للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: ١٠٥) .
{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: ٨٧) .
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: ٥٦) .
نرجو أن ندخل بهذه السَّنة في عهد جديد لدعوة القرآن نفتتح بها المجلد ٣٥
من المنار المجلد ١٣ من تفسير القرآن الحكيم والطبعة الثالثة من كتاب الوحي
المحمدي، بعد أن بينَّا للمسلمين في السنين الخالية جميع الأسباب والعلل التي فقدوا
بها هداية دينهم ومجد ملكهم وحضارته بالإعراض عن تدبر القرآن وجميع ما يجب
عليهم من علم وعمل لاستعادة ذلك بالقرآن، وإقامة الحجج والآيات على ذلك من
كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتنفيذه؛ وسنة
خلفائه الراشدين في فتوحه، وتأسيس دولته، وإقامة أحكامه بين الشعوب المتباينة
الأجناس واللغات، والملل المختلفة الأصول والمذاهب والحضارات.
وإننا نذكِّر القراء بخلاصة من ذلك:
أمة موسى وأمة محمد والتوراة والقرآن:
في مدة أربعين سنة انقرض جيل من بني إسرائيل في التيه، ونشأ جيل آخر:
انقرض الجيل الذي تعبَّده فرعون واستذله، فقال زعماؤه لموسى لما دعاهم إلى
دخول الأرض المقدسة، التي كتبها لهم، ووعدهم بالغلبة على أهلها إذا دخلوها:
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: ٢٤) ، ونشأ جيل جديد أخذ
التوراة بقوة، ودخلوا البلاد، ففتحها الله كما وعدهم.
وفي عشرين سنة أسس محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله
عليه وسلم - بدعوته دينًا كاملاً وأمة متحدة ودولة قوية عادلة، فقد ربَّى الجيل الأول
من قومه بالقرآن من أول يوم، فأخرجهم بدعوته من الظلمات إلى النور في عشر
سنين، وفتح بهم جزيرة العرب في عشر سنين، وفتح خلفاؤه من بعده ملك
كسرى وقيصر في عشرين سنة، ولم ينقضِ القرن الأول من هجرته إلا وقد تمَّ
لأمته نشر ملكهم ودينهم من آخر حدود أوربة في الغرب إلى جدار الصين في
الشرق، وأدى لهم " فغفور " الصين الجزية.
بماذا فعل المسلمون هذه المعجزات في الفتح الديني الاجتماعي السياسي؟ ما
فعلوها إلا بأخذهم القرآن بقوة، كما أخذ بنو إسرائيل التوراة بقوة، وكان تأثير كل
من الكتابين بقدْره: التوراة هداية لشعب صغير، وُعِد بوطن صغير إلى أجل معلوم
ففتحوه، وتمكنوا فيه إلى أجل معلوم، ثم عاقبهم الله بظلمهم وإفسادهم في الأرض
فسلط عليهم من شاء من عباده إلى أجل آخر، ثم سلب ملكهم ببغيهم. والقرآن
هداية عامة لجميع الشعوب والقبائل، وُعد أهله بخلافة الأرض كلها: {وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: ١٦٥) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: ٥٥) ووفَّى لهم بما وعدهم في
أكثر الأرض التي عرفوها ما أقاموا القرآن بإقامة الحق والعدل في الناس والشكر
لله، ثم سلب منهم أكبر ما أعطاهم بكفر هذه النعمة والفسوق عن هذه الهداية.
ومن العجب أن يفعل اليهود اليوم ما لا يفعل العرب لاستعادة مجدهم.
ولكن أمة محمد ليسوا شعبًا صغيرًا كقوم موسى - عليهما الصلاة والسلام -
بل أمة دعوته جميع البشر، وأمة الإجابة له هم المهتدون بالقرآن وسنته في إقامته،
وما وعدهم به هو الأرض كلها لا أرض فلسطين، ودينهم عام باقٍ إلى يوم القيامة،
لا خاص مؤقت محدود.
