للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأبين أحمد زكي باشا

أُلِّفَتْ في القاهرة لجنة من رجال الأدب لتأبين أحمد زكي باشا المشهور في
الأقطار (بلقب شيخ العروبة) ، وكان الاحتفال بعد تمام الاستعداد له بدار (الأوبرة
الملكية) في مساء ١٣ شوال الماضي الموافق ١٨ يناير (ك٢) سنة ١٩٣٥ م
تحت رعاية وزير المعارف أحمد نجيب بك الهلالي أُلقيت فيها بضع خطب وبضع
قصائد لأدباء العربية في مصر وغيرها من الأمصار , وكان موضوع كلمتي (أحمد
زكي باشا والدين) وهذا نصها بالتقريب.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة والسيدات
لا تنتظروا أن تسمعوا مني تأبينًا بليغًا للمرحوم أحمد زكي باشا كالذي
تسمعون من إخواني الخطباء أعضاء لجنة التأبين، فليس هذا من دأبي، وموضوع
كلمتي لا يدخل في باب المناقب ولا يتسع لها، ولا تباح فيه المبالغات الشعرية؛
فإنه خاص بما كان بينه وبين ربه عز وجل.
جعل إخواني أعضاء اللجنة مناقب الفقيد العلمية والعملية موضوعات معدودة
واقتسموها بين الخطباء منهم، ورغبوا إليّ أن أختار لنفسي موضوعًا أقول فيه
كلمة أقضي بها حق مودته عليّ، وبعد اعتذار لم يقبلوه مني اخترت أن أجعل
عنوان كلمتي (أحمد زكي باشا والدين) ولعلهم لم يذكروا هذا في مناقبه؛ لأنهم
يريدون بتأبينه أن يعرضوا على الناس ما كان له من صلة بهم وخدمة لهم.
ولكن رأيي واعتقادي أنه يجب الإلمام فيه بجميع جوانب تاريخه، وأنه لو
أمكن أن يستشار الآن فيما يُذْكَر به لكان ذكر صلته بربه آثر عنده وأحب إليه، وأن
الذين يحبون معرفة سيرة رجل مثله يودون أن يعرفوا هذا الجانب منها وهو
أعلاها، وربما يظن كثير منهم أن الرجل المدني العصري مثله يكون غير متدين.
وأظن أنني أعلم أصدقاء أحمد زكي بما كان من مكانة الدين من نفسه؛ فإن
أول عهدي بمعرفته أن التقينا في سنة ١٩١٦ هـ ١٨٩٩ م عند المرحوم إبراهيم
باشا نجيب وكيل الداخلية، وقد أخبره الباشا الذي عقد عروة التعارف بيننا وهو
الرجل العظيم الشيخ محمد عبده إذ طلب منه أن يرشده إلى عالم يعرف الدين
معرفة صحيحة معقولة ليكلفه تلقينه لنجليه (مصطفى وإسماعيل) فكان هذا
التعريف سببًا لتوادنا، ورغبته في قراءة المنار، ودامت الموادة بيننا لم يعرض لها
انفصام (وكان من قضاء الله تعالى وقدره أن كان المتكلم هو الإمام للذين صلَّوا
على الفقيد صلاة الجنازة، ولم يذكر هذا في الكلمة، بل سبق ذكرها فيما كتبت عن
وفاته) .
فأنا ألقي على حضرتكم كلمة وجيزة فيما خبرت من تدينه، بعد مقدمة
مختصرة في بيان أن للدين أعظم تأثير في أعمال الناس الخاصة والوطنية وأنواعها،
حتى العسكرية والسياسية منها، وأعظم تأثيره هو الإخلاص والصدق والأمانة؛
فإن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر والجزاء فيه قلما يعمل إلا لمنافعه الشخصية من
المال والجاه.
أما هذه المقدمة فهي شهادة على معنى قولي هذا، شهد بها رجل من أعظم
رجال أوربة الذين قاموا بأعظم الأعمال السياسية الدولية لأمتهم ووطنهم وهو
البرنس بسمارك مؤسس الوحدة الألمانية نقلها لنا عنه أعظم رجال أمتنا في مصر
وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، رجل الإصلاح الديني والوطني الأكبر،
الذي ربى كثيرًا من رجال الدين والوطنية، ومنهم الزعيم الوطني العظيم سعد باشا
زغلول، والعلماء الذين لا يُرجى إصلاح الأزهر إلا بهم، ترجمها الإمام من
(كتاب وقائع بسمرك التي نشرها بعد وفاته أمين سره موسيو بوش) ونُشِرَتْ
ترجمتها في (رمضان سنة ١٣١٦ هـ يناير سنة ١٨٩٩) من السنة الأولى للمنار.
اتفق على هذه الشهادة أعظم رجال الشرق والغرب، ولخصت منها اليوم على
اختصارها ما يكفي لإثبات ما أريد عرضه هنا للغرض الذي ترجمها الإمام ونشرناها
لأجله، إذا قال بعد ذكر إطلاعه على كلام بسمارك:
(فاستحسنت ترجمته ليطلع عليه من لم يعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا
الذين يرون أن النسبة إلى دينهم سبة، والظهور بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن
الإيمان بالله وبوحي إلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح
العلم، ولا عيبًا في الرياسة ولا ضعفًا في السياسة.
كان هذا الكلام من البرنس بسمارك على مائدة الطعام عنده، وكان سببه
سقوط شيء من مرق الطعام على غطائها، فقال البرنس كلامًا خلاصته أن قلب
الجندي يشرب الإيمان، فيغوص فيه كما غاص هذا المرق في نسيج هذا الغطاء،
فيكون هو الذي يحمله على بذل روحه في الدفاع عن وطنه.
فقال أحد جلسائه: أتظن سعادتكم أن الجندي يخطر بباله هذا في ميدان القتال؟
قال: لو كان يخطر بباله لما كان هو ذلك الوجدان الفطري) ... إلخ.
ثم قال بسمارك في سياق حديثه ما نص ترجمته بالعربية مختصرًا:
(إنني لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم
من الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه إن لم يكن لهم إيمان
بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في
الأعمال في حياة بعد هذه الحياة) ثم قال:
(لو نقضت عقيدتي بديني لم أخدم بعد ذلك سلطاني ساعة من زمان، إذا لم
أضع ثقتي في الله، لم أضعها في سيد من أهل الأرض قاطبة)
(لو لم يكن لي إيمان بالعناية الإلهية التي قضت بأن يكون لهذه الأمة
الألمانية شأن كبير، وأثر في الخير عظيم، لطرحت لساعتي ما حملته من أثقال
وظائف الحكومة) .
ماذا أقول؟ بل لولا ذلك الإيمان لما قبلت شيئًا من هذه الوظائف؛ لأن الرتب
والألقاب لا بهاء لهما في نظري، ولولا يقيني بحياة بعد الموت ما كنت من حزب
الملكية، لو لم يكن هذا اليقين لكنت جمهوريًّا بالفطرة، يتبين ذلك من الغارات التي
أشنها على هنات (خصال الشر) رجال الحاشية من مدة تزيد عن عشر سنين،
من هذا يظهر أن إيماني قد بلغ من القوة أعلاها حتى حملني بقوته على أن أكون
ملكيًّا، اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني، اهـ المراد منه.
وقد استدل على كلامه بثروته الموروثة، ومجده المورث، ومحبته للحياة
الخلوية الزراعية، حتى قال: إن الأسرة المالكة في بلاده ليست أنبل من أسرته.
بعد هذا التمهيد أذكر لكم ثلاث شهادات وجيزة على تدين فقيدنا في أول عهدي
به ووسطه وآخره (الأولى) أننا كنا في أول عهدنا نتلاقى كثيرًا في ليالي رمضان
مع جماعة من الأصدقاء كلهم يصومون ويصلون، وكان أكثر سمرنا فيها البحث في
المسائل الدينية؛ إذ كانوا يسألون من تعجبهم أجوبته عن المشكلات التي تثيرها
المعارف العصرية على الدين، فكانت هذه المباحث وقراءة المنار هما الباعثان
للفقيد رحمه الله تعالى على المراجعة الخاصة بيننا في المسائل الدينية عند الحاجة،
ومنها أنه دارت بينه وبين علماء الشرائع والقوانين الفرنسيس بباريس في صيف
سنة ١٩٠٤ محاورة في عشر مسائل سألوه عن رأيه فيها، منها بحث الاجتهاد في
الفقه، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند أهل التحقيق، ومعنى القانون والفرق بينه
وبين الشريعة، فاستمهلهم ريثما يكتب إلى بعض أولي الاختصاص في مصر،
ويدلي إليهم بجوابهم عنها، وأرسلها إلى صاحب المنار فأجبته عنها وأرسلتها إليه
فترجمها لهم، ثم أخبرني بأنها كانت كافية ومقنعة، وهي منشورة في المجلد السابع
للمنار سنة ١٣٢٣ تحت عنوان (الأسئلة الباريسية) والغرض من هذا أنه كان
يهتم بالدفاع عن الإسلام وبإقامة حجته، فهذا بعض عهدي به في وسط عشرتنا
شهدت به.
وأما آخر ما أشهد به كغيري فهو ما سبقني إلى التنويه به في قصيدته الأستاذ
خليل بك مطران، وهو أنه عُني في آخر عمره ببناء هذا المسجد المحكم على
أحدث قواعد الفنون لِيُذْكَر بعد موته إلى ما شاء الله من عمر الدنيا.
فإن قيل: إن في هذا ما فيه من حب الشهرة؛ فإنني أكاشف هذا الجمع بسر
أفضى به إليّ قلما يعرفه أحد، وهو أنه قد فعل في هذا القبر - بباعث الشعور الديني
الكامن في أعماق النفس؛ حتى أشربته في أخفى مكان من سويداء القلب - ما لعله لم
يخطر في بال أحد من الغلاة في التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وأقول: إنه ليس
بمشروع في هذا الشرع المبين.
ذلك أنه عندما كان في مكة المكرمة كلف المرحوم الشيخ عبد القادر الشيبي
أمين مفتاح بيت الله الحرام أن يرسل إلى غار حراء من يكنسه ويجمع كناسته
ويحفظها في وعاء ففعل، فأخذها وبذل له من الجعل أو الإكرام ما بذل، ثم جاء
بهذه الكناسة ووضعها في القبر الذي أعده لدفنه تبركًا بها، للقدوم على الله في الدار
الآخرة معفرًا بغبار الغار الذي كان يتحنث فيه ونزل عليه الوحي أول مرة وهو فيه
رسوله محمد خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين
لهم إلى يوم الدين. آمين