للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم
الحكم بين المختلفين فيه
(١)

ألَّف بعض كتاب الأوربيين مصنفات في تاريخ سيدنا محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم، أو ترجمة حياته، عُرف غير واحد منها باسم (حياة
محمد) كان آخرها فيما علمنا للكاتب الفرنسي البليغ موسيو درمنغام، ويقال: إنه
أقربهم إلى صحة الرواية؛ لأنه اعتمد على المصادر الإسلامية وأوسعها عنده سيرة
ابن هشام، وأجدرهم بحسن النية فيما أخطأ فيه؛ فإنه حاول الجمع بين اعتقاده
واعتقاد المسلمين، والتقريب بينهما بقدر ما تعطيه بلاغته الفرنسية في مدح النبي
صلى الله عليه وسلم وتصوير فضائله.
أعجب بهذا الكتاب الدكتور حسين بك هيكل الكاتب المصري الشهير، ولسان
حزب الأحرار الدستوريين في جريدتهم (السياسة) فطفق يترجمه وينشره في
صحيفة السياسة الأسبوعية الخاصة بالعلم والأدب والفنون متصرفًا في الترجمة
تصرف (عرض ونقد) فكان لما ينشره أحسن تأثير في قلوب قرائها من المسلمين،
سرهم منه أن رأوا هذا الكاتب العصري صار من أنصار الدين ينشر لهم أمثل ما
كتب الإفرنج في النبي صلى الله عليه وسلم وما هو خير منه، بعد أن كان لجريدة
السياسية من المقالات ما أوقع بينها وبين المنار ما لم ينسه قراؤهما، ثم اتفقنا ولله
الحمد، وكانت أشد الصحف تعاونًا معنا على إصلاح الأزهر.
ثم اتفق في أثناء عرض الدكتور هيكل لهذا الكتاب (حياة محمد) أنني كنت
أكتب بحث (الوحي المحمدي) في تفسيري لسورة يونس عليه السلام، وكان
غرضي الأول منه دحض شبهات القائلين من الإفرنج وغيرهم بالوحي النفسي،
يعنون أنه نابع من نفس النبي وصادر عن استعداد عقله الذي يعبرون عنه في هذا
العهد بالعقل الباطن، ونعني نحن به الروح الغيبي المعبر عنه بقول تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) ولكن هؤلاء الماديين لا يؤمنون بعالم الغيب، ولا بأن للإنسان
روحًا مستقلاً نُفخ فيه من ذلك العالم، فهم يسندون كل ما ثبت عندهم من مدارك
الإنسان غير الحسية ولا العقلية المنطقية إلى اسم جديد سموه العقل الباطن، ومنه
ما ثبت من إخبار المنومين بالتأثير المغناطيسي بالغيب، وما يسمونه قراءة الأفكار
ومراسلة الأفكار، وقد رأيت أن ما نقله هيكل عن درمنغام من الكلام على بدء
الوحي المحمدي ومقدماته قد جمع فيه جميع الشبهات التي يمكن الاحتجاج بها على
أن هذا الوحي نفسي، وقد لخصته في عشر، رددت عليها أقوى رد، ثم أثبت أن
وحي القرآن من عالم الغيب، بما بسطته من كليات مقاصد القرآن العشر،
واستحالة كونها من عقل محمد واستعداده، واستحالة أن يكون ما دونها من العلم
والفهم والعمل مما وقع أو يقع مثله لأحد من البشر في سن الكهولة.
