للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرزيئة القومية الوطنية
بالشيخ محمد الجسر

قبيل فجر يوم الأحد ثالث شهر شعبان (١١ نوفمبر - تشرين الثاني) من هذا
العام (١٣٥٣ هـ - ١٩٣٤م) رزئت الأمة العربية والوطن السوري اللبناني بوفاة
رجل لا كالرجال، وفرد لا كالأفراد، بل علم لا تطاوله الأعلام: رزئنا بأخينا
الشيخ محمد الجسر أبرع نابغة سياسي وطني، ابن أستاذنا ومربينا الشيخ حسين
الجسر أنفع عالم ديني عصري، ابن الشيخ محمد الجسر أورع صالح صوفي،
ثالث ثلاثة أنبتتهم لهذه الأمة رياض مدينتنا طرابلس الشام، فكان رزؤه مصابًا
كبيرًا عامًّا لجميع أهل هذا الوطن على اختلاف أديانهم ومذاهبهم السياسية المتباينة
التي لم تجمعها على غيره جامعة؛ وإنما كان إجماع طوائفهم على إكبار المصاب به
فرعًا لإجماعها على الإعجاب بعلمه بزمنه، وأدبه في معاشرته، وعدله في حكمه،
وبراعته في سياسته، مزايا لم تتفق في هذا الوطن لغيره، بل أقول: إن إجماع
طوائف هذا الوطن على الاعتراف بها لرجل من أهلها معجزة من معجزات النبوغ
العقلي، والتوفيق العملي.
فحق لطرابلس أن تفخر به على الأمصار، وحق لهذا البيت الإسلامي أن
يباهي به البيوتات من جميع الأديان، وحق لهذا الوطن أن يفيض حزنًا ويذوب
أسفًا على هذا النابغة الذي فقده في أشد أوقات الحاجة إليه، وقد كملت حُنكته،
وتمت خبرته، وعمت الثقة به في بلاد تأبى عليها ذلك تربيتها الدينية وتقاليدها
الطائفية، وتعاليمها المدرسية التي لا نظير لها في وطن من أوطان أمة من أمم
الأرض.
وأغرب مدارك هذا الإعجاز في ثقة نصارى لبنان بالشيخ محمد الجسر العالم
المسلم المعمم ابن الشيخ حسين الجسر الذي انتهت إليه رياسة علماء الإسلام، حفيد
الشيخ محمد الجسر أشهر صلحاء صوفية المسلمين بالولاية والكرامات، أن ينال
هذه الثقة في عهد سيطرة الدولة الفرنسية على لبنان واعتزاز نصارى لبنان بها،
وهي التي تعد شنئان الإسلام ومجاهدة أهله من أسس تقاليدها السياسية والصليبية
الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول.
كان الشيخ محمد الجسر أحد الأفراد الذين شذوا دون طائفتهم بإظهار الميل إلى
الاحتلال الفرنسي فسخطت عليه وكان مسلمو بلده (طرابلس) أشدهم سخطًا لخيبة
رجائهم فيه أن يكون أول حامل للواء الوطنية فيهم؛ لأنه أجدرهم بمعرفة خطر هذه
السيطرة عليهم في دينهم ودنياهم، ولم يكن يختلج في خاطر أحد منهم أن يكون
أقدر رجل فيهم، بل في بلادهم كلها على خدمة هذا الوطن الذي دهي بأقتل الدواهي
القاصمة، والفواقر المفقرة، فيكون البدر الطالع في غاسق الظلم إذا وقب،
والطبيب الآسي لشر سحرة السياسة النفاثات في العقد.
كان أول منصب ظهر فيه للطوائف كلها فضله منصب القضاء الأهلي برياسة
محكمة الجنايات للجمهورية، فشهد له جميع المتقاضين وجميع العارفين بضعف
القضاء في البلاد بأنه أعطى العدل والمساواة جميع حقوقها، حتى حكي عن بعض
من كانوا أظهروا له العداء من إحدى الطوائف النصرانية أنهم وقعوا بين يديه في
قضية يخفى مسلك الحق والعدل فيها، ويتسنى للقاضي الجائر أن يتصرف كيف
شاء في الحكم لمن يميل له أو عليه من خصومها، وظنوا أنه آن له أن ينتقم منهم،
ولم يلبثوا أن رأوا من عدله وإنصافه المالك عليه زمام أمره ما بدل خوفهم أمنًا،
وبغضهم له حبًّا.
