للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحج في طوره المدني المترف

كان كثير من المسلمين يحجون إلى بيت بالله الحرام رجالاً، أي مشاة على
أقدامهم حتى إن هارون الرشيد حج ماشيًا، وأكثرهم يحجون ركبانًا على الإبل،
وبعضهم على الخيل والبغال والحمير، وكان بعض أهل الأقطار البعيدة على
الحجاز في الشرق والغرب الذين وراء البحار أو في جزائرها يركبون السفن
الشراعية، فيقاسون في مصارعتها للأمواج وعواصف الرياح أهوالاً، يرون فيها
من الموت صنوفًا وألوانًا، وكانوا ينفقون في سفر الحج أموالاً عظيمة، وربما
استغرق سفر الحج سنة أو أكثر، وكان مريد الحج يوطن نفسه على الموت،
فيكتب وصيته ويودع أهله لبعد الشقة وشدة المشقة ولفقد الأمن على الأنفس
والأموال، وكانوا يعدون ما ينفقونه في سفر الحج أفضل نفقاتهم، ويعدون أفضلها
في تطهير أنفسهم وتزكيتها ما ينفقونه في نفس الحرمين الشريفين من الصدقات
والقربات على أهلهما، مهما يكن من عنائهم فيهما.
ولما أنشئت البواخر الكبار المواخر في جميع البحار قرَّبت المسافات، وقللت
النفقات؛ ولكن أصحابها من شعوب الفرنجة المستعمرين للأقطار الإسلامية تواطئوا
على معاملة الحجاج فيها أسوأ من جميع أصناف المسافرين؛ ليصرفوا أكثر أغنياء
المسلمين المترفين عن الحج، وزادوهم رهقًا بما وضعوا من النظم الشديدة للحجر
الصحي عليهم، وواتتهم الحكومة المصرية على ذلك، فكانت معاملات رجالها
للحجاج في موانيها ومحاجرها أقسى من كل ما يقاسونه في غيرها شدة وإهانة ونفقة،
ولا تزال تعد أرض الحجاز بيئة وبائية بسوء خضوعها للسيطرة الأوربية، وقد
مرت عشرات من السنين لم يقع فيها وباء في الحجاز، ومن المعلوم بالقطع أنه ما
وقع وباء فيه من قبل إلا منتقلاً إليه من غيره من الأقطار ولا سيما الهند، ولا تزال
الحكومة المصرية تفرض على من يسافر إلى الحجاز لأداء فريضته، ومن يعود
منه معاملة شاذة مرهقة لا تعامل بمثلها من يسافر من الهند أو يجيء منها، على أن
وطأتها خففت في السنين الأخيرة، وقد دخل موسم هذا العام في طور جديد من
الراحة والسهولة والاقتصاد والانتظام بما أعدته له شركة بواخر مصر في باخرتيها
زمزم والكوثر، وسنبين ذلك في مقال آخر مع ما يجب على الحجاج في دينهم
شكرًا على هذه النعم عليهم.