فتح العرب العالم بالقرآن:
إن المسلمين كفروا هذه النعمة قبل أن يتم لهم فتح أكثر الغرب كما
فتحوا أكثر الشرق، بأن استبدلوا بهداية القرآن بدعًا سَرَت إليهم نظرياتها الباطلة
من الأديان والفلسفة والأدب التي كان عليها الشعوب التي فتحوا بلادها بقوة القرآن
لا بقوة السيف والسَّنان، فقوة العرب الحربية كانت دون قوة الرومان، ودون
قوة الفرس، اللتين كانتا أقوى دول الأرض، وكان يدين لهما كثير من
العرب المجاورين لبلادهما، وكانت أضعف من البربر في شمال إفريقية ومن
القوط (والإسبانيول) في غرب أوربة ومن الغال في جنوب فرنسة من الغرب،
ومن الهنود في الشرق، وناهيك ببعد المسافات بين جزيرة العرب وبين هذه
الأقطار، وما يزعمه بعض الإفرنج ومقلديهم من أن سبب فوز العرب بذلك الفتح
السريع الواسع هو ما كان طرأ على تلك الدول والأمم من الفساد والضعف، فهو
تعصب ظاهر؛ فمهما تكن عليه تلك الأمم من ضعف وفساد فالعرب كانوا أفسد
وأضعف من كل واحدة منها قبل الإسلام، وبه سادتها كلها؛ وما هو إلا نور
القرآن.
عصر الصحابة ومنتهى علمهم:
إن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - هم الذين أسسوا هذا الملك الإسلامي
العظيم العادل الرحيم، فيما يسمى العالم القديم، وكان أكثرهم أميين، لم يكن عندهم
كتاب يهتدون به في فتوحهم وحكمهم إلا هذا القرآن وحده. وما كانوا يعتمدون في
فهمه إلا على مَلكَة لغته وما بيَّنه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من هداية
القول والفعل، وهو سنته وهديه؛ تلاهم التابعون الذين حفظوا عنهم القرآن
والسنن والآثار؛ فكانوا في الدرجة الثانية لدرجتهم إيمانًا وعلمًا بالإسلام، وعملاً
وتخلقًا به، وجهادًا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وفتحًا للأمصار، وحكمًا بين
الناس بالحق والعدل؛ وقلَّ فيهم الأميون، وكثر المتعلمون، ولكن لم يكن في أيديهم
كتاب غير القرآن، يهتدون به في تزكية أنفسهم وإصلاحها، ويهدون به غيرهم من
الشعوب التي كانت تدخل في دين الله أفواجًا. ويجدون الإسلام خيرًا مما كانوا عليه
هدى وصلاحًا، وعلمًا وعدلاً، وأدبًا وفضلاً.
عصر التابعين في هديهم وحكمهم وفتحهم:
وبدأ التابعون بكتابة السنن والآثار حفظًا لها من الضياع، بيد أنهم لم يتخذوا
منها كتابًا مدونًا مع القرآن يدينون الله بالعمل به في عبادتهم الشخصية وفي قضاء
حكومتهم وسياستها، بل ظلوا يهتدون بالقرآن وبما كان عليه الصحابة من سنن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وبسيرة خلفائه الراشدين في الفتح والسياسة
والقضاء، ومن ذلك الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من القرآن أو سُنَّة عملية لا
تختلف فيها الأفهام والآراء: اجتهاد الأفراد لأنفسهم في الأحكام الشخصية الخاصة،
واجتهاد أولي الأمر من الأئمة والقضاة وقواد الجيوش في الأحكام العامة، مع
مراعاة الشورى فيها؛ فكانوا على منهاج الصحابة في ذلك كله، وناهيك بكتب عمر
وعلي إلى عمالهما: ككتاب عمر إلى شريح في القضاء، وكتاب عليّ إلى الأشتر
النخعي في السياسة العامة.
عصر العلم وما يجب من النظام الواقي من الشقاق فيه:
ثم جاء عصر التدوين والتصنيف للحديث والسير الآثار والفقه، تلا ذلك
تدوين اللغة وفنونها ووقائع التاريخ، وترجمة علوم الأوائل بأنواعها: كالرياضيات
والتاريخ الطبيعي، والطب، والفلك، والفلسفة بأقسامها، والتصوف بنوعيه الخلقي
والفلسفي، ودرسوا هذه العلوم واجتهدوا فيها، ونقدوا ونقحوا، وأتموا ما كان
ناقصًا، وزادوا على من كان قبلهم؛ عملاً بإرشاد القرآن إلى النظر في آيات
السموات والأرض وما بينهما وما خلق الله من شيء وسنن الله في الأمم.
