للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت
في الجن

(من ٢٣ - ٢٦) حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل السيد محمد رشيد
رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فكلما حزبنا أمر من أمور ديننا
الحنيف لم نر سواك ملجأ نلجأ إليه، وكلما نزلت بنا نازلة تلفتنا فهدانا (منارك)
إليك، وكشف لنا عن موضعك، وقال بلسان الحال هذا هو إمام العصر، وارث
علم الإمام، ورافع لواء السنة، وهادم بناء البدعة، فلا نجد عندئذ بدًّا من التوجه
إليك في مهماتنا الدينية، أبقاك الله للإسلام ذخرًا ولسانًا، وحفظ عليك نعمة الألمعية
ونعمة العافية.
مولاي الأستاذ: جرى الحديث بيني وبين أحد إخواني العلماء في جمع من
أهل المعرفة فيما يدعيه بعض الدجاجلة من القدرة على استخدام الأرواح، وتسخير
الجن في قضاء الحاجات، وشفاء الأمراض، وقطع المسافات البعيدة في المدة
الوجيزة، وغير ذلك، فأنكرت عليه قدرة الإنسان على شيء من ذلك، كما أنكرت
أن يكون لهذه الأرواح سلطان على البشر إلا ما توسوس به إليه، فاستظهر علي
بالآية الكريمة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ المَسِّ} (البقرة: ٢٧٥) وحاول أن يتخذ منها دليلاً على تسلط الشيطان على
الإنسان - فاحتكمت وإياه إلى الجزء الثالث من تفسير المنار، وبمراجعته وجدناكم
قد اختصرتم القول في هذا الموضوع اختصارًا لا يشفي غلة المتطلع، فآثرت أن
أتوجه بالسؤال لفضيلتكم علكم تبسطون القول في (مناركم) الأغر في موضوعنا
هذا بما يشفي ويكفي، مع التفضل بالإجابة على ما يأتي.
(س٢٣) هل الآية قاطعة في وجود هذا النوع من التسلط كما يقتضيه ظاهر
التشبيه، وهل هناك دليل قاطع سواها؟
(س ٢٤) هل جاء في السنة الصحيحة ما يدل على شيء من ذلك؟ وهل
يصح الاستلال بحديث (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) على فرض
صحته أم يحمل ذلك على المجاز والمراد الوسوسة؟
(س٢٥) هل من الممكن أن يخالط الشيطان الإنسان أو يمسه؟ وهل
صحيح ما يحكى من تزوج الآدميين بزوجات من نساء الجن؟
(س٢٦) هل يظهر الجن لبني آدم أم أن مادة الاجتنان تحكم بعدم ظهوره
للعيان، أفيدونا من واسع علمكم بما يثلج صدورنا، وتطمئن إليه نفوسنا،
ولفضيلتكم الأجر العظيم، والشكر الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... م. ح. المحامي الشرعي
* * *
تسخير الناس للجن وسلطان الجن على الناس

(جواب المنار)
إن كنت قد اختصرت في الكلام على الجن والشياطين في تفسير آية آكلي
الربا من الجزء الثالث، فقد أطلت في ذلك في تفسير آيات من سورة الأنعام
والأعراف وغيرها، وفي مواضع من المنار، ولذلك أوجز هنا في الجواب فأقول:
لو كان الجن مسلطون على الإنس بما يشاؤون من نفع وضر، وكان دجاجلة
يسخرونهم في هذا كما يشاؤون لتحكم هؤلاء الدجالون في أموال الناس وأنفسهم،
ولتنافس الملوك والأغنياء في اصطناعهم؛ ولكنا نراهم أحقر الناس وأفقرهم إلا من
استطاع بدهائه أن يخدع بعض الأغبياء الجاهلين والنساء فيسلب أموالهم بالحيل،
كما ظهر في مصر في هذين العامين، وفي غيرهما عندما رفعت القضايا على
بعض من اشتهروا باستخدام ملوك الجن، على أن كثيرًا من الناس حتى المتعلمين
والأذكياء يخدعون بحوادث يخفى عليهم الدجل فيها، وإن لقوى نفس الإنسان تأثيرًا
في كثير من الأمور بما يخالف المألوف المعروف، وهي شاذة لا تتخذ سننًا عامة.
(٢٣) تخبط الشيطان من المس:
إن آية تشبيه قيام آكلي الربا بقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس، لا تفيد
دلالة قطعية على تسلط الجن والشياطين على الناس بما شاؤوا من نفع وضر، فإن
كان التشبيه مبنيًّا على ما كان معهودًا عن العرب وغيرهم، ولا سيما النصارى من
اعتقادهم أن بعض الجنون يكون بملابسة الشيطان للمجنون من غير أن يكون إقرارًا
لهم عليه كما قال البيضاوي وغيره من المفسرين فالأمر ظاهر، وإن كان يتضمن
إقرارهم عليه كما يقول آخرون، فهذه الملابسة غيبية لا تُعْرَف حقيقتها ولا سببها،
ولا تدل الآية دلالة قطعية على أنها تكون بسلطة للشيطان عامة، أو خاصة هو
مختار فيها، وربما كان الأقرب إلى العقل فيها أن الإنسان إذا عرض له ضعف في
أعصابه واختل إدراكه ومزاجه، تحدث لنفسه مناسبة قوية بروح الشيطان الذي
وظيفته الوسوسة، فيقوى تأثيره فيها بهذا النوع من الجنون، كما تقوى المناسبة
بين جسد الإنسان وبعض ميكروبات الأمراض باختلال مزاج الجسم، فتلابسه بما
لا تستطيعه في حالة قوة الجسم وسلامته، ولهذا جُرِّبَ شفاء هذا النوع من الجنون
بالعلاج الروحاني الذي هو عبارة على توجه روح بشرية قوية طاهرة إلى روح
المجنون، بما يقويها ويطرد روح الشيطان منها، ومن وسائل هذا العلاج الدعاء
والرقية، وهو المروي عن المسيح عليه السلام، وعمن دونه من الروحانيين،
ووقع لنا شيء منه ذكرناه في مثل هذا البحث من المنار وتفسيره.
(٢٤) حديث (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق) متفق عليه:
هذا الحديث لا يدل على أن الشياطين مسلطون على الناس بما يشاؤون من
ضر ونفع، غير ما هو ثابت في القرآن من الوسوسة لهم؛ وإنما هو تشبيه لتغلغل
وسوستهم في النفس، وعدم شعور الناس بها إلا من راقب خواطره وأفكاره وحاسب
نفسه على مثاراتها فهو كقول الشاعر:
* جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي *

(٢٥و ٢٦) إمكان مخالطة الشيطان للإنسان وظهوره له:
الإمكان العقلي لا نزاع فيه، وما كل ممكن يقع، وأما الشرع فلا يكلفنا
تصديق ما يحكيه الناس من ذلك، وظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: ٢٧) أن الإنسان غير مستعد لرؤية الجن
والشياطين كما خلقهم الله؛ ولكنهم قد يتشكلون بصور مادية لطيفة أو كثيفة ترى
بالعينين، فراجع تفسير هذه الآية (في ٣٥٩- ٣٧٢) من جزء التفسير الثامن، ففيه
مباحث كثيرة في الموضوع.