للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث
تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي
المتوفى سنة ١٣٣٢م - ١٩١٤ م

نُعي إلينا القاسمي في شهر رجب من سنة ١٣٣٢، فكتبت له ترجمة نشرتها
في هذا الشهر والذي بعده من مجلد المنار السابع عشر، وصفته في أولها بقولي
(ص ٥٥٨ منه)
(هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم
والعمل والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف،
والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب
المتفنن، التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة،
والأبحاث المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، وأخونا الروحي، قدس الله
روحه، ونور ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه)
ثم ذكرت تصانيفه ورسائله (في ص ٦٢٨ منه) مرتبة على الحروف،
فبلغت ٧٩، ومنها هذا الكتاب (قواعد التحديث) الذي عُني بطبعه نجله الكريم
السيد ظافر القاسمي، فتم في هذا الشهر (شوال سنة ١٣٥٣) وكان يرسل إلي ما
يتم طبعه منه متفرقًا لأنظر فيه، وأكتب للقراء تعريفًا به، على علم تفصيلي
بمباحثه وأسلوبه، وتقسيمه وترتيبه، فأقول:
ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة
واسعة، أو نهزًا متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيه هذا السفر النفيس كله، فأتذكر
به من هذا العلم ما لعلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو
الحقيق بأن يُقرَأ ما كتب، ويُحصَى ما جمع، لتحريه النفع، وحسن اختياره في
الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم والترتيب والوضع، وقد بلغ في مصنفه
هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعى بكد الحافظة،
ويستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا
الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو
المحلق في سماء الإلهيات؛ إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب
وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله،
ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل جنته
من طرائف الأزهار العطرية، ومجّت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية،
فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا تطيب له مطالعته كله، فينهله ويعله ولا
يمله، كأنه أقصوصة حب أو ديوان شعر، اللهم إلا هذا الكتاب.
أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه، وكثير من مباحثه وفصوله، طوافًا
سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك، ثم قرأت فيه بعض ما اختلف العلماء في
تحقيقه، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله، فصح لي أن
أصفه وصفًا صحيحًا مجملاً يهدي إلى تفصيل.
صفة الكتاب وما فيه:
فأما تقسميه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه ووضع عناوينها، فهو غاية في
الحسن، وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها، وجعلها عامة شاملة لوسائلها
كمقاصدها، وفروعها كأصولها، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع، بجعلها على
أحدث وضع: من ترك بياض واسع بين سوادها، شامل للمعدود بالأرقام من
مباحثها، مع إفراط فيه بترك بعض الصفحات بعد ختام للفصل أو البحث خالية
كلها؛ ولكن إذا اشتد البياض صار برصًا.
ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر أن طبعه في هذا العهد الذي
توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا
من علم الحديث، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية، واجتناب
الروايات الموضوعة والمنكرة والواهية، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل
والتعارض والترجيح فيها، وبيان ذلك في كتاب سهل العبارة، جامع لأهم ما
يحتاجون إليه من المصطلحات في الرواية والدراية، ووصف دواوين السنة من
المسانيد والصحاح والسنن، وكل ما يرشد إلى الاحتجاج والعمل، وأحسن أقوال
الحفاظ ورجال الجرح والتعديل وعلماء أصول الفقه في ذلك، وإنهم ليجدون كل
هذه المطالب في هذا الكتاب دانية القطوف، مع زيادة يندر فيها المكر ويكثر
المعروف.
وأما طريقة المؤلف في تدوينه فهو أنه طالع كثيرًا من مصنفات المُحَدِّثين
والأصوليين والفقهاء، والصوفية والمتكلمين والأدباء من المتقدمين والمتأخرين،
وكتب مذكرات فيما اختار منها في هذا الفن، وما يتصل به من العلم، ثم جمعها
ورتبها كما وصفناها، وقد وفى بعض المسائل حقها، ببيان كل ما تمس إليه حاجة
طلابها، وأوجز في بعضها واختصر، إما ليمحصه في فرصة أخرى، وإما
ليفوض أمره إلى أهل البحث والنظر، ولا غضاضة عليه في هذا، فإمام المحدثين
محمد بن إسماعيل البخاري قد سبقه في بعض أبواب جامعه الصحيح إلى مثله.
وقد فتح فيه بعد الخطبة المقدسة تسعة أبواب لمباحث الحديث من فضله
وعلومه ومصطلحاته ورواته وكتبه ومصنفيها ودرجاته وما يحتج به، وما لا يحتج
به، وحكم العلم به، وغير ذلك من المسائل في نوعي الرواية والدارية، فاستغرق
ذلك ٢٥٤ صفحة، وفتح الباب العاشر لفقه الحديث ومكانه من أصول الدين
والمذاهب فيه، وما روي وأُلِّف في الاهتداء والعمل به، فبلغت صفحاته بهذه
المباحث ٣٨٣ يليها الخاتمة، وهي في فوائد متفرقة يضطر إليها الأثري.