كان من سنة العمران وطبيعة الاجتماع في ذلك أن تصير علوم الدين والدنيا
كلها فنونًا صناعية، وأن يختص بكل جنس منها طوائف من الناس للتوسع والنبوغ
فيها، وأن يكون لكل منها تأثير في أنفس النابغين فيه، قد يعارض غيرهم باختلاف
الفهم والقصد من العلم وموضوعه وفائدته.
وكان يجب في هذه الحال أن يكون للتعليم نظام جامع يوجه كل علم إلى الغاية
منه؛ دينيه كانت، أو عقلية، أو علمية، كما أرشد إليه القرآن الحكيم، وأن يظل
القرآن والأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتربية الأمة، كما
كان في عهده وعهد خلفائه الأربعة هديًا إلهيًّا علميًّا لا نزاع فيه وينزه عن أن يكون
صناعة بشرية، وفنًّا جدليًّا يضرب بعضه ببعض لتأبيد المذاهب والشيع الدينية
والسياسية، وأن تكون حرية الدين على أكملها فيما هو من كسب البشر ونتائج
أفكارهم وأفهامهم؛ فالإسلام أباح لأهله الحرية في هذا دون ما هو فوقه وفوق كل
شيء بشري، وهو كلام الله اليقيني القطعي الرواية أو الدلالة من الدين الذي شرعه
الله لهم، وأما ما كان ظنيَّ الرواية أو الدلالة منه فقد أباح لهم الاجتهاد فيه بشرط ألا
يكون اختلاف الفهم والرأي سببًا لتفرق الأمة والشقاق بين أهلها، ولو فعلوا ذلك
لاتقوا الشقاق والتفرق بما حدث من البدع في الدين، ولكنهم لم يفعلوا فَضَلُّوا
وابتدعوا، فتفرقوا واختلفوا، وفسقوا وضعفوا.
كان هذا التأليف بين العلوم والفنون والدين أول واجب على الإمام الأعظم
خليفة المسلمين، ولكن خلفاء العباسيين أطلقوا العنان أولاً فلم يقوموا بالواجب، ثم
نصروا بعض المتفرقين في الدين على بعض بما أضعف سلطان الدين في الهداية،
وفوائد العلوم والفنون في الحضارة، وأنَّى للمعتصم العامي، وكذا المأمون العالم
المتفنن أن يفهم حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عقاب صبيغ المجادل
المشكك في القرآن، ونفيه من المدينة إلى البصرة، وأمر الناس بهجره حتى تاب،
تلك جناية فوضى العلم في العرب، وجنايتها على هداية القرآن بالابتداع والتفرق
والاختلاف.
حضارة العرب وتأثير الإسلام فيها:
وقد كانت للمسلمين من جملة ذلك كله حضارة عربية زاهية زاهرة، جمعوا
فيها بين زينة الدنيا ونعمتها والاستعداد لسعادة الآخرة، ألطف مثل لها ما حُكِي عن
امرأة كانت ترفل في حليها وحللها، مخضبة الكفين، مطرفة البنان، وهى تسبح
الله تعالى وتذكره، فرآها رجل ناسك فقال لها: ما هذا مع هذا؟ ‍‍‍! ‍‍‍‍‍ فقالت:
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
وكانت قيانهم ووصائفهم تحفظ القرآن، وتروي الحديث بالأسانيد، وتنظم
الشعر وتلحنه، وما كان من إسراف بعضهم وفسوقهم تجد تجاهه غلو آخرين في
دينهم، وانقطاعهم إلى العبادة وجهاد النفس بحرمانها من الطيبات المباحة.
كان أهل بغداد في عهد حضارة العباسيين يتنزهون في زوارق دجلة أصيل
كل يوم، كما يتنزهون في هذه الأيام، فاتفق أن اقترب قاربان منها في أحدهما مغنٍّ
يعزف على عوده، وفي الآخر قارئ يرتل سورة التكوير، فأنصت المغني واستمع
للقرآن يتدبره، حتى إذا بلغ القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير: ١٠) ضرب بعوده جانب الزورق فكسره ورماه في دجلة خاشعًا
متصدعًا من خشية الله، فكان ترتيل القرآن أفعل في نفسه من توقيع الألحان،
ومثل هذا لا يقع الآن، والقوم هم القوم، ولكنهم ضعفوا في لغتهم، فلم يبقَ للقرآن
سلطان على قلوبهم، وغلوا في الدين والحضارة معًا؛ فحرَّم السماعَ بعضُهم،
واتخذه آخرون عبادة.