لم أقرأ كل ما نشره هيكل من هذا الكتاب، ولكن علمت أنه يضع كتابًا مستقلاً
في ذلك فتح بابًا للاشتراك فيه، ثم صدر هذا الكتاب مطبوعًا أحسن طبع، ونُشرت
له دعاية واسعة في الصحف، فكان له تأثير حسن، وتفضل عليَّ المؤلف بنسخة
منه جاءت في وقت حاشد بالشواغل الكثيرة: منها إتمام المجلد ٣٤ من المنار،
والجزء الثاني عشر من التفسير، وما يقتضيانه من خاتمة وفهارس وتصدير،
ومنها الشروع في الطبعة الثالثة لكتاب (الوحي المحمدي) ، والشروع في
(التفسير المختصر المفيد) اختصارًا وطبعًا، وقد اشتد الإلحاح بطلبه، لهذا أرجأت
ما يوجبه عليَّ سروري به من مطالعته وتقريظه إلى فراغ أرى أن انتظاره لا يعدو
شهرين، بيد أنني تصفحت مقدمته وبحث مقدمة بدء الوحي منه، فعجبت لمؤلفه
كيف أقر درمنغام مؤلف الأصل على مزاعمه فيها بعد تفنيدي لها في كتاب الوحي
المحمدي، وقد اطلع عليه وذكره في الكتب التي استمد من مباحثها في مصنفه، فإن
أدري أغفل عن تفنيدي لشبهاتها العشر وإثبات الوحي الإلهي بكليات مقاصد القرآن
العشر أم ماذا؟ فهذه المسألة أنكر المنكرات في أصل الكتاب، ولم يفطن لها
الجمهور فيه، ولا في فرعه، ولا لفروعها المنكرة وهي كثيرة، وقد أنكروا ما هو
دونها.
ثم رأيت من علماء الأزهر وغيرهم من يسألني عن رأيي في هذا الكتاب،
ومنهم من يطالبني بالرد على ما أنكروا عليه منه، ورأيت بعضهم رد عليه في
بعض الصحف فلم أقرأه، ثم جاءتني رسالة بعد رسالة يوجب عليَّ مرسلها الرد
عليه (وإنقاذ الدين مما يثيره من الشك فيه، الفاتن للشباب العصري بتنميقه)
ويرى كغيره أني أولى الناس به وأقدرهم عليه، وهو في حسن ظنه هذا يشير إلى
سوء ظن باحتمال أن أحابي المؤلف بالسكوت عن الإنكار عليه، فصار السكوت
بعد السؤال من كتمان العلم الذي أوجب الله بيانه، وحظر كتمانه ولعن أصحابه.
فأنا أنشر ألطف الرسالتين نقدًا، وأحسنهما أدبًا، وأذكر من الثانية المنكرات
التي أشار إليها بأرقام صفحاتها، وما عدا هذا من طعن في الكاتب والمقرظين
لكتابه فلا يجب نشره، وربما يكره وقد يحرم، ولا يتوقف عليه إنكار المنكر ولا
إحقاق الحق، وأجيب بما أعتقد أنه الحق الواجب بالإيجاز، ولعلي أعود إلى تقريظ
الكتاب ونقده في جملته، من مسائله وأسلوبه ولغته؛ لأنه جدير بذلك بشهرة مؤلفه
وتأثيره، عسى أن يكون النقد العادل عونًا على تنقيحه، فيكون النفع به منقحًا في
طبعة أخرى أتم وأعم.
***
الرسالة الأولى للأستاذ العالم الباحث صاحب الإمضاء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة صاحب الفضيلة العالم الشهير السيد (محمد رشيد رضا) منشئ
المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فإن كتاب الدكتور هيكل (حياة
محمد) صلى الله عليه وسلم حين كان يُنشر على صفحات جريدة السياسة
الأسبوعية، كان الذين يتحرجون عن وصمة سوء الظن بلا موجب يحسنون الظن
بصاحبه، ويقولون لعله أخذت بيده العناية الإلهية فوضعته في صفوف الذابين عن
الحقائق الدينية، الناشرين لمحاسن الشريعة المحمدية، فأنشأ يبرز للناس مخدرات
عرائس السيرة في ثوب قشيب يلائم ذوق العصر، ويتناسب والثقافة الحاضرة
حيث لم يتح لهم إذ ذاك أن يقفوا على جله فضلاً عن كله، فلما ظهر في عالم
المطبوعات ما عتموا أن تهافتوا على اقتنائه بناء على ذلك الظن، ثم طفقوا يقرءونه
بفضل عناية وكمال تدبر، فما لبثوا أن بدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون من تشويه
للحقائق القطعية، وتمويه على الضعفاء بالإغراق في إلباس الباطل ثوب الحق،
وصوغ الخيالات في ثوب الحقائق، وإقرار ما ليس بثابت عند أئمة الدين، وإنكار ما
هو معلوم للخاصة والعامة من المسلمين، وحسبنا الآن توجيه ثاقب نظركم إلى
أمر واحد هو أساس لجميع أخطائه أو جلها، ألا وهو إنكاره جميع المعجزات
المحمدية سوى القرآن، ولو أنه اقتصر على مجرد هذا الإنكار لتأولنا لحضرته
وقلنا لعله أراد أن القرآن العظيم هو المعجزة العظمى التي تتضاءل في جنبها سائر
المعجزات؛ ولكنه قد علل الإنكار المذكور بأن تلك المعجزات بأسرها مخالفة لسنن
الله عز شأنه، وأن تجويز شيء منها مناف لما نطق به القرآن من أن تلك السنن لا
تتبدل، وزعم أن أحاديث المعجزات كلها موضوعة إما لمحاولة أن يجعل له صلى
الله عليه وسلم من الآيات مثل ما لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإما
لتشكيك من يؤمنون بقوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:٦٢)
فهذا نص لا يحتمل تأويلاً في أنه لا يدين بشيء من المعجزات الكونية؛ فإنه قرر
أن وقوع شيء منها تبديل للسنن الإلهية، وأنه محال، ويا ليت شعري ماذا يصنع
بالآي القرآنية المتضمنة لمعجزات الأنبياء من نحو انقلاب العصا حية، وفلق البحر
لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى عليهما الصلاة والسلام.