الكتب التي استمد منها هذا الكتاب:
وأما المصنفات التي استمد منها مباحث الكتاب ومسائله فأكثرها لأشهر علماء
الإسلام، من الأئمة المستقلين أو المنتسبين إلى المذاهب المتبعة في الأمصار
المعتمدة عند أهلها، وأقلها للمشهورين عند عوام القراء ومقلدة العمائم بالعلم
والعرفان، أو بالولاية والكشف والإلهام، لهذا تجد فيه كل فئة من القراء ما تنتقد
عليه نقله، من حيث تجد فيه كل فئة ما تعتمد ممن تقبل علمه ورأيه.
وأما المؤلف فغرضه من هذا وذاك أن تنتفع بكتابه كل فئة من هذه الفئات،
فأهل البصيرة والاستدلال يزدادون علمًا ونورًا بما اختاره لهم من كتب الأئمة
وعلماء الاستقلال، ولا يضرهم ما لا يوثق به من أقوال المقلدين ومدعي الكشف
والإلهام؛ ولكن الذين يقدسون هؤلاء يجدون من أقوالهم ونقولهم وكشفهم أنهم يتفقون
مع الآخرين على أن أصل هذا الدين الإسلام الأساسي المقدس المعصوم الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كتاب الله وكلامه (القرآن العظيم)
ويليه ما بيَّنه للناس بأمره من سنة رسوله خاتم النبيين، التي تواترت أو اشتهرت
عنه بعمل الصحابة والتابعيين وأئمة الأمصار، ويليها ما صح عند هؤلاء الأئمة من
حديثه صلى الله عليه وسلم المروي بنقل الثقات، وما دون هذا من الأخبار والآثار
التي اختلف الحفاظ في أسانيدها، أو استشكل فقهاؤهم متونها، فهو محل
اجتهاد.
ويجد قارئ هذا الكتاب من أقوال أصناف العلماء فيه ما لعله لا يجده مجموعًا
في غيره، وإنني أورد نموذجًا من مباحثه وطريقته في نقوله.
المذاهب في الضعيف والمرسل والموقوف:
من أهم هذه المباحث أقوال المحدثين في معنى الحديث الضعيف الذي وقع
الاختلاف في العمل به، فاستحبه بعضهم في فضائل الأعمال، والأخذ به في
المناقب، ومن فروع هذا الاختلاف أن الضعيف في جامع الترمذي دون الضعيف
في مسند أحمد، فيقبل من ضعاف المسند ما لا يقبل من ضعاف الترمذي؛ لأنها
تساوي الحسان فيه.
ومنها الاحتجاج بالحديث المرسل واختلاف المذاهب فيه، واستنثاء الجمهور
مراسيل الصحابة، وحجتهم وحجة مخالفيهم، والأقوال في الموقوف على الصحابي
الذي له حكم المرفوع، والذي يعد رأيًا له، والأقوال في عدالة جميع الصحابة في
الرواية عند جمهور أهل السنة وحجة مخالفيهم فيها، وغير ذلك من المسائل التي لا
يستغني عن معرفتها الذين هداهم الله في هذا العهد إلى الاهتداء بهدي محمد صلى
الله عليه وسلم على صراط الله الذي استقام عليه السلف الصالح وهي كثيرة.
وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى رأيه وفهمه في بعضها دون بعض، وما كان
لمن يعنى بكثرة النقل، وعرض وجوه الاختلاف في العلم أن يمحص المسائل كلها
فيه، ويكون له حكم الترجيح بينها، على أن رأي كل مؤلف في مسائل الخلاف ينتظم
في سلك سائر الآراء، والواجب على المطلع عليه من أهل العلم أن ينظر في دليله
كدلائل غيره، ويعتمد ما يظهر له رجحانه كما فعل المؤلف في بحث الجلال الدواني
في الحديث الضعيف وأبدى رأيه في الاختلاف فيه إذ قال:
(٣٥) بحث الدواني في الضعيف:
(قال المحقق الجلال الدواني في رسالته أنموذج العلوم: اتفقوا على أن
الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب
العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، وممن صرح به النووي في كتبه،
لا سيما كتاب الأذكار، وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام
الشرعية الخمسة، فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث
الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة) .
ثم نقل عن الدواني أن بعضهم حاول التفصي من هذا الإشكال، وتصحيح
كلام النووي بما أورده وناقش فيه، ثم نقل عن الشهاب الخفاجي مناقشته للدواني في
المسألة من شرحه للشفاء، ورد عليه ردًّا شديدًا فوق المعهود من لين الأستاذ
القاسمي بأن حكم على كل مناقشات الخفاجي بأنها عادة استحكمت في مصنفاته لا
يحظى واقف عليها بطائل، وأنه سود وجه القرطاس هنا، وأن كلام الجلال لا
غبار عليه، وأن مؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة، وختم الرد بقوله:
(فتأمل لعلك تجد القوس في يد الجلال، كما رآها الجمال) . اهـ.
وأقول: نعم إنها قد تحلت وتجلت بحلة الجلال والجمال، ولو أن الثاني حوَّل
نظره عن كتب هذه الطبقة الوسطى من العلماء المستدلين كالدواني والنووي
والمناقشة العلمية فيها، إلى كتب المناقب والفضائل لجامعي كل ما روي من
المحدثين، وكتب الأوراد والتصوف التي لفقها مَنْ دونهم من المؤلفين، لوجد فيها
من الغلو في الإطراء المنهي عنه والتشريع الذي لم يأذن به الله، ومن الاحتجاج
بأقوال الصوفية ومقلدة الفقهاء وعباداتهم المبتدعة، ما فيه جناية على عقائد الإسلام
القطعية، ومخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، ولوجدهم يحتجون عليها
بقول من قالوا: إنه يجوز الأخذ والعمل بالأحاديث الضعيفة، وهم لا يميزون بين
الضعاف التي ألحقوها بالحسن، والمنكرة الواهية التي لم يقل بالأخذ بها أحد،
والتي نقل لنا القاسمي عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وعن غيره من الإنكار
عليها ما نقل، ولعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا به.
الموضوعات والأحاديث غير المُخَرَّجَة:
عقد المؤلف المقصد ٤٨ من الباب الرابع للكلام على الحديث الموضوع بعد
أن تكلم على الحديث الضعيف بما نقلنا لبعضه عنه آنفًا، وأورد في هذا المقصد
١٤ مسألة، الخامسة منها فتوى الشيخ أحمد بن حجر الفقيه الشافعي في خطيب لا
يبين مخرِّجي الأحاديث نقلها من كتابه (الفتاوى الحديثية) ملخصة، فلم يذكر فيها
اعتماده على ما نقله عن الحافظ ابن حجر في منع ولي الأمر لهذا الخطيب من
الخطبة إذا لم يكن مُحَدِّثًا يروي الحديث بنفسه، فعلم بهذا أن ما اشترطه على نفسه
من التزام نقل الأقوال بحروفها أغلب لا مطرد، ثم قال:
(٣٦) ما جاء في نهج البلاغة من وجوه اختلاف الخبر وأحاديث البدع:
(سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عما في أيدي الناس
من أحاديث البدع واختلاف الخبر، فقال: (إن في أيدي الناس حقًّا وباطلاً،
وصدقًا وكذبًا، وناسخًا ومنسوخًا، وعامًّا وخاصًّا، ومحكمًا ومتشابهًا، وحفظًا
ووهمًا، ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبًا
فقال: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوا مقعد من النار) .
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: (رجل منافق مُظهر
للإيمان، متصنع بالإسلام، ولا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدًا) ... وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ... ، ثم بقوا
بعده عليه السلام، فقتربوا إلى الأئمة بعده [١] صلى الله عليه وسلم فولوهم الأعمال،
وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله) .
(ورجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه فوهم فيه) ... إلخ
(ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا يأمر به، ثم
نهى عنه وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ
لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه)
(وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله) ووصفه بجودة الحفظ
ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمتشابه ومحكمه، ما عني به رسول
الله صلى الله عليه وسلم من كل ذلك) ثم قال: (وقد كان يكون من رسول الله صلى
الله عليه وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما
عنى الله به، ولا ما عنى به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحمله السامع،
ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به، وما خرج من أجله، وليس كل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتى إن كانوا
ليحبون أن يجيء الأعرابي الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر
بي من ذلك شيء إلا سألت عنه وحفظته، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم
وعللهم في رواياتهم) اهـ (من ص ٤٥ و ١٣٦) .
(أقول) نقل المصنف عفا الله عنا وعنه هذا وسكت عنه، وقصاراه أنه لا
يصح أن يقبل من أحاديث الصحابة المسندة المرفوعة إلا بعض أفراد القسم الرابع
منهم، وظاهره أنه لم يوجد منه إلا فرد واحد هو صاحب الكلام، وكأنه شهد لنفسه
- إن صح إسناده إليه - ولمن عسى أن يكون مثله فيما أثبته لها بعد النفي، ووجود
مثله مشكوك فيه، ولو صح معناه لكان هادمًا لكل ما نقله المصنف من قبول
مراسيل الصحابة وموقوفاتهم التي قيل: إن حكمها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، وإن المرفوع من الوحي، بل مبطلاً لكل رواياتهم المرفوعة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، أو مشككًا في أكثرها ومبطلاً لأقلها، ولما نقله بعد ذلك في
الباب الخامس الذي فتحه لمباحث الجرح والتعديل من قول جمهور أهل السنة
بعدالتهم كلهم، بل هو عند واضعيه هادمًا لكتب الحديث كلها صحيحها وسننها
ومسانيدها، ولكل ما وضع لرواتها ورواياتها من كتب التاريخ والجرح والتعديل
والمصطلح والأصول، ولما استنبط منها من القواعد والآداب وأحكام الفروع،
فيكف ينقله ويسكت عنه؟ لعله لو طُبع الكتاب في حياته لحذفه منه أو لرد عليه.