لو جرى المسلمون في حضارتهم وعلومها وفنونها على صراط القرآن بكفالة
الخلافة لاستفادوا من فلسفة اليونان وتصوف الهند وفنون الروم والفرس وصناعاتهم
وتنظيم حكومتهم ما يزيدهم إيمانًا بالله وبصيرة في دينه وقوة في دولتهم، واعتدالاً
في نعمة حضارتهم، ولما وجدت بدع النظريات الفلسفية والصوفية وفتن السياسة
الشعوبية سبيلاً إلى التفريق بينهم في دينهم وحكمهم، ولكنهم نكبوا عنه فانقلبوا بعد
ألفتهم وتوادهم أعداء يتنازعون في متشابه القرآن الذي ألَّف بين قلوب سلفهم بعد
تعاديهم وتقاتلهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وهم يقرءون قوله - عز وجل -:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: ٧) الآية، وقوله: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُم ْ} (البقرة: ٢١٣) الآية، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:
٥٩) .
سنن الاجتماع في قلب الإسلام لنظم الأمم السريع:
كل ما جرى للأمة الإسلامية كان مقتضى سنن الاجتماع في دين قلَب نظم
الأمم والملل كلها في أديانها ودنياها في جيل واحد، ودخل فيه أفواج لا تحصى من
كل جنس وكل ملة وكل حضارة وكل بداوة، قضى شرعه أن يكونوا إخوانًا
متساوين في جميع الحقوق، لا يتفاضلون إلا باستعدادهم الشخصي؛ فمنهم من فهمه
بلغته وثقافة من جاء به، وهم العرب؛ لأنه لم يكن عندهم ما يزاحمه من التقاليد
الدينية والعادات المدنية، بل كانوا كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
ومنهم مَنْ لم يفهم منه إلا بعض تقاليده الظاهرة، ولم يره إلا في مرآة ما كان
عليه قومه من دين وحضارة، ومنهم من كان مخلصًا فيه، ومن كان يكيد له
عصبية لقومه وملته ودولته التي قضى عليها، ومن كان يبتغي به الحياة الدنيا
وسلطانها وزينتها، ومن كان يريد به وجه الله والدار الآخرة.
حكمة الله في ترتيب الخلفاء الأربعة:
وكان من حكمة الله ورحمته أن خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه
خير أصحابه علمًا وحكمة وإخلاصًا؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم وحجة لله عليهم،
وألهم أهل الحل والعقد أن يقدموا أقصرهم فأقصرهم عمرًا من حيث لا يدرون؛
لتستفيد الأمة من كل واحد، وهذه حكمة ألهمني الله تعالى إياها منذ عشرات السنين
لم أروها ولم أسمعها من أحد، وهاك وجه كل واحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين.
قدموا أبا بكر أولاً؛ فكان في عهده تمحيص الأمة العربية، وتصفيتها من
النفاق والضعف، وكان هو أولى الناس بتنفيذ هذه التصفية في حروب الردة
ودعوى المتنبئين النبوة وبقايا العصبية الجاهلية، وهو مشهود له بأنه كان أعلم
الناس بأنساب العرب وأخلاقهم وأحوالهم، فتم ذلك بسياسته على أكمل وجه.
وخلفه عمر فكان في عهده فتح الأمصار والقضاء على ملك كسرى برمته،
وملك قيصر الروم في الشرق كله، والاستيلاء على الأمم والملل الكثيرة
وخضوعها للإسلام في دينه وحكمه، أو في حكمه فقط، وقد ظهر لجميع الأمم في
عهده ومن بعده أنه خير من قام بهذا الفتح ونظمه علمًا وعقلاً وعدلاً وقوة وإخلاصًا.
فبحكمة أبي بكر صارت الأمة العربية أمة واحدة موحدة مثقفة، وبحكمة عمر
صارت أمة فاتحة حاكمة عادلة مصلحة للبشر؛ ولما كان من سنن الاجتماع أن
يظهر في هذه الدولة العربية ما هو كامن في بعض أهلها من الاستعداد للفتن
والمطامع، وما ينفخ في ضرمه خصومها الذين قضت على ملكهم، ومن المصلحة
أن يظهر حكم الإسلام في إخماده بالحق والعدل - ألهم الله أهل الشورى أن يقدموا
عثمان على عليّ، وجل عصبة الأول من بني أمية الطامعين في الملك، وجل
عصبة الثاني من بني هاشم الذين يغلب على أكثرهم الزهد في الدنيا، وقد كان
بينهما في الجاهلية ما كان من (التنازع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم)
الذي ألَّف المقريزي فيه مصنفًا خاصًّا بهذا الاسم.
