للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شهر رمضان
موسم العبادة الروحية البدنية الاجتماعية

كتبنا في السنين الخالية، ونشرنا في مجلدات المنار الخالدة، مقالات كثيرة
في أحكام الصيام وحكمه وفوائده الصحية المتفق عليها عند الأطباء، والاجتماعية
التي تتفق فيها العادات في مواعيد الطعام والدعوات عليها بين الأقران، والصدقات
على الفقراء، والاجتماع على بعض العبادات الخاصة بهذا الشهر كصلاة التراويح
ومجالس الوعظ وتلاوة القرآن، ولكل من هذه العبادات والعادات الإسلامية تأثير
في النفس وشعور روحي خاص يزيد المؤمنين إيمانًا بربهم، ومودة بينهم، وقوة
في رابطتهم، والذين لا يصومون محرومون من حلاوة هذا الشعور الشريف، وإن
شاركوا المؤمنين في بعض ظواهره.
وشر هؤلاء المفطرين من لا يشعر بألم حرمانه من هذه الحلاوة الروحية
والعاطفة الملية، كأنهم من الحيوانات أو الحشرات ذات الحياة الفردية، فإني أظن
أن ما يعيش عيشة الاجتماع منها كالنمل والنحل تشعر أفراده بلذة خاصة في تعاونها
الاجتماعي فوق اللذة بتوفية أبدانها ما فيه قوام حياتها الشخصية والنوعية، وأعتقد
أن جميع البهائم خير لأنفسها من فساق البشر المجرمين، وأن الصيام خير مانع
للفسق وجناية الإنسان على نفسه وعلى غيره، لا في أثناء صيامه فقط بل في كل
آن إذا كان صيامه عبادة لا عادة، والفرق بين الصيامين أن من يترك الشهوات
البدنية في النهار مجاراة لأهل ملته في أيام معدودات، هي أيام شهر رمضان لا
يعدو عمله أن يكون تغيير عادة من العادات بتحويل ما كان يفعله في النهار إلى
الليل، وهو لا يخلو من الفوائد البدنية والاجتماعية، وإنما صيام العبادة بالنية
والاحتساب؛ أي: رجاء ثواب الله ومرضاته، وآيته؛ أي: علامته الظاهرة زيادة
الطاعة ولا سيما الصلاة واجتناب الآثام كصيانة اللسان من فحش القول والغيبة
والنميمة والكذب، ولا شيء أدل على صيام العادة كترك الصلاة، وكذا تأخيرها عن
وقتها، كالذين يسهرون ثلثي الليل في اللغو المنهي عنه ليؤدوا سنة السحور في الثلث
الأخير ثلث التهجد والاستغفار في الأسحار، فيتسحرون وينامون، وأكبر ما
يخسرونه جماعة صلاة الفجر التي يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدون
لصاحبها عند الله تعالى كما ورد في تفسير {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (الإسراء: ٧٨) .
وقد ورد في الحديث عند الإمام أحمد وغيره (الصوم في الشتاء الغنيمة
الباردة) أي كالغنيمة التي ينالها الجيش من الأعداء بدون حرب ولا قتال، من
حيث إنه لا يجوع الصائم فيه ولا يعطش في الغالب؛ لقصر النهار وعدم الحر،
ويفسره حديث (الشتاء ربيع المؤمن) رواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنهم بسند حسن ورواه البيهقي بزيادة (قَصُرَ نهاره فصام،
وطال ليله فقام) أي قام فيه لتهجده بغير مشقة كصيامه، وهو بهذه الزيادة ضعيف
السند، قوي المتن؛ لأنه مفسر للمراد منه فكل منهما يقوي الآخر.
وإن أهم ما أبغي في هذه الذكرى أن من يستحل الإفطار في نهار رمضان كله
بغير عذر شرعي من مرض أو سفر يكون كافرًا مرتدًّا عن الإسلام، فيبطل عقد
زواجه إن كان متزوجًا، ويحرم على زوجه أن تعامله معاملة زوجية، وإذا مات
في هذه الحالة أي قبل أن يموت لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين،
وهو كذلك لا يرث ولا يورث، وحكم هذه الردة مجمع عليه لا خلاف فيه بين
المذاهب الإسلامية، ولكن من الناس من لا يعرف معنى الاستحلال المخرج
لصاحبه من دين الإسلام في هذه المسألة وغيرها كاستحلال ترك الصلاة والزكاة
وفعل الزنا والسرقة والسكر وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيظن
أن معناه أن يعتقد أن ذلك حلال وهو غلط؛ فإن اعتقاد حله ينافي كونه معلومًا من
الدين بالضرورة؛ وإنما استحلال ذلك عدم الإذعان لحكم الشرع فيه، وعده بالعمل
كالمباحات من الشرب والأكل في نهار رمضان أو في لياليه، أو عد شرب الخمر
كشرب الماء والاستمتاع بالأجنبية كالاستمتاع بالزوجة، لا شعور معه بحرمة
الأوامر والنواهي الإلهية ولا موجب للتوبة والاستغفار.
فمن أجل هذا لا يعقل أن يقع من مؤمن بالله ورسله وشرعه بخلاف من يشتد
عليه الجوع أم العطش، فتغلبه شهوته على الأكل والشرب وهو يشعر بذنبه
واستغفار ربه فهذا عاص لا كافر؛ لأنه غير مستحل، وقلما يقع لمسلم في صيام مثل
هذه الأيام من فصل الشتاء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة الباردة.