رواية نهج البلاغة موضوعة ومن قال كله موضوع:
إنني على مخالفتي لمن قال من الحفاظ: إن نهج البلاغة موضوع بجملته على
أمير المؤمنين علي عليه السلام، وإن واضعه هو الشريف المرتضى أو الرضي،
وعلى ما عندي من النظر في مذهب من أطلقوا القول في الاحتجاج بمراسيل
الصحابة، والقول بأن ما وقفه الصحابي مما لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع،
وإطلاق القول بأن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول مع تعريفهم الصحابي بأنه
من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم، وما سبق لي من التحقيق في هذه
المسائل بمجلتي (المنار) إنني على هذا كله أجزم بأن الجملة التي نقلها الجمال
القاسمي هنا عن نهج البلاغة موضوعة على علي كرم الله وجهه؛ ولكني لا أقول
إن الشريف هو الواضع لها فالله أعلم بواضعها.
إن حفاظ الحديث لا يعتدون برواية لخبر نبوي ولا لأثر صحابي ولا لقول
محدث ولا فقيه إلا إذا كان له سند متصل رجاله معرفون يكون الحكم بقبوله أو رده
تبعًا لحال رجال هذا السند في ميزان الجرح والتعديل، وجامع نهج البلاغة لم يرو
شيئًا منه بالأسانيد المعروفة ولا المجهولة التي وجودها كعدمها عندهم، فلهذا كان
حكمه حكم الموضوع في أن رواياته لا يحتج بها على رأي المعزوة إليه، وإن كان
هذا لا يمنع أن يكون لبعضها أصل كما قالوا في الموضوعات والأحاديث المنكرة
والواهية؛ ولكن العمدة فيما يحتج به في الدين والعلم أن يكون له سند صحيح
متصل بقائله لا شذوذ فيه ولا علة، فلا يرد عليهم ما قاله المنكرون لحكمهم على
نهج البلاغة بالوضع من أن عدم السند المتصل له على طريقتهم لا يقتضي أن
يكون المروي كله أو جله كذبًا مفترى، وأن يكون ناقله هو المفتري له، ومن أن
بعض ما في النهج مذكور في كتب أخرى مؤلفة قبل جمع الشريف له؛ فإن
المحدثين يقولون في روايات تلك الكتب ما قالوه فيه.
ثم إن لعلماء فقه الحديث من وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدًا آخر لمتونها
من نواحي معانيها ولغتها وحكم العقل والشرع فيها وتعارضها مع غيرها،
ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ ويسمونه في
عصرنا النقد التحليلي، ومن ثم استشكلوا كثيرًا من الأحاديث حتى الصحيحة
الأسانيد تكلموا عليها في شروحها، وصنف بعضهم فيها كتبًا خاصة بها أشهرها
كتاب مشكل الآثار للطحاوي، وكلمة نهج البلاغة التي نحن بصدد البحث فيها لا
تثبت أمام هذا النوع من النقد، بل يكون مثلها فيه {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} (البقرة: ٢٦٤) ، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي
يَوْمٍ عَاصِفٍ} (إبراهيم: ١٨) لا تذر منه ذرة، لهذا نحكم بأنها موضوعة على
إمام الأمة الأعظم علي كرم الله وجهه، وإنني أشير في هذا التقريظ إلى المهم من
مستندات وضعها، فإن سهل المراء في بعضها لم يسهل في جملتها، فأقول:
مستندات وضع رواية نهج البلاغة:
(أولها) أنه لم يكن في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أحاديث في
البدع ولا في غيرها تتداولها أيدي الناس فتقبل دعوى سؤاله عنها؛ فإن الصحابة
رضي الله عنهم لم يدونوا الأحاديث ويلقوها إلى الناس، بل لم يصح عنهم أنهم
كتبوا عنها إلا قليلاً لم تتداوله الأيدي، أصحه صحيفته كرم الله وجهه التي كان
علقها بسيفه، فقد قال: (ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن
وما في هذه الصحيفة) رواه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة، وكان فيها تحريم
المدينة كمكة وأحكام العقل أي الدية وفكاك الأسير ولا يُقْتَل مسلم بكافر - كما في
روايات البخاري، وفي مسلم إن فيها (لعن الله من ذبح لغير الله) وزاد النسائي
وأحمد على ذلك.
وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة أنه قال: ما من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أحد أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان
يكتب ولا أكتب، والمحدثون لا يعدون ما يوجد في صحيفة محدث أو عالم رواية
صحيحة عنه، إلا إن حدث أنه سمعها من صاحبها، ويسمونها الوِجادة بالكسر،
واختلافهم في الاحتجاج بها معروف، ومن المشهور عندهم الاختلاف في رواية
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص،
قالوا: كانت عنده صحيفة فأنكروا عليه ما لم يصرح بسماعه من أبيه عن جده
وحملوه على النقل من تلك الصحيفة مع احتمال أن يكون ما فيها هو ما كتبه جده
عبد الله بن عمرو مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
(ثانيها) أن تقسيم الأخبار إلى ما ذكر، ولا سيما الناسخ والمنسوخ، والعام
والخاص، والمحكم والمتشابه، والحفظ والوهم وعلل الحديث تقسيم فني حدث بعد
الصحابة والتابعين مما اصطلح عليه المصنفون في أصول الفقه بعد الشروع في
تدوين الأحاديث، ولم يكن مما يدور على ألسنتهم، ولا مما يروونه عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وما ورد في القرآن من هذه الألفاظ لم يرد كله بهذه المعاني
الاصطلاحية التي حددوها حتى قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة:
١٠٦) الآية كما حققناه في تفسيرها، وكذلك المحكم والمتشابه، وما روي من
أثر القاضي الذي سأله علي عن معرفة الناسخ والمنسوخ بهذا اللفظ فقال: لا، قال:
هلكت وأهلكت، ما أراه يصح، فإنه لم يرو عن علي أنه كان يسأل قضاته عن ذلك،
ولا أنه كان يعلمهم إياه، وروي مثل هذا الأثر عن ابن عباس، وقد ورد في
النسخ آثار أخرى تدل على أن معناه عندهم أعم من معناه الاصطلاحي، وكانوا
يقضون بالقرآن، ثم بالسنة العملية التي قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم أو
الخلفاء من بعده، ولم يكن في أيديهم أحاديث قولية من موضوع بحثنا يقضون بها،
ويطلب منهم معرفة ناسخها من منسوخها مثلاً، وجملة القول في هذا النقد أن ذلك
الكلام في جملته مما يستبعد أن يجعله علي رضي الله عنه تفصيلاً لأنواع الأحاديث
التي قيل إنه سئل عنها، وإن كان معناه غير الاصطلاحي مما لا يعزب عن علمه
الواسع.
(ثالثها) أن حديث (من كذب علي متعمدًا) ... إلخ لم يكن سببه كذب
المنافقين عليه صلى الله عليه وسلم، ولا كان المنافقون يبالون بهذا الوعيد، وفي
القرآن ما هو أشد عليهم، وإنما هو للتحذير من جريمة الكذب عليه صلى الله عليه
وسلم، وأنه ليس كالكذب على غيره ليحتاط كل مؤمن فيه.
(رابعها) أن المنافقين الأقحاح الذين كانوا يستحلون الكذب عليه صلى الله
عليه وسلم كانوا كلهم من أهل المدينة وما حولها، ولم يكن في المهاجرين أحد منهم،
وأكثر كذبهم كان للدفاع عن أنفسهم، لا في رواية الأحكام الشرعية لغش المؤمنين
بها؛ فإن هذه الأحكام لم تكن تعنيهم، وكانوا يتربصون بهم الدوائر ظانين أن
الإسلام يزول بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بظهور المشركين أو الروم
عليهم، وقلما بقي إلى خلافة علي أحد منهم، فقد آمن أكثرهم قبلها بظهور أمر
الإسلام على الروم والفرس كما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد
شيء من رواياتهم فهو قليل فيما لا شأن له؛ خلافًا لما تتقوله الرافضة على الصحابة
حتى كبار المهاجرين منهم، ويحتجون بعبارة نهج البلاغة الموضوعة على رفض
أحاديثهم.
(خامسها) أن تهمة تقرب المنافقين إلى الأئمة الذين قبله رضي الله عنه
وعنهم وتوليتهم إياهم الأعمال وأكلهم الدنيا بهم، فيها نظر من وجوه، نعم إن من
المعلوم بالضرورة من تاريخه وسيرته كرم الله وجهه أنه لم يكن يثق بدين معاوية
وعمرو بن العاص اللذين توليا مصر والشام في إمامة عمر، وأنه كان يعتقد بحق
أنهما من طلاب الدنيا والملك؛ ولكنهما لم يكونا من رواة الأحاديث التي قيل إنها في
أيدي الناس في عهده، وليس فيما روي عنهما في الصحاح من بعده ما هو محل
تهمة وهو قليل، ليس لمعاوية في صحيح البخاري إلا ثمانية أحاديث، ولا لعمرو
إلا ثلاثة أحاديث، ولم يكونوا من المهاجرين الأولين فإن عَمرًا أسلم بين الحديبية
وخيبر أو في صفر سنة ثمانٍ ومعاوية أظهر إسلامه عام الفتح، وروى الواقدي أنه
كان أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه، والواقدي لا يحتج بروايته، وعلى كل فهما
ليسا من المهاجرين السابقين؛ ولكن الطعن في سياستهما بحق، لا يقتضي الطعن
في روايتهما بدون شبهة، بله الطعن في إيمانهما، ولقد كانت سيرة عمرو في مصر
حميدة ولا تزال محل إعجاب مؤرخي الإفرنج وغيرهم، فهل كان هذا إلا من هداية
الإسلام؟
(سادسها) أن الرجل الثاني من رواة الصحابة الصادقين الذي وهم في
حديثه ولم يكذب، والثالث الذي عرف الناسخ ولم يعرف المنسوخ، هما مما يحكم
العقل بإمكان وجودهما، وإن تعذر معرفة أشخاصهما، ونقاد الأحاديث من الحفاظ
والفقهاء هم الذين قاموا بما يجب من التمييز بين الروايات عن الجميع، ومن معرفة
سيرة الرراة كلهم ووزنها بميزان الجرح والتعديل؛ فلذلك لا يقبلون حديثًا ولا أثرًا
ليس له سند معروف كهذا الأثر وأمثاله من آثار نهج البلاغة.
(سابعها) قال في آخر الكلام عن القسم الرابع من رواة الصحابة وهو الفرد
الكامل في الصدق والضبط والعلم والفهم: (وليس كل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي
الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا) وهذا القول فيه نظر وبحث من وجوه
(منها) أنهم كانوا يسألونه ويستفهمونه عن كل ما يشكل عليهم حتى النساء لا تمنعهن
مهابته صلى الله عليه وسلم عن الواجب لاقترانها بلطفه وتواضعه، ومن استحيا من
سؤال كلف غيره أن يسأله عنه كما أمر علي المقداد بسؤاله عن حكم المذي إذ كان
كرم الله وجهه مذاء، وقد أغضبوه مرة لكثرة سؤالهم وهو على المنبر حتى سأله
بعضهم من أبي لشكه فيه فقال: (أبوك حذافة) رواه الشيخان، ومنها أنهم لم
يكونوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عما نهاهم الله ورسوله عنه من السؤال، وقد
فصلناه في تفسير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: ١٠١) من جزء التفسير السابع ص ١٢٥، ومنها أن سبب نهيهم عن
كثرة السؤال الثابت في الصحاح أنه يقتضي كثرة أحكام التكليف، والله ورسوله
يريدان التخفيف عن هذه الأمة، ومنها أن الأعراب لم يكونوا يعلمون هذا النهي
فكان أحدهم يسأل عن كل ما يخطر بباله ويرى أنه محتاج إليه، وكانوا كلهم يحبون
الزيادة من العلم فيعجبهم سؤال الأعرابي الطارئ، ولا فرق بينه كرم الله وجهه
وبين سائر علمائهم في شيء من ذلك، إلا أنه كان في الذروة منهم، وفي الآيات
والأحاديث الصحيحة ما يدل على ما قلنا، وهذه الأربعة تضم إلى ما قبلها وما
بعدها.
(وثامنها) أن هذا الكلام في جملته قد وضع بالاصطلاح الجدلي ليكون
أساسًا لمذهب الشيعة الإمامية في الطعن على الخلفاء الثلاثة وعلى (جمهور)
الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين نزل القرآن مصرحًا برضا الله عنهم
ورضاهم عنه، وبعدم الاحتجاج بالأحاديث المروية في الصحاح والسنن،
ويعارضه ما هو مخالف له من المروي عن علي رضي الله عنه بأسانيد الثقات في
اعتقاده وعلمه وعمله وتأييده وولايته للأئمة الذين قبله، وفي قضائه والأحاديث
المروية عنه، وفي أسلوب كلامه أيضًا، وله نظائر في نهج البلاغة وغيره مما
انفردوا بحكايته عنه وعن آله عليهم السلام من غرائب بأسلوب يشبه نظريات
المتكلمين وتكلفات المولدين.
كلام ابن أبي الحديد في شرح كلمة النهج:
هذا وإنني قد راجعت بعد كتابة ما تقدم شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة،
فرأيته يستشكل هذا الكلام، ويتكلف تصحيح معانيه؛ لأن شرحه للنهج مبني على
التسليم لروايته، ففرض بقاء بعض المنافقين بعد النبي صلى الله عليه وسلم،
ومخالطة حديثه صلى الله عليه وسلم كذب كثير منهم بقصد الإضلال على ما بينه
من اشتغالهم بالحروب والفتح والغنائم عما كانوا ينقمونه من أمور الإسلام وتصريحه
بأنه قد صح إيمان بعضهم.
والحق أن أكثر الموضوعات في هذا الباب كان من مبتدعة الرافضة
والخوارج وغيرهم، وقد قال (ابن أبي الحديد بعد ذكر هذا من ص ١٥ مجلد ٣) ما
نصه:
(وقد قيل: إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه، ولم
يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيرًا من هذه
الأحاديث الموضوعة، وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم، إلا أن
المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون في الطعن على أحد
من الصحابة؛ لأن عليه لفظ الصحبة، على أنهم طعنوا في قوم لهم صحبة كَبُسْر
بن أرطأة وغيره.
(فإن قلت: من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه للزور والبهتان؟ هل هذا إلا تصريح بما
تذكره الإمامية وتعتقده؟ قلت ليس الأمر كما ظننت وظنوا، وإنما يعني معاوية
وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من رواه في حق
معاوية)
(وذكر بعض أحاديث الفضائل وقول الباقر فيها ثم قال (في ص ١٧) :
(واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة؛ فإنهم
وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة
خصومهم (وأشار إلى بعضها ثم قال) فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة
وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث) (وأشار إلى بعضها برأيه)
والمحدثون بينوا كل ذلك، ولم يكن فيهم طائفة تسمى البكرية.
ثم أقول: كإن هذا التقسيم الذي قاله صحيح في جملته واستدلاله، وإن
أسلوبه الكلامي والمنطقي قوي؛ ولكن علمه بالروايات ضعيف، فالرجل معتزلي
متكلم ومتشيع غير محدث، والأحاديث الموضوعة في العقائد وأصول الأحكام
والتفسير لم يضع أحد من الصحابة شيئًا منها، لا مؤمنوهم الصادقون وهم السواد
الأعظم ولا منافقوهم القليلون الذين ربما كانوا قد انقرضوا عند وضعها؛ وإنما
وضعها الزنادقة من مسلمة اليهود والمجوس وملاحدة الشيعة الباطنية لا الإمامية.
ولكن الإمامية خُدعوا بالكثير منها لظنهم أن أولئك الملاحدة منهم، وأن أكثر
الصحابة كانوا أعداء لعلي وأهل بيته فلا يوثق بروايتهم، مع قلة علمهم بنقد
الروايات، وقد اشتهر الشيعة بالكذب عند المحدثين والمؤرخين حتى الإفرنج، وأهم
أسبابه ما أشرت إليه، وحسبي هذا الاستطراد الضروري في تقريظ كتاب (قواعد
التحديث) وأعود إلى بيان أهم فوائده فأقول:
أهم فوائد الكتاب المقصودة منه بالذات:
الجمال القاسمي رحمه الله تعالى من المصلحين المجددين في هذا القرن
(الرابع عشر للهجرة) وغرضه الأول من هذا الكتاب بث هداية الكتاب والسنة في
الأمة على منهاج السلف الصالح وتسهيل سبيلها، وما أهلك المسلمين في دينهم
ودنياهم إلا الإعراض عن هذه الهداية التي شرع الله الدين لأجلها.
ولهذا الإعراض سببان أهونهما الجهل البسيط وهو عدم العلم بما خاطب الله
الناس في كتابه، وبما بيته لهم ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بسنته وهديه،
وبما كان عليه أهل العصر الأول عصر النور من الاهتداء بالكتاب والسنة علمًا
وعملاً وخلقًا وجهادًا وفتحًا وحكمًا بين الناس، وأعسرهما وأضرهما الجهل المركب
وهو التعليم التقليدي لكتب المتأخرين من المتكلمين والفقهاء والصوفية، والاستغناء
بها عما كان عليه السلف، ومنهم أئمة الأمصار من المحدثين والفقهاء بشبهة
شيطانية، هي أن فهم الكتاب والسنة خاص بالمجتهدين، وأن المتأخرين من العلماء
أعلم بما فهمه المصنفون المقلدون للأئمة في القرون الوسطى، وأولئك أعلم بما
فهمه الأئمة المجتهدون منهما مباشرة، وأن العلماء على طبقات في تقليد بعضهم
عدها بعض متأخري الفقهاء خمسًا، وعدها الشعراني من متأخري الصوفية ستًّا،
كل طبقة تحجب أهل عصرها عما قبله، حتى تجرأ بعض من يؤلفون ويكتبون في
المجلات ممن أعطوا (لقب كبار علماء الأزهر) - وهم الطبقة العاشرة على
حساب الشعراني - على التصريح في عصرنا هذا بأن من يؤمن بآيات القرآن في
بعض صفات الله تعالى على ظاهرها يكون كافرًا (! ! !) وتجرأ بعض من قبله
منهم على التصريح في مجلس إدارة الأزهر بأن من يقول إنه يعمل بما صح من
الأحاديث على خلاف فقهاء المذهب فهو زنديق - كما بيناه في المنار وفي تاريخ
الأستاذ الإمام - وهؤلاء يكرهون علم الحديث وأهله، وقد صرح الحفاظ الأولون بأن
الوقيعة في أهل الأثر من دأب أهل البدع كما نقله المؤلف (في ص ٣١) .