كان عثمان على عدله وفضله شديد الحياء، لين العريكة؛ فغلبه قومه على
وصية عمر السياسي الحكيم له بأن لا يحمل أبناء أبي معيط على رقاب الناس،
فركبوا الرقاب من غير أن يحملهم هو عليها، فنجمت رءوس الفتنة في عهده،
وكان كارهًا لها، إلا أنه لم يستطع كبح جماحها، فكان شهيد أول ثورة على ولي
الأمر في الدولة العربية، وكان هذا أشأم سنة في الحكم الإسلامي.
ثم جاء عليٌّ ونار الفتنة مشتعلة، وكان أولى إمام في الأمة أن يقاومها علمًا
وعدلاً، وإيثارًا للحق على الخلق، وللهدى على الهوى؛ ولو لم يكن لها في تأخر
زمنه - وقد أطال الله عمره - إلا هذه الحكمة والرحمة لكفى؛ فهو قد سنَّ من سنن
الحق والعدل في قتال البغاة والخارجين على حكم الإسلام ما لم يكن يرجى من غيره
مثله، وخيرها اتقاء تكفير أهل القبلة بخطأ الاجتهاد، كما كان هذا التكفير شر ما
فعلوه، فالإيمان والكفر إنما يكونان بالقطع لا بالاجتهاد.
وقد بينَّا من قبل أن التنازع في الإمامة بين شيعة علي وجمهور الأمة قد كان
تنازعًا بين ما يسمى في هذا العصر السلطة الأرستقراطية، أي: حكم الأشراف،
والسلطة الديمقراطية، أي: حكم الأمة الشوري الانتخابي؛ ولذلك كان أشد أنصار
الشيعة من بعده الأعاجم الوارثين للعبودية للملوك، وأن عليًّا لو ولي الأمر من أول
الأمر بسبب قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بحجة وصيته له ولذريته
من فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكانت فتنة عبادته وعبادة آله
ودعوى عصمتهم قضت على توحيد الإسلام من أول وهلة إن ثبتت.
استحالت خلافة النبوة بعد عليّ والحسن عليهما السلام ملكًا عضوضًا، كما ورد
وهو من سنن الاجتماع، وكان بنو أمية وقد صفا لهم الملك من أقدر قريش على
استمرار الفتح وتوسيع دائرة الدولة وعظمتها؛ ولكن تحويل زعيمهم الأول
(معاوية) لحكم الإسلام الشوري (الديمقراطي) إلى عصبية النسب (الأرستقراطية)
كان سُنَّة سيئة دائمة قضت على دولتهم قبل أن يتم لها قرن كامل، وهم الذين
أحدثوا بسياستهم الجنسية فتنة الشعوبية فكانت عاقبة هذه العصبية أنْ آل الحكم إلى
الأعاجم، وصار قائمًا على قوة العصبية دون أصل الشرع، وزال سلطان الإمامة
الديني الذي تخضع الأمة له بوازع العقيدة، فصار الحكم الإسلامي عسكريًّا مذبذبًا،
لا أرستقراطيًّا ولا ديمقراطيًّا.
هذه جملة أسباب ترك الدول الإسلامية لهداية القرآن وهداية السُّنة وجماعة
الأمة، ولو ظلت الأمة متبعة لهما لأكرهت الدولة على هذا الاتباع في أي وقت
تجتمع به كلمتها؛ ولكن جمهور الأمة تحولوا عن هذا الاتباع بفساد التعليم،
وتقصير العلماء في بيانه، والدعوة إليه والعمل به، ومطالبة الحكومات بالتزام
هدايته، بل إلزامهم إياها بنظام تكفله الأمة، وتيسير السبيل لذلك بجعل لغته مَلَكة
راسخة في الأمة بتعلمها بالعمل، كما كان عليه أهل العصر الأول، ولم يفعلوا شيئًا
من هذا، وهو الذي أضاع حكم القرآن من ناحية السلطان.
