للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأثير تولية المراغي لرياسة الأزهر

لقد كان سرور الناس بهذه التولية عظيمًا في مصر وسيظهر أنه يكون عامًّا
في جميع الأقطار الإسلامية، ورأينا تهاني الناس لهذا الإمام المصلح أضعاف
المعهود في تهاني أصحاب المناصب، ولولا أن أكثر علماء الأزهر أظهروا
سخطهم على الظواهري من قبل لما أقمت وزنًا إلا لتهاني من نعرف رأيه وخلقه
منهم، فالشيخ الظواهري نفسه قد هنأ المراغي أيضًا، ولكننا رأينا جميع طبقات
الشعب من الأمراء والوزراء والوجهاء والأدباء وغيرهم مجمعين على هذا، وإنا
لنرى الوفود تغدو وتروح إلى داره في حلوان وإلى إدارة الأزهر والمعاهد الدينية
في القاهرة مثنى وثلاث ورباع وجماعات في كل يوم ولا ندري متى ينتهي هذا
الزحام، وإنني أنقل عن الجرائد اليومية خبر وفود علماء المعاهد وكلمة الأستاذ
الأكبر لهم على سبيل النموذج، وهو ما نشر الأهرام في سياق التهاني والمقابلات
التي تحت عنوان (وفود العلماء) في ٣ مايو سنة ١٩٣٥.
كانت إدارة المعاهد الدينية في أثناء هذه المقابلات قد اكتظت بوفود العلماء
الحاشدة من مدرسي معاهد الإسكندرية، وطنطا، ودمياط، ودسوق، والزقازيق،
وأسيوط ومن العلماء المندوبين للتدريس في مختلف المعاهد الدينية، ومن الطلاب
والعلماء المفصولين الذين تقررت إعادتهم إلى دروسهم ووظائفهم في جلسة المجلس
الأعلى التي عقدت أول أمس، وما إن لمحوا فضيلته قادمًا حتى احتاطوا بالسيارة
من كل ناحية، وأخذت أصواتهم ترتفع بقولهم: فليحيا الإمام الأكبر، فليحيا
المصلح الإسلامي، فليحيا والد الأزهريين البار، وقد أرادوا أن يحملوا فضيلته
على أعناقهم؛ ولكنه أبى، وكان يلح في الإباء كلما ألحوا في الطلب ثم قال لهم:
أرجو أن تهدؤوا قليلاً حتى أتمكن من أن أصعد على قدمي، وقد أجابوا فضيلته
إلى ما طلب، وأخذوا يشقون له طريقًا حتى تمكن من الصعود إلى مكتبه.
ثم تقدم بين يدي فضيلته خطباء هذه الوفود وشعراؤها، وأخذوا يلقون كلماتهم
وقصائدهم، وقد ذكروا مواقف معينة لفضيلته في إصلاح الأسر ورعايتها بمختلف
القوانين والتشاريع وتنظيم الإجراءات القضائية الخاصة بالمحاكم الشرعية وغير
هذا من ضروب الإصلاح والتجديد، وهنا وقف فضيلة الأستاذ الأكبر وقال:
كلمة الأستاذ الأكبر
أشكركم شكرًا جزيلاً على هذه العواطف الكريمة التي تجلت في أقوال خطبائكم
وقصائد شعرائكم، وأرجو أن تنوبوا عني في تبليغ هذا الشكر إلى جميع إخوانكم،
وإلى جميع الطلبة في معاهدكم، كما أرجو أن نستقبل جميعًا: علماء وطلابًا بدء
دراستنا، وقد زال ما كان في قلوبنا.
كان ضغن وكانت عداوة بين العلماء والطلبة، وبين الطلاب والطلاب،
ولكني أعتقد أن ذلك لم يكن إلا في مقام اختلاف الرأي وتباين المذهب في صدد
حادث طارئ، ولكل وجهته ولكل رأيه ومذهبه، وأنا شخصيًّا ممن يقدسون حرية
الرأي، ويحترمون رأي الخصوم كاحترامهم لرأي الأصدقاء، وأرجو أن تكون
حرية الرأي صفة من صفات العلماء، وقد عهدتم في سيرة السابقين والسلف من
العلماء أنهم كانوا يحترمون آراء مخالفيهم، وما كان أحد منهم يخالف أو يخاصم إلا
وهو بعيد كل البعد عن الهوى والغرض، وعلى أساس حرية الرأي يبنى الدين
وتبنى الأخلاق ويبنى العلم، ويكون البناء خير ما نشتهي ونود إذا كانت المخالفة
في الرأي خالية من الهوى والغرض.
لقد كانت فتنة وجدت أول الأمر شرارة نارها في طريق الاتفاق والمصادفة،
ثم أراد بعض الناس أن يجعل العلماء وطلاب العلم حطب هذه الفتنة الشعواء،
ولكن الله سبحانه وتعالى وقى المسلمين شرها، وخرجتم من هذه الفتنة لا أقول
خرجتم من غير أن يظهر للناس بعض عيوبكم، فقد ظهرت عيوب في بعض
الطلاب، وظهرت عيوب في بعض العلماء؛ لأن هؤلاء وهؤلاء قد قرنوا المطالبة
بالإصلاح بشيء من العنف، وشيء من الخروج عن الخلق الكريم: الخلق الكريم
الفاضل الذي يجب أن يكون حلية طالب العلم الديني، وحلية العالم الديني.
ويمكنني في هذا المقام أن أصرح لكم ولجميع المسلمين في مختلف الأقطار
بأني أفضل وأوثر بأن تُخْرِج المعاهد الدينية رجلاً ذا خلق وفيه جهالة على أن
تخرج إمامًا من الأئمة، وفيلسوفًا جم البحث حاشد الذهن لا خلق له، وليس من
الخير للدين ولا لأهل الدين ولا للمسلمين والإسلام أن يوجد علماء أشرار لا خلق
لهم؛ لأن مهمتكم التي وُجدتم لها، ووُجدت لها المعاهد هي إيجاد رجال يقومون
بحراسة الدين ويرضون الله بعملهم، يتجافون عن الدنيا ويعزفون عن أعراضها إذا
وجدوا في طريقها الذلة والمهانة والمسكنة وإهدار الخُلق، والله سبحانه وتعالى لا
يرضى عن طائفة من الطوائف وُجدت لإعزاز دينه ثم استخدمت مواهبها لإذلال
أهل هذا الدين الحنيف.
لكم في سيرة السلف من علماء المسلمين، وفي آبائكم في الأزهر الشريف
قدوة خير، كانوا يرضون بالكفاف من العيش، مقبلين على العلم إقبال المخلص لله
ولرسول الله، ولست الآن من الواعظين الزاهدين الذين يرغبون في أن يباعدوكم
عن الحياة، وإذا لبست هذا الثوب فقد تكذبني الظواهر، فأنتم ترونني أستمتع
بالحياة جهد ما أستطيع؛ ولكني أدلكم على طريق المتاع: الزهد في الحياة طريق
المتاع فيها.
وجهوا أنفسكم واجتهدوا أن تخلقوا في أبنائكم هذا الروح، روح الإقبال على
العلم لله وللرسول، روح إرضاء العلم للعلم على أن تجعلوه مقصدًا لا وسيلة.
العلم شريف لا يرضى المذلة والمهانة، فإذا أكرمتم أنفسكم رضي الله عنكم
ورضيت الناس، ومتى رضي الله عنكم ورضيت الناس وجدتم من الدنيا إقبالاً،
وسعت إليكم دون أن تسعوا إليها.
وكنت أحب أن أجعل هذا الحديث معكم طويلاً؛ ولكن وقتي ضيق، وعملي
كثير، فأكتفي وأقف عند هذا القدر، وأرجو في الختام أن تكونوا رسل خير للأمة
الإسلامية، وأن يوفقنا الله جميعًا ويرشدنا للبر والخير والسلام اهـ.