للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأزهر الأزهر
الانقلاب الأكبر

أحمد الله عز وجل أن حقَّ رجائي وصدق مقالي الذي بسطته في تصدير
كتاب (المنار والأزهر) إذ بينت أن الشيخ الظواهري قد بلغ من إفساده الغاية،
وأنه لا يوجد في العلماء من هو أهل لرياسته وإصلاح هذا الفساد غير واحد يعرفه
أهل الأزهر كلهم ويعرفه غيرهم، ووصفته بصفاته التي لا يجرؤ أحد أن يدعيها
لغيره، بعد أن صرحت بهتاف مجاوري الأزهر في ثورتهم باسمه ولقبه.
ثم نصحت لهم قائلاً:
إخواني: إنكم ستنالون ما ترضون: من تولي من تمقتون عنكم، وتولية من
تحبون عليكم، لا بقوة مظاهرتكم لزيد وتظاهركم على عمرو؛ بل لأنه الحق
والخير والمصلحة؛ ولأن الأمة الإسلامية كلها معكم فيه؛ ولأنكم في عهد وزارة
تقدر هذه القوى الأربع قدرها، وجديرة بأن ترضي الله بإرضائها ... إلخ ما قلنا
وما هو ببعيد.
نشرت هذا التصدير في الجزء السادس من منار هذا المجلد (٣٤) الذي
صدر في آخر شهر شعبان (سنة ١٣٥٣) وحدث بعد ذلك من الأحداث ما جعل
بعض الناس يظنون أن قدم الشيخ الظواهري في الأزهر أرسخ من قدم محمد توفيق
باشا نسيم في الوزارة، وأن مجلس الأزهر الأعلى في تأييد شيخه الظواهري
وإخضاع العلماء والطلاب له أذلة مرغمين، أو يحرمهم من كل ما لهم من حقوق
العلم والدين، فقلت في آخر الجزء الذي قبل هذا وهو التاسع الذي صدر في سلخ
ذي الحجة (إن الشيخ الظواهري سيخرج من الأزهر مذؤومًا مدحورًا، ولا يجد له
من مجلسه الأعلى، ولا من غيره وليًّا ولا نصيرًا) وكذلك كان فقد قضى الله أن لا
يمر هذا الشهر (المحرم سنة ١٣٥٤) حتى يخرج الظواهري منه مذؤومًا مدحورًا،
ويتولى رياسته الأستاذ الأكبر المصلح الشيخ محمد مصطفى المراغي مؤيدًا
منصورًا.
لا غرو فما نحن ممن يرمي الأقوال على عواهنها، ويتبع فيها هوى النفس،
وإنما نتكلم عن سنن الله عز وجل في الاجتماع، وما هذه الكلمة في بابها ولا هذه
اليتيمة بالفذة بين أترابها، فقد كتبت في الجزء الرابع من المجلد ٢٩ (الذي صدر
في سلخ المحرم سنة ١٣٤٧) عن توليته للمشيخة بعد الثناء على دولة مصطفى
باشا النحاس باختياره لها:
(إن بيان ما أجملته من الحكم بأن هذا المنصب لا يصلح في هذا الوقت إلا
هذا الرجل، يتوقف تفصيله على بيان حالة الأزهر من نواحيها المتعددة، وبيان مزايا
الشيخ العقلية والإدارية، ومعرفته بحالة العصر من نواحيها المختلفة، وما يحتاج
إليه الإسلام من التجديد والإصلاح، وفوق هذا كله استقلاله في فهم الدين والعلم،
فهو في الذروة العليا من نجباء تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله، فعسى أن يجعله الله
هو المتمم لما بدأ به أستاذه وأستاذنا من إصلاح الأزهر) .
ونشرت في الجزء الخامس الذي صدر في سلخ ربيع الأول من تلك السنة
مذكرة الأستاذ في إصلاح الأزهر التي قدمها للحكومة، وقرر فيها بما أوتي من
الشجاعة (أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد
صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر أن يغير التعليم في المعاهد، وأن
تكون الخطوة إلى هذا جريئة يُقْصَد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي ما تحدثه من
ضجة وصريخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بصريخ) .
وكتبت في الجزء السابع الذي صدر في سلخ جمادى الأولى منها مقالاً في
(إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد) بينت فيها وجوه حاجته إلى الإصلاح،
وتأثير رياسة المراغي في ذلك؛ حتى تعلقت به آمال الشعوب الإسلامية، وشخصت
له أبصار الشعوب الأوربية.
ثم نوهت في فاتحة المجلد الثلاثين الذي صدر في المحرم سنة ١٣٤٨ ببشائر
الإصلاح، والرد على الشامتين من دعاة النصرانية الذين صرحوا في بعض
صحفهم وكتبهم بأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان
لها المجال الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم
الجامدين، قالوا: (ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين، لا يقدرون أن
يجهروا بأفكارهم لقلة عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .
ثم قلت: (وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون
بالإسلام والمسلمين، بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها على رؤوس المصلحين،
وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام، ونوابغ مريديه الأعلام،
وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وقد لقي
من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة بقدر ما كان يلقى الشيخ محمد عبده
نفسه من المناهضة والمعارضة ... إلخ، ومنه أن رسالة التوحيد صارت تُقْرَأ في
القسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي التفسير فيه)
على أن تلك السنة (١٣٤٨) لم تنتصف إلا وقد انتصفت منا فتن الدهر
باستقالة الشيخ المراغي من هذه الرياسة، فكتبت في الجزء السادس الذي صدر في
سلخ جمادى الآخرة منها بصفحة واحدة ذكرت فيها ما راع العالم الإسلامي من نبأ
استقالته، وما أكبروه من خلقه العالي بها، وصرحت بأنه (لابد للمسلمين أن
يستفيدوا من مواهبه في يوم من الأيام) .
نعم، وها هو ذا قد طلع صباحه وذر قرن شمسه، وحق إلهام المنار، وصدق
قوله.
حكمة الفصل بين الرياستين:
كل ما قرره الأستاذ المصلح في مذكرته للحكومة من سوء حالة الأزهر
والمعاهد الدينية، وشدة حاجتها إلى الإصلاح، بل حاجة الدين الإسلامي إليه كان
قليلاً بالنسبة إلى ما أدخله عليه الشيخ الظواهري بعد ذلك من الفساد والإفساد في
التعليم والإدارة، والنفاق والشقاق في العقائد والأخلاق، حتى قال أحد كبار العلماء
الواقفين على الدخائل إنه لا يمضي على هذه الحال خمس عشرة سنة، ويبقى في
الأزهر ومعاهده أحد يعرف حقيقة الإسلام، وكان كلما اشتد الفساد اشتدت دعاية
شيخ الأزهر في إطراء الأزهر، وتعليم الأزهر، وإصلاح الأزهر! !
لو أن الشيخ الظواهري عرف قدر نفسه، وطور وقته فاستقال من رياسة
الأزهر والمعاهد عقب استقالة الوزارة الممقوتة رغم أنفها، حتى لا يضطر إلى
الاستقالة رغم أنفه لخفي على كثير من أهل الأزهر وغيرهم كثير من مساويه،
ومن ريائه، ومن دعايته الباطلة التي كان يضل بها الناس عن إفساده، ولما علم
الناس بأخلاقه ودخائله وما علموه بإصراره على غيه من إقدامه على إذلال أهل
الأزهر كافة من الشيوخ المدرسين، ومن الشبان المجاورين له أو حرمانهم من العلم
والدين والرزق إذا لم يقبلوا الذل بالخضوع والخنوع لمن يعتقدون فساده وإفساده لهم
ولمعاهدهم، ولقد كان ظهور هذه الغاية السوءى لهم خيرًا من بقائها خفية عليهم.
ولو أن الشيخ الظواهري استقال من أول الأمر، لكان من الممكن أن يخلفه
من لا يقدر على إدارة الأزهر وإصلاح ما فسد فيه من الشيوخ المشهورين، فإما أن
تتجدد الثورة لمقاومته، فَيُصَدِّق جماهير الناس قوله وقول أعوانه في أهل الأزهر
إنهم ثوار متمردون، وإما أن يخضعوا فيستمر الاستبداد، وما ولده من الإفساد وكل
منهما شر منافٍ للمصلحة.
فإصرار الظواهري على غيه وبغيه كان شرًّا له وخيرًا للأزهر ومعاهده
وللإسلام والمسلمين، وكان خير ما فيه انتهى إليه من اقتناع جلالة الملك كالحكومة
والأمة بأنه لا يوجد في العلماء أحد يصلح لهذه الرياسة إلا الشيخ محمد مصطفى
المراغي، وأن من الضروري أن يعهد بها إليه، ويعطى حق الاستقلال فيها، كما
اشترطه في مشيخته الأولى التي استقال منها مختارًا عندما نوزع في استقلاله.
إن خير ما استفاد الأزهر من سوء سيرة الظواهري أنه تألم منها، وشعر
بسوء عاقبتها فثار في وجهها وهب لمقاومتها، وخير من هذا أنه عرف الرجل
الوحيد الذي يرجى أن ينقذه منها، وصرح بطلبه وجعله الركن الركين لثورته، فلم
تكن كثورة الطفل الذي يشكو ألم المرض ويأبى الدواء، بل عرف المرض وعرف
الطبيب النطاسي الذي يجب تفويض أمر العلاج إليه، وحاول الهدم لأجل البناء،
وجمع كما يقول علماؤه بين التخلية والتحلية، فهذه فائدة ثورة الأزهر التي رجوت
خيرها، وكنت أرد على كل من يستنكرها وينكر على أهلها صورتها وشكلها
ويخشى سوء عاقبتها، وإن كانوا موقنين أنهم على حق فيها.
ذلك بأن الأزهر كان كالمصاب بداء السل أو مرض السكتة، يبرح به الداء
ويهوي به إلى الفناء وهو لا يشعر، وكان هوى السلطان يعبث به، فيميل معه
كيف شاء، ولقد جاء المصلح الحكيم الأول (الأستاذ الإمام) فكان الشيوخ يواتونه
ما كان السلطان راضيًا عنه، فلما رأوه معه بين بين صاروا يدارونه في الإدارة
لقوة حجته، ولا ينفذون له ما يقتنعون به، حتى إذا أظهر الأمير له العداء تظاهروا
كلهم عليه، وأجمعوا على أن الأزهر معهد ديني محض لا يجوز الاشتغال فيه بغير
العبادة وعلومها، لا علاقة له بأهل الدنيا ولا بعلومها، حتى رضوا أن يكون
للقضاء الشرعي مدرسة مستقلة يدير أمر التربية والتعليم فيها ناظر مدني لا ديني،
ثم جاء طور آخر فوض أمره إلى الحكومة، ووضع له قانونًا جديدًا أخضع له
جميع الشيوخ على علاته.
جمود الأزهر بالأمس وثورته اليوم:
كان الأزهر يتقلب في هذه الأطوار ويعبث به الأمير وحده، ثم تعبث به
حكومته بأمره، وشيوخه كما قلنا ليس لأحد منهم في ذلك رأي، والطلاب لا
يشعرون بما يُراد بهم من خير أو شر، وعلم أو جهل، فاستقال المصلح الحكيم
الأستاذ الإمام من إدارته، فاهتز مسلمو الهند لاستقالته، وأنحوا بالتثريب والتأنيب
على الأمير وحكومته، وعلى علماء الأزهر وعلى الأمة المصرية، ولم يرتفع
للأزهر صوت ولو ثار أهله عُشر ثورتهم هذه، وأرادوا بها بقاء الإمام وعدم قبول
استقالته لَتم لهم ما أرادوا، فقد كانت الحرية يومئذ أتم منها اليوم.
فالفضل الأكبر في إيقاظ الأزهر من نومه، وفي ثورته الحية الشريفة لسوء
إدارة الشيخ الظواهري وعناده، وإصراره على ما كان من استبداده، ومطاردته
للعلماء والمجاورين في الجامع الأزهر نفسه، حتى جعل الجند والشرطة يدخلونه
بنعالهم، ويخرجون طلابه من المسجد ومن حجراتهم مقهورين حاسري الرؤوس
حفاة الأقدام، يعتلونهم إلى السجون كقطاع الطرق والمجرمين عتلاً، ويسومونهم
خسفًا وذلاً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} (البقرة: ١١٤) .
لا أبغي الآن أن أعيد ذكر تلك المساوي لبيان ما كان من مفاسدها، وإنما أريد
أن أحمد الله على حسن عاقبتها بخذلان فاعلها، وإبطال كيده للإسلام ومعاهده، وأن
أُذَكِّرَ أهل الأزهر بما يجب عليهم من حمد الله وشكره أن بدلهم بذلك الشر خيرًا،
وبذلك الإفساد إصلاحًا؛ فإنه إذا أراد بقوم خيرًا جعل لهم النقم عبرة وتمحيصًا،
ومن النعم تربية وتأديبًا، ووسد أمورهم إلى أهلها، ويسر لهم القيام بحقها.
نصيحتي الثانية للأزهر:
وإني لأقول لهم كلمة نصح ثانية لعلهم لا يسمعونها من غيري في طور هذه
النعمة، كالكلمة التي قلتها في حال اشتداد الثورة، وإني لأشد يقينًا بصحة هذه مني
بتلك، وقد نطق الزمان بصدقها، أقول: إنكم نلتم خير ما طلبتم بثورتكم في خير
الأحوال من نفي وإثبات، وسلب وإيجاب، وهو ما أيدتكم به الأمة ورضيته
لكم وأجابت الحكومة وجلالة الملك إليه، وهو أهون الأمرين اللذين يتوقف عليهما
إصلاح الأزهر، وبقي أشقهما وأعسرهما، وهو استعدادكم لقبول الإصلاح الذي
اتفقتم والأمة على أنه قد وسد إلى خير أهله، وأقدرهم على النهوض بأعبائه، فما
أنتم فاعلون اليوم؟
إنما يستفيد الناس في كل حال وزمان بقدر استعدادهم، فقد نشأ السيد جمال
الدين نابغة القرون في بلاد بالأفغان ولم يشعر بمزاياه إلا بعض أمرائها، ثم جاء
مصر فاستفاد منه بعض المستعدين للانقلاب السياسي والمدني والأدبي، ولم يستفد
من رأيه وتأثيره في بالإصلاح الديني والعلمي إلا الشيخ محمد عبده، وله اعترف
السيد بأنه خليفته في كل انقلاب دعا إليه، وقد أتيح للشيخ من دعوة هذا الإصلاح
وممارسته في إدارة الأزهر الرسمية، وفي تدريس التوحيد والتفسير والبلاغة
والمنطق ما لم يتح لأستاذه السيد، وكان الآخذون عنه أكثر عددًا، وأوسع زمنًا، ثم
كان عاقبته فيه ما أشرنا إليه آنفًا، وما أغنت عنه كثرتهم من الإصلاح شيئًا؛ إذ لم
يكونوا يبغون أخذ الإصلاح عنه؛ لأنهم لم يكونوا مستعدين له، وقل من كان منهم
يفكر فيه.
وها أنتم أولاء تجاه ثاني المصلحين، وثالث القمرين، ولقد كان يطلب العلم
في الأزهر كما يطلبه غيره؛ ولكنه كان أقرب أهله إليهما في عقلهما وأخلاقهما،
ولا سيما الشجاعة وعزة النفس، واستقلال الإرادة والفهم، وبهذا كان أجدر مَنْ
خَلَفَ الأستاذ الإمام بإصلاح الأزهر، فيجب أن يكون حظه من استعدادكم في
النصف الثاني من القرن الرابع عشر أكبر من حظ أستاذه وأستاذنا من استعدادهم
في النصف الأول منه، عسى أن يكون متممًا لما بدأ، ولا يتسنى له هذا إلا إذا كان
استعدادكم للقبول متممًا لاستعداده للإيجاب، فالمراغي لا يقدر على أن يخلق الأزهر
خلقًا جديدًا، وغاية ما يرجى له من سعيه وجهده، أن يبلغ به أحسن ما استعد له
أهله بعد زوال المانع الذي كان يحول دون ذلك، بل قال الحكماء الربانيون: إن
للرب الخلاق ذي القوة المتين سننًا في التكوين يعد بها الشيء للشيء، فيتعلق
الإيجاد بالاستعداد بمقتضى الحكمة في التقدير، وامتناع الجزاف والخلق الأنف فيه،
وهو معنى الإيمان بالقدر، ونص القاعدة الاجتماعية في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وإن للمنار مقالة في هذا
الموضوع عنوانها (الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد) نشرت في المجلد
الرابع منه (٦٨١) سنة ١٣١٩.
يوشك أن يكون الأزهر اليوم أقل علمًا وإخلاصًا في الطلب مما كان في أول
هذا القرن، ومما كان في قرون التدلي التي قبله، ولعله صار على ضعفه في العلم
أشد شعورًا بالحاجة إلى الإصلاح أو استعدادًا له، ولا يصح هذا الرجاء عند الشيخ
المراغي إلا بقدر ما يرى في العلماء والطلاب من المشاركين له في الصفات الثلاث
التي كان بها أهلاً للإصلاح، الشجاعة وعزة النفس واستقلال الإرادة والفهم، وما
وراءهن إلا العلم بحقيقة الإصلاح، وحسن النية فيه، وطلب الغاية العليا منه،
وهي ما في الإسلام والقرآن من روح الانقلاب العام المصلح للبشر، ومقاصده
العشرة التي بيناها في كتاب الوحي المحمدي، وهذه كلها أمور كسبية تعليمية، وأما
تلك الصفات الثلاث فهي وهبية في الأصل، وإنما تفيد فيها التربية الصحيحة
للنابتة الجديدة تربية الإرادة وجهاد النفس، وأين أنتم من هذه التربية وأين هي منكم؟
قد ذكَّرتكم آنفًا في هذا المقال بمذكرة الأستاذ التي قدمها للحكومة عقب توليته
الأولى لرياسة الأزهر، وقوله فيها: إن الإصلاح الذي يحتاج إليه الإسلام كله لا
الأزهر وحده يقتضي قلب نظام التعليم من أساسه ... إلخ، وعلمتم أنه كان وضع
قانونه لأجل النهوض بهذا القلب والتجديد، متوقعًا ما يلزمه ويقترن به عادة من
الصراخ والعويل، فحيل بينه وبين ما يريد فاستقال، وخلفه من نهض بضد ما أراد،
وهو الهدم والإفساد، وأهمه سوء التصرف في مناهج التعليم، وإقناع المعلمين
والمتعلمين بأن الترقي لا يكون إلا بالنفاق والدسائس والسعاية، ولا غاية له إلا
متاع الدنيا، فاستشرى الفساد فصار الإصلاح أشق، ولن يتم إلا بما قلناه إجمالاً،
وسنفصله في مقال آخر إن شاء الله تعالى.