وهو ما نوهنا به في تصدير الطبعة الثالثة التي نشرناها في هذا الشهر،
وصرحنا فيه بأنه حدث لنا به أمل جديد في حياة المسلمين الملية، لا تعرف حقيقتها
إلا بتجربة عملية جديدة، وهو ما عزمنا عليه في هذه السنة.
الدعوة الجديدة هي أساس الإصلاح كله:
سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة
المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها، أو فيما عدا
التعليم الإسلامي المدرسي منه، الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له،
وتولي النهوض به، فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة
القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم.
لما ألَّفنا جماعة الدعوة والإرشاد، وأنشأنا مدرستها وجدنا عقلاء المسلمين
وأذكياءهم في مصر، وإستانبول، وأمصار الهند الإسلامية الكبرى، وبغداد،
وسوريةَ متفقين على أنها أعظم عمل إسلامي لا يُرجى الإصلاح المنشود بدونه؛
حتى إن كبار رجال الترك أكبروه، وعلموا أنه يحيي الدولة العثمانية حياة جديدة إذا
هي كفلته ونفذته على الوجه الذي اقترحته عليها وقررته الجمعية التي أسست له من
أذكى رجال الدولة، ولكن زعماء جمعية الاتحاد والترقي - الملاحدة منهم - كانوا
قد أجمعوا أمرهم على إسقاط دولة آل عثمان وخلافتهم، وإقامة دولة تركية لا دينية
على أنقاضها، ولولا ذلك لما منعوا الحكومة من تنفيذه بعد أن صدر به أمر مجلس
الوزراء، وقرر أن تكون نفقات المدرسة السنوية في ميزانية وزارة الأوقاف.
وكان الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر علم بالأمر وأكبره، فلما عدت من
إستانبول والأمر مقرر رسميًّا، أقنعني بأنه هو يكفل مساعدتي على تنفيذه في
مصر، وبأن الدولة العثمانية إن أرادت تنفيذه في إستنابول فإن من السهل أن يكون
في كل من العاصمتين مدرسة تابعة لمقاصد الجمعية ومنهاجها، ففعلت وصدق هو
وعده، وفتحت المدرسة أبوابها لجميع الشعوب الإسلامية، وتعاون على نفقتها
ديوان الأوقاف الخيرية العامة ومصلحة الأوقاف (الملكية) الخاصة، حتى إذا ما
اشتدت سيطرة الإنكليز على مصر في عهد الحرب الكبرى، كادوا للمدرسة كيدهم،
وأوعز عميدهم إلى وزير الأوقاف (إبراهيم فتحي باشا) وكان من صنائعه؛
فقطع الإعانة التي كانت قررت لمدرسة الدعوة والإرشاد، وتعذر عودة الخديو إلى
مصر، فاضطررت بعد صبر جميل إلى تعطيلها.
وجملة القول أنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر
مشتركي المنار، وعلى ما أقر به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة
والعامة بالأولى، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها، لم أرد إلا ثقة ورجاء
بنجاح السعي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وجديد أمر الدين بما يظهره الله به
على الدين كله، حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة
من المسلمين بذلك؛ تصديقًا لبشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بأنه لا يزال في أهله طائفة ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى تقوم
الساعة (رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق) . وهذه
الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين
خيار الرجال المتفرقين في الأقطار، الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على
اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم لمخاطبتهم في الدعوة إلى العلم، وأرجو من كل
من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا
عنوانه، وما هو مستعد له من العمل معهم، إلى أن تنشر دعوتهم الرسمية.
وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا العصر
الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض، فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على
أمر الله، وتعاونها على نشر الدعوة، وجمع كلمة الأمة، بعد وضع النظام لمركز
الوحدة الذي يرجى أن نثق به؛ فهي لا ينقصها إلا هذا، وقد طال تفكيري فيه،
وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه.
وأعجل بحمد الله تعالى أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا
الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر - وهو ما يعبر عنه
في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية - وقد قضى هو يائسًا مما كان يحاول فيه،
وظللت أجاهد في سبيل إصلاحه على ما عرض من أسباب اليأس منه، التي تفاقم
أمرها أخيرًا، وكتبت فيها بضع مقالات في المقطم، ثم (كتاب المنار والأزهر)
وما هذا إلا لأنني لم أيأس، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد
مصطