه، وبمكانته في
قلوب أمته، وأعلم بحالة الأزهر ومشيخته الحاضرة، وزادته هذه المظاهر الحرة
التي لولاه لم تكن علمًا، ولا يخفى عليه أن ما قيل وما كتب وما فعل من قبل ومن
بعد في إهانة الظواهري، وإظهار الأزهر لاحتقاره كافٍ لإبعاده عنه لو كان مبالغًا
فيه، فكيف وقد ظهر عجزه عن إدارته، وإن في بقائه في المشيخة إهانة للإسلام
والمسلمين في اعتقادهم إن لم نقل في الواقع؟ وإنني لأقول هذا عن عقيدة ورأي،
ولا يخالف فيه ذو حجر، والأمور مرهونة بأوقاتها، ونسأل الله التوفيق لأولياء
أمورنا.
نصيحة لطلاب الأزهر والمعاهد الدينية:
إخواني: إنكم ستنالون ما ترضون من تولي من تمقتون عنكم، وتولية من
تحبون عليكم، لا بقوة مظاهرتكم لزيد وتظاهركم على عمرو؛ بل لأنه الحق
والخير والمصلحة؛ ولأن الأمة الإسلامية كلها معكم فيه؛ ولأنكم في عهد وزارة
تقدر هذه القوى الأربع قدرها، وجديرة بأن ترضي الله تعالى بإرضائها، وإن هذا
لهو خير لكم من إجابتكم إلى ما طلبتم خضوعًا لقوة اجتماعكم لذاتها، نعم إن
الاجتماع قوة؛ ولكن قوة الحكومة أشد من قوة الطلبة، بيد أنها دون قوة الأمة التي
تطلب الحق بوسائل العقل والحكمة، وقد قال حكيمنا السيد الحسيني الأفغاني:
العاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة؟
إخواني: إنني قلت في مقدمة هذا الكتاب التي كتبتها منذ سنة ونصف سنة: إنه
ليؤلمني ألذع الألم أن تضطر الأمة الإسلامية وصحفها إلى هذا التشهير بسيرة
الرئيس لأكبر مصلحة إسلامية في مصر ... إلخ، ثم بينت السبب الطبيعي لهذا في
القسم الأخير منه في الكلام على العبرة بهذه العاقبة السوءى للمسيء بمقتضى سنة
الله تعالى في الاجتماع المدني.
وأقول هنا: إن صراخكم في الشوارع بإسقاط شيخ الأزهر مع نبزه بالألقاب
والهجوم على مكتبه وتحطيم ما فيه لجريمة ثورية ذات شعب من الضرر، ثالثها
إهانة المرؤوسين لمنصب الرياسة بما يخشى أن يكون سنة سيئة لا يبقى معها
للنظام ولا للمنصب حرمة، فتعقب هذه السنة أن يجتنب هذه الرياسة أهلها الكرام،
ويتكالب عليها الطامعون اللئام، الذين يخنعون للإهانة، فيكونوا حربًا للأمة،
وتكون حربًا لهم، واعتبِروا في الفريقين حكمة النبوة في الحديث الذي رواه مسلم
في صحيحه عن عوف بن مالك مرفوعًا: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم،
وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،
وتلعنونهم ويلعنونكم) اهـ والصلاة في الحديث: الدعاء المتضمن للعطف، فالخير
داعية الخير، والشر داعية الشر، والمخرج من هذه العاقبة ما ترونه في الكلام
على الأمراء والسلاطين في خاتمة هذا الكتاب.
إخواني: إن التعليم الديني لن يكون وسيلة لسعة الرزق للألوف من
المتخرجين في هذه المعاهد، ولا ينبغي أن يكون كذلك؛ وإنما يجب أن يقصد به
إعادة مجد الإسلام من حيث هو دين هداية وسيادة وسياسة وتشريع عام لجميع
البشر، ولن يكون وسيلة إلى بلوغ رجاله هذه الغاية، إلا إذا كان أهله مستقلين -
دون الحكام - في إدارته ونظمه ومناهجه ورزقه ودرجاته العلمية بقانون يكفل لهم
ذلك، فإلى هذه الغاية يجب أن تتوجه قوة المعاهد الدينية، فإن لم تفعل كانت عاقبة
الدين في مصر كعاقبته في حكومة الترك، فلا أزهر ولا مدارس دينية، ولا محاكم
شرعية، ولا أوقاف إسلامية، وإن فعلت رجي أن تعم هداية الإسلام الشرق
والغرب، ويتم بها وعد الله باستخلاف أهله في الأرض، وإظهاره على الدين كله،
فيكون علماؤه من الأئمة الوارثين، وهي فاعلة إن شاء الله تعالى وبه التوفيق اهـ.
***
كلمة جديدة في الكتاب والشيخ الظواهري
إن ما أعلمه حق العلم من تاريخ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري وأخلاقه
وآرائه وأعماله من قبل توليته رياسة الأزهر والمعاهد الدينية قد بدت في سيرته
وأعماله في هذه الرياسة، بل تكشف هو بها فظهر بصورة لا أستبيح لقلمي وصفها،
ولولا غيرتي الدينية على هذا المعهد الإسلامي؛ واعتقادي أن رياسته له في هذا
الطور الجديد، وفي ظل النظام الاستبدادي المدبر كان خطرًا على الأزهر، وعلى
الإسلام لما كتبت ما كتبت فيه، ولقد نصحت له من قبل أن أكتب شيئًا، ثم أنذرته
راجيًا أن يكفيني أمر الاضطرار إلى الكتابة والنشر؛ ولكن خلقه وغروره بالمنصب
أبيا عليه قبول النصيحة والاعتبار بالإنذار.
جئته أول مرة أو زرته بمكتبه في إدارة المعاهد لما رأيته شرع في الانتقام من
بعض العلماء المهتدين بنور الكتاب والسنة بالنقل من الأزهر إلى بعض المعاهد،
واتهامهم بما أمر بالتحقيق فيه، فتلقاني بالحفاوة والترحيب كدأبه، وأظهر لي
الرغبة في التعاون معه على خدمة الإسلام، مصرحًا بقوله: نحن إخوة إن كنا نختلف
في بعض الآراء فلا يمنعنا هذا عن التعاون على خدمة الإسلام العامة، ولعله كان
رأى في المنار ما أسميه القاعدة الذهبية للاتفاق بين أتباع المذاهب والطوائف وهو
قولي: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) وكان
فضيلة الأستاذ مفتي الديار المصرية المحب للإصلاح المعتصم بالإخلاص حاضرًا،
فَسُرَّ بكلمة الشيخ الأكبر، وتكلم فيما يراه من وجوب التعاون بيننا؛ ولكنني لم أكن
أعتقد أن الشيخ مخلص في قوله كالمفتي، فكانت أول تجربة له أن ألقيت إليه
النصيحة التي زرته لأجلها، فقلت له: إن العرب كانت تقول: إن آلة الرياسة أو
شرطها الحلم وسعة الصدر، ولم أذكر له الشرط الثاني لهم في بيت الشعر المشهور
الذي يذكر في شواهد النحو:
ببذل وحلم ساد في قومه الفتى ... وكونك إياه عليك يسير
قلت: وإذ كانت فضيلتكم ترى أن الاختلاف في بعض المسائل لا ينافي الأخوة
والتعاون على المتفق عليه، فأرى أن يتسع صدركم لما تنكرونه على فلان وفلان
من العلماء ولا تفتحوا على أنفسكم باب الانتقام، ولا تجعلوا لكم خصومًا من
مرؤوسيكم ... إلخ، فوعد وعدًا حسنًا في ظاهره، يومئ إلى مكر في باطنه، ثم
ظهر هذا المكر في أقبح صوره بعزل من أوصيته بهم من التدريس في الأزهر،
وهم الذين يكره منهم ما عرف عنهم من إنكار للبدع، واتباع للسنن على مذهب
السلف واستقلال في العلم، وعزل آخرين معهم من كبار السن بالشبهة التي
اشتهرت وعلم جميع أهل الأزهر وغيرهم من العارفين بطلانها.