لهذا نلجأ إلى عظيم غيرتكم، وعَلِيِّ همتكم، أن تغيثوا الدين بمثل ما عودتموه
من استئصال شأفة الإلحاد ببواهر البراهين الساطعة، وصوادم الحجج القاطعة،
على وجه يروق للكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة.
وإلى الحق تعالى نضرع أن يؤيدكم وكل من يقوم لله في نصرة الحق بروح
منه، إنه تعالى نصير المجاهدين المخلصين، والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد محمد زهران
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة الإسعاد سابقًا
هذا نص الرسالة الأولى، وأما المنكرات المعينة في الثانية فهذا نصها:
(١) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة ٦٤.
(٢) أسطورة شق الصدر - هكذا عنوانه - ص ٧٢.
(٣) بدء الوحي ٩٥.
(٤) ما نسبه إلى السيدة خديجة.
(٥) ما قال في الإسراء ص ١٥٣ وما بعدها.
(٦) ما عقَّب به معجزة الغار.
(٧) تلبيسه في قصة سراقة ١٧٩ وما بعدها.
(٨) دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر المنكر ٤٣٣.
(٩) عزوه إلى عائشة ما لا يليق.
جواب المنار
مقدمة وتمهيد:
إن العدل وإيثار الحق على الخلق يوجب عليَّ قبل النظر في هذه المسائل
لأعلم ما فيها من حق وباطل، أن أقول إنني حسن الظن في خطة الدكتور محمد
حسين هيكل الدينية الجديدة، وأعتقد أنه يريد بها خدمة الإسلام ومناهضة الإلحاد
والإباحة، على أنني كنت بينت فيما نشرته من الرد على المتهمين به في المنار
وفي جريدة كوكب الشرق أنني أعني بالإلحاد معناه المستعمل في القرآن، وهو
الزيغ الذي قد يكون بما دون الكفر المخرج لصاحبه من الملة، وأرى أن هذا
الكتاب يجذب كثيرًا من الزائغين إلى الإيمان بنبوة محمد خاتم النبيين: الذي أكمل
الله ببعثته وبكتابه المنزل عليه الدين، من المفتونين بالأفكار المادية وتقليد أهلها،
وأن من هؤلاء من يعرف له ما أنكره عليه غيرهم، وأن أكبر خطأ رأيته فيه تبعًا
لأصله الفرنسي من شبهات الوحي النفسي يخفى على أكثر قرائه، أو على من لم
تتمكن هذه الشبهات من نفسه قبل قراءته، فإن موسيو درمنغام نفسه ينقل رواية
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لملك الوحي والتلقي عنه، والدكتور هيكل زاد هذه
المسألة بسطًا، وإن أخطأ كل منهما فيما ذكرا من مقدماتها باجتهادهما، وما اعتمد
عليه من رواياتها الباطلة لقلة اطلاعهما، أو عدم اضطلاعهما بالتمييز بين الراجح
والمرجوح منها، وأنى لهما أن يعلما أن ابن هشام وأستاذه ابن إسحاق أخذا بالرواية
المرسلة في حديث بدء الوحي، وأنه كان رؤيا منامية، فخالفا رواية الصحيحين
المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حاول بعض الحفاظ أن
يجمع بين الروايتين فأخطأ؟
وأما ما ادَّعاه الناقد من إنكار المؤلف لجميع معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم وتشكيكه في القرآن، وما دون ذلك من المنكرات، فسننظر فيها بعيني الحق
والعدل، ولا أشك في اختلاف وجهة نظر الأستاذ الناقد وأمثاله من واسعي الاطلاع