ليس كثيرًا على شيخ مسلم سليل بيت الفقه والتصوف، وقد تولى رياسة
محكمة الجنايات واؤتمن على الدماء، أن يكون عدلاً في القضاء، فهذا فرض
يوجبه عليه دينه عقيدة وعلمًا وتربية، فنص القرآن يوجب المساواة في العدل بين
جميع الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، برهم
وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وإنما بزغ نبوغ ابن الجسر كالشمس في توليه رياسة
مجلس النواب اللبناني ست سنين، كان يديره فيها كما يدير خاتمه في خنصره، فلا
يتعاصى شيء على إرادته، فأعجب بسياسته وكياسته الوطنيون والأجانب على
سواء.
حتى إذا ما انتهت المدة القانونية لرئيس الجمهورية اللبنانية، وأريد انتخاب
الرئيس الذي يخلفه علم موسيو بونسو مندوب فرنسة السامي ورجاله كغيرهم أن
السواد الأعظم من جميع الطوائف منتخبون للشيخ محمد الجسر لا محالة، حتى
نواب الموارنة الذين يعدون لبنان بتأييد فرنسة لهم وطنًا نصرانيًّا مورانيًّا كما صرح
بذلك بطركهم فكبر على غبطته أن يكون الشيخ رئيس جمهوريته، ورأى أن
المندوب السامي الفرنسي قد أظهر ارتياحه لانتخابه، ورضاه برياسته، فلجأت إلى
حكومة باريس العليا حتى أصدرت أمرها إلى مندوبها بوجوب منع هذه الكارثة،
فماذا يفعل وقد تجلى له أنه عاجز عن منع انتخابه، وأن جلاء فرنسة عن لبنان
وسورية أيسر خطبًا من جعل رئيس جمهورية لبنان شيخًا مسلمًا معممًا؟ لم ير حيلة
للتفصي من هذه المعضلة إلا إقناع الشيخ بترك ترشيح نفسه لها، فبذل المستطاع
من دهائه وأمانيه له، فأبت قناة الشيخ أن تلين لغمزته، وحية دهائه أن تستجيب
لرقيته، فلما أيقن أن الانتخاب مفض إلى جلوسه بعمامته البيضاء على كرسي
رياسة الجمهورية لم يجد مناصًا من هذه النتيجة إلا إصدار أمره الدكتاتوري بإلغاء
دستور لبنان من أساسه.
أكتب هذا مؤبنًا، لا مؤرخًا له مدونًا لسيرته، فإنني أرجئها إلى الجزء التالي
وأقتصر هنا على بيان أكبر ما أحاط بإعجابي من مزايا نبوغه الذي انفرد به، فكان
جديرًا بحزني وحزن وطنه وأمته عليه، وشعورهم بعظم الخطب بفقده بعد اكتمال
حنكته واستعداده لما يرجى من الرجال العظام الأفذاذ، الذين لا يظفر تاريخ الأمم
بأمثالهم إلا في بعض الأجيال، عسى أن يكون في هذا التنويه عبرة للمنافقين الذين
يظنون أن العظمة في نيل المناصب والرواتب، ولو بخيانة الأمة والوطن
والإخلاص في العبودية للأجانب، وأنى للمنافقين في صغار أنفسهم أن يعقلوا معنى
العظمة الصحيحة، أو ما دونها من مراتب الفضيلة؟
لا شيء يعزينا عن فقيدنا العزيز إلا ما روي لنا من تحقق ما كنا نتمناه من
كتابة مذاكرات حرة دَوَّنَ فيها ما علمه وخبره في أثناء معالجته للأمور العامة
ومعاشرته للعاملين من الوطنيين والأجانب، فهذه المذاكرات كنز نفيس هي خير
عوض تفيد الأمة أنفع ما كانت ترجو أن تتلقاه منه؛ ولكن الذي لا عوض عنه هو
ما كانت ترجوه من عمله عندما تتاح الفرصة للعمل، بعد التمهيد له بالثقة وجمع
الكلمة الذي لا ينهض بدونه وطن، فالمرجو من نجله الكبير وصنوه الكريم أن
يعجلا بنشر كل ما يمكن نشره منها، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءهما، ويطيل
بقاءهما، وينفع الأمة بهما، وأن يديم ذكر هذا البيت فخرًا وذخرًا لهذا الوطن
المسكين، ويفرغ عليهما وعليه الصبر في هذا المصاب، والله مع الصابرين.
((يتبع بمقال تالٍ))