ثم إنه لما أغرى سفيهه من محرري مجلة المشيخة (نور الإسلام) بنشر تلك
المقالات المعروفة في تأييد البدع والخرافات والطعن على الوهابية ورجال الحديث،
ثم على المنار بعد أن نصحت لها بسلوك الطريقة المثلى اللائقة بأول مجلة دينية
رسمية تصدرها مشيخة الأزهر، ورأيتني مضطرًا إلى الرد على ما افترته علي،
كاشفت الشيخ بأنه يجب علي شرعًا أن أرد على ما افترته علي مجلة المشيخة، فإن
أذن بنشر الرد فيها اقتصرت به على بيان خطأ المفتري بأبرد النصوص الصحيحة
المبينة للحقيقة من المنار بدون زيادة، وإلا رددت عليها بما أنشره في المنار، وفي
بعض الجرائد اليومية بما يسوءه من إظهار جهلها وافترائها، فأظهر قبول الاقتراح
الأول وكان ما كان من محاولة خداعي بالصلح والاتفاق كما بينته في المنار، ونشر
في بعض الجرائد، وجمع في هذا الكتاب.
ثم طبعت هذه المقالات مستقلة، ورأيت أن أضيف إليها بعض الشواهد من
مجلدات المنار على ما قمت به من خدمة الأزهر والدعوة إلى إصلاح التعليم
والتربية فيه، والمقترحات الإسلامية التي توجبها حاجة العصر على علمائه، وإن
أقدم على هذا خلاصة لترجمتي العلمية، وتربيتي الدينية التي جعلت كل همي من
حياتي الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي، وهاجرت إلى مصر للقيام بها، وأنشأت
المنار لها.
وكان الغرض الأول من كتابة هذه الترجمة أن تدل قارئها على أن الباعث
النفسي على الرد على مجلة الأزهر هو ما نشأتُ عليه تربية وتعليمًا وعلمًا وعملاً،
ولم يكن غرضًا عارضًا، ولا جزاء محضًا للظواهري ولسان حاله الدجوي بطعنهما
علي عملاً بما أباحه كتاب الله من جزاء السيئة بمثلها؛ فإن خلقي يأبى عليّ هذا، ولو
أردته لعجزت عن كتابة مثل تلك الرسالة الهجائية (صواعق من نار في الرد على
صاحب المنار) التي استقاءها الثاني واستساغها الأول، وكانت توزع في الجامع
الأزهر بالمجان، ووعد الشيخ الأكبر بمنع توزيعها فأخلف الميعاد كعادته، وإنما
كتبت لتطهير الأزهر الشريف مما لطخاه به من العار، وصد ما استهدف له من
الأخطار، ودفاعًا عن حق المنار.
وقد بدا لي بعد الشروع فيها أن أبيح لقلمي فيها حرية قد ينتقدها بعض قارئيها
من شانئ شائن يعدها من تزكية النفس المذمومة، ومن صديق مُزَكٍّ يود أن أجب
عن نفسي الغيبة، وهو ذكر بعض ما وقع لي من الأمور الروحية غير العادية في
أثناء الاشتغال بالرياضة الصوفية وكثرة الذكر، مما يعده الجمهور من كرامات
الأولياء، وقد اشتهرت بالإنكار على المغرورين بها، والتأويل لأشهر ما يعدونه أو
يدعونه منها، حتى إن بعض أعداء الإصلاح من الخرافيين الذين اتخذوا دعوى
الكرامات والمنامات حرفة يأكلون بها أموال العوام بالباطل، ويستهوونهم لاعتقاد
ولايتهم، واتباع بدعهم والبذل لهم، ما زالوا يصدون هؤلاء العوام الجاهلين عن
الإصلاح الذي يدعوهم إليه المنار بأن منشئه من منكري الكرامات ومبغضي
الأولياء.
ولقد وقع إذ نشرت هذه الترجمة في المنار ما كنت أتوقع من نقد بعض
المحبين وحمد آخرين؛ ولكن كان من البواعث لي على نشره في الكتاب لا الموانع
دونه، وإنني أشير هنا إلى جملة هذه البواعث ولولا حدوث ما اقتضى تعجيل
إصدار الكتاب لنشرتها فيه وهي:
إن أكثر المسلمين أو الشرقيين الذين عرفنا أحوالهم بالمشاهدة والمحادثة
والمكاتبة في البلاد التي نشأنا فيها والبلاد التي سافرنا إليها من عربية وتركية
وهندية ينقسمون في الأمور الروحية فريقين كبيرين، وفريق ثالث صغير، أو قليل.
الفريق الأول: يصدقون كل ما يقرؤون وما يسمعون من الأخبار المخالفة
للعادات المألوفة عن المتقدمين الذين يسمونهم الأولياء، ويسمون أعمالهم بسمة
الكرامات، وعن المعاصرين من مشايخ الطريق ومدعي استخدام الجن،
ويخضعون للمنتحلين لها، ويرجون نفعهم ويخافون ضرهم، ويبذلون لهم أموالهم،
وربما ائتمنوهم على أعراضهم ونسائهم، وفي ذلك من الخرافات والمعاصي المفسدة
لأمور الدين والدنيا ما تفاقم شره، واستشرى فساده وعظم وزره، وما هو شرك
صريح بالله تعالى.
والفريق الثاني: ماديون يكذبون جميع هاته الأخبار، وينكرون وجود ما ليس
له سبب طبيعي منها أو إمكانها، ويعدونها مفتريات مختلقة لخداع الجاهلين الغافلين
وسلب أموالهم، ومنهم الذين يكذِّبون الأديان كلها لاتفاقها على أخبار معجزات
الأنبياء، وكرامات القديسين والأولياء، ويحتجون على ذلك بأنها في هذا الأصل
الديني سواء، مع اختلافها فيما هو أهم منه من أصول الدين، وبأن العلم والتاريخ
قد كشفا كثيرًا من خفايا أهلها ودجلهم وحيلهم وكذبهم ويقاس غيره عليه.
والفريق الثالث: يعتقدون أن لها أصلاً ثابتًا؛ ولكن فيها دجلاً وأباطيل يتعذر
التمييز بنيها، ومن هؤلاء من لا يصدق منها إلا ما أثبته الإفرنج المشتغلون بالأمور
الروحية، وما يسمونه استحضار الأرواح، وهم في حيرة من تعارض أخبارهم مع
عقائد الأديان، وكثيرًا ما ينقلون ما يرونه في الصحف الإفرنجية من أحداثها،
ويعدونه كغيره من الغرائب المادية التي تهدي إليها التجارب في نور العلم.
ومن موضوع المنار البحث في هذه المسائل، والتصدي لهداية أهلها للحق
فيها، لهذا رأيت من المفيد أن أذكر في ترجمة حياتي ما وقع لي مما يؤهلني لذلك،
ويبين لقارئه أنني أتكلم فيه على بصيرة فيما أنتقده، وفيما أقره وما أتأوله، كما
أتكلم في إصلاح التربية والتعليم في الأزهر وغيره، وأنه ليس لي فيه هوى ولا
منفعة، ولا أخشى به فتنة أحد، بل مقاومة الجهل والدجل، أحمد الله عز وجل أن
حفظني ببركة الإخلاص من هذه الفتنة في الزمن الذي فُتِنَ في مثله الكثيرون في
كل عصر، فقد ألهمني أن كنت أهون أمر تلك الأمور الروحانية على من يرونها
بأعينهم (كشفاء المصروعين والمرضى) ويسمعونها بآذانهم (كالمكاشفات) من
حيث أرى أهل الدعوى والتلبيس والدجل قد فتنوا كثيرًا من الناس بأنفسهم، وسلبوا
الكثير من أموالهم، وأسال الله تعالى أن يتم النعمة، ويحسن الخاتمة بفضله وكرمه.
وإني لأستغرب أن يقصدني بعض علماء أوربة الباحثين في الأمور الروحية
للبحث معي فيها، وأن يعدوني من بعض أعضاء جمعياتهم من حيث لا أرى أحدًا
من قومي يُعنى بذلك ولا يسأل عنه، وقد اتسعت دائرة المباحث والتجارب الروحية
في أوربة في هذه السنين، وكثرت أخبار غرائبها، وإن جرائدنا تنقل منها ما تظن
أنه ظريف، ونحن نعلم أنه تليد، وإن ما كتبنا منه كثير.
وإن إظهار العالم لعلمه عندما يرى الحاجة إليه ليُسْأَل عنه - مطلوب شرعًا مع
الإخلاص، ومجاهدة هوى النفس، والمأثور في هذا عن أئمتنا في العلم والعرفان
معروف، والذين كتبوا وقائعهم وتاريخهم منهم كثيرون، ومن علماء الغرب أكثر،
وما شرع شيخنا الأستاذ الإمام في كتابة ترجمة حياته إلا بإلحاح بعض هؤلاء
الغربيين عليه فيه، ومن سوء حظنا أنه لم يتمه، ونحمد الله أن وفقنا لتدوين ما
علمناه منه.
لعله وضح بهذا ما خفي على بعض إخواننا وغيرهم من نيتنا في كتابة هذه
الترجمة قبل أن ينقرض من أهل وطننا من يعرف أكثرها، ووضح أيضًا أنني لم
أقصد بكتابة هذا الكتاب وبيان مساوئ الشيخ الظواهري فيه إلا ما كان يقصده أئمتنا
من علماء الجرح والتعديل بتراجم رواة الحديث الضعفاء والوضاعين، وعلماء
الحديث المدافعين عن السنة بالرد على المبتدعين، فجهادي به موجه إلى المسيء
إلى الإسلام بمنصبه، دون المجاهر بالإساءة إلي بحسده وراتبه، فما هذا إلا سيئة
من سيئات ذاك، وما كنت أعبأ بجهله علي وعلى السنة وأئمتها من أهل الحديث
ومتبعي السلف قبل جعله إياه ناطقًا باسم مشيخة الأزهر في مجلتها.
وما ندمت على شيء كتبته فيه إلا ما نقلته من خبر بذله جل راتبه هدايا إلى
وليه وناصره؛ لأن ظاهر عبارته أنه من المساوئ الشخصية على أنني قصدت به
إزالة عجب الناس من إبقائه في منصبه بعد ظهور مساويه تنزيهًا لولي الأمر عن
علمه بها وإقراره عليها.
ولقد أرجأت تصديره ثمانية عشر شهرًا؛ لأنني أعلم أنه يقرب أن يتقرب به
إلى أوليائه في الحكومة تلك المستبدة الظالمة فيزداد استمساكهم به: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: ١٩) وما كادت تسقط وتخلفها الوزارة الحرة
المرجوة، إلا وصراخ الأزهر وعويله من ظلمه قد طبق الآفاق، واخترق السبع
الطباق، وأطبق عليه الطلاب والعلماء، وأجمع عليه الكتاب والشعراء والخطباء،
فتعذر أن يتهم به فرد من الأفراد أو جمع قليل متواطئون عليه، فنشرت الكتاب
موقنًا بقرب عزله إن لم يعتزل، وإقالته من منصبه لا من عثره إن لم يستقل؛ لأن
الاستعجال بهذا أهون الشرين عليه من الإملاء له فيه؛ فإن الأزهر لن يطيق الصبر
بعد على احتمال الذل والهوان ببقاء رياسته؛ ولكنه هو يحتمل شرًّا من ذلك
بالإصرار عليها، وتمني قهر مرؤوسيه بحماية حرس من الحكومة له في بيته
وفي طريقه وفي الأزهر يمنعه أن ينكلوا أو يمثلوا به، وما كانت شدة الحرص
على الرياسة لتأتي بخير، وإنما خير أهلها من ترغب فيهم ويرغبون عنها،
ويرونها عبئًا ثقيلاً لا يقبل إلا لأجل المصلحة العامة، لهذا قال صلى الله عليه وسلم:
(إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة،
وبئست الفاطمة) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، وروى البخاري
ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: (دخلت على النبي
صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أَمِّرْنَا
على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا
والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحدًا حرص عليه) ولقد رأينا في عصرنا
رجلاً واحدًا حرص على رياسة الأزهر أشد الحرص وأذله وأسخفه، ورجلاً واحدًا
زهد فيها أشد الزهد وأعزه وأشرفه.