نقوله ودروسه وغرضه الإصلاحي فيهما:
نقل لنا الجمال القاسمي - بحسن اختياره وجماله وقسامته في إرشاده -
نصوصًا من كتب أشهر الأئمة من علماء الملة المستقلين، وكتب المنتسبين إلى
مذاهب الكلام والفقه والتصوف المقلدين، صريحة في اتفاق الجميع على وجوب
الاهتداء والعمل بكتاب الله وسنة رسوله واتباع سلف الملة في الدين، وعلى خطأ
من يخالفهم في هذا بما يقطع ألسنة الذين يصدون عن سبيل الله من عميان الجهل
المركب: الذين لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، وهم الذين وصفهم أبو
حامد الغزالي بقوله: (وأولئك هم العميان المنكوسون، وعماهم في كلتا العينين) ،
فهذه حكمة نقله عن كل طبقة من العلماء المشهورين حتى المعاصرين له، ولنا من
المصنفين ومحرري المجلات العلمية ومنها المنار ومما نقله عنه ما ترى في ص
٢٥٠؛ ولكنه لم يصرح باسمه ولا باسم صاحبه خوفًا من الحكومة.
وصفتُ الأستاذ القاسمي في ترجمة المنار له بالإصلاح، ورددت على من
ينكر على هذا الوصف بما بينت به طريقته فيه، واستنبطت مما اطلعت عليه من
كتبه ومن حديثي معه أربعًا من مزاياه في الاستقامة على هذه الطريقة:
(أولاهن) سبب تدريسه لبعض الكتب المتداولة كجمع الجوامع وكتب السعد
التفتازاني وما هي كتب إصلاح، بل فنون اصطلاح أشبه بالألغاز.
(الثانية) الاستعانة بنقول بعض المشهورين على إقناع المقلدين والمستدلين
جميعًا من المعاصرين بما يقوم عليه الدليل.
(الثالثة) أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصره في دروسه
ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة بلا زيادة ولا نقصان.
وذكرت شاهدين من شعره على مذهبه هذا.
(الرابعة) أنه كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف،
واتباع ما يقوم عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل.
وقد أطلت في هذه بما لم أطل فيما قبلها، وذكرت ما أنكره عليه بعض متبعي
السلف من أنه خالفهم في كتابه (تاريخ الجهمية والمعتزلة) وكتابه (نقد النصائح
الكافية) وبينت ما توخاه من التأليف بين فرق المسلمين الكبرى فيهما، بما لا محل
لإعادته هنا، وإنما ذكرت هذا الموضوع لأذكر به من يستنكر مثله في هذا الكتاب،
وقد نقل فيه عن داعية السلف المحقق العلامة ابن القيم سبقه إلى مثله وتصريحه
بأن في كلام كل فرقة ومذهب حقًّا وباطلاً.
كذلك: وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله بعده كتاب (توجيه
النظر إلى أصول أهل الأثر) وهو في موضوع (كتاب قواعد التحديث)
والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سيين في سعة الاطلاع، وحسن الاختيار، إلا
أن الجزائري أكثر اطلاعًا على الكتب، وولوعًا بالاستقصاء والبحث، والقاسمي
أشد تحريًا للإصلاح، وعناية بما ينفع جماهير الناس، فمن ثم كان كتاب الجزائري
وهو أطول قاصرًا على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي
قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء
بما لم يفعله القاسمي؛ ولكنه أطال كل الإطالة بتلخيص (كتاب علوم الحديث)
للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعًا، ثم بما لخصه من (كتاب علل
الحديث) لابن أبي حاتم الرازي، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة
الحديث إلى الكلام في (الخط العربي) وتدرجه بالترقي إلى وصوله للكمال الذي
عليه الآن، وما يحتاج إليه بعد هذا الكمال من علائم الوقف والابتداء، وهو على
إطالته في هذا الفن لم يراعه في العمل، فكتابه كأكثر الكتب القديمة، وكتاب
القاسمي كما علمت في تقسيمه وتفصيل عناوينه، والبياض بينها لتسهيل المطالعة
والمراجعة، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة، كما
أنه أكثر جمعًا، وأعم نفعًا، وخلاصة القول في تقريظ هذا الكتاب أننا لا نعرف
مثله في موضوعه وسيلة ومقصدًا، ومبدأ وغاية، فنسأل الله تعالى أن يحسن جزاء
مؤلفه وطابعه، وأن يوفق الأمة للانتفاع به.