على كتب المناقب والسير وهو أن الأصل عندهم أخذ كل ما فيها أو جله بالتسليم،
وعدم تمييز أكثرهم بين ما هو صحيح منها وما هو موضوع أو منكر - ووجهة
نظر الدكتور هيكل وأمثاله في قاعدة الأصل في الأشياء الشك، فالتحليل والنقد،
وعدم وقوفهم على قواعد علماء الأصول والمحدثين في ذلك الذي يعبرون عنه
بالتعادل والترجيح، والواجب على مثلي أن يكون وسطًا بين الفريقين، وهو موقف
دقيق؛ فإن من كل منهما مَنْ يعد بعض ما يؤيد به الدين عند الآخر نافيًا له أو مشككًا
فيه؛ وإنما المهم الأعظم التمييز في البحث بين ما هو قطعي في الدين يعد جحوده
خروجًا من ملة الإسلام وما ليس كذلك، وبين ما يعد سنة، وما يعد ابتداعًا، وما
دون ذلك مما لا يجب علمه، ولا يضر جهله، وإن صح أصله.
يعلم أهل الحديث أن أكثر ما روي من الخوارق وما في معناها، لا يثبت
برواية قطعية متواترة يعد حجة على النبوة يجب الإيمان بها، بل لا يصح بحديث
مسند مرفوع يتخذ دليلاً ظنيًّا عليها، وأن المحدثين تساهلوا في رواية الضعاف
والمنكرات منها؛ لأنهم عدوها من باب المناقب التي تنفع أو لا تضر، وأن بعضهم
لم يتحاموا رواية الموضوعات أيضًا، ألم تر أن أشد المتأخرين منهم عناية أو
تساهلاً في تصحيح ما لا يصح أو تقويته كالسيوطي يقول في الروايتين الطويلتين
في المولد النبوي إنهما منكرتان شديدتا النكارة، ولولا أنني رأيت الحافظ أبا نعيم
ذكرهما في كتابه (دلائل النبوة) لما ذكرتهما، يعني في خصائص النبوة، وهاتان
الروايتان عليهما مدار قصص المولد الرائجة بين الناس، ولعل أكثر الذين يسمون
العلماء أو كبار العلماء يجهلون نكارتهما وبطلانهما، ولعل من يتجرأ على هذا
الإنكار عند الجمهور يتُهم بالكفر أو بالتقصير في حب المصطفى على الأقل، وإنه
صلى الله عليه وسلم لغني عن تأييد نبوته أو حبه بالباطل، بل لا يجوز ذلك، وإنا
لنعلم أن كل ما وجهه إليه أعداء الإسلام من الطعن فيه أو أكثره فهو من هذه
الروايات الباطلة، وأكثر علماء عصرنا يجهلون هذا، ويعجزون عن الرد عليه
بالأدلة المقنعة، حتى إن كثيرًا من قراء كتاب الدكتور هيكل يرون أنه من أقوى
المدافعين عن الإسلام حجة، من حيث يراه آخرون أشدهم طعنًا عليه وهدمًا له! !
أفما لهذا التباعد بين المسلمين من حد؟ بلى ولكن من ذا الذي يضع هذا الحد
الفاصل بين الحق والباطل؟
أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل، أو أكثره مسألة المعجزات
أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها
ومطاويها في الفصل الثاني، وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس بما أَثْبَتُّ به
أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا
بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل
زمان مضى، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبَيَّنْتُ سبب هذا
الافتتان، والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره،
فعسى أن يَطَّلِع عليها المختلفون في كتاب هيكل؛ لأن حكمنا بينهم لا يكون فاصلاً
بدونها.
((يتبع بمقال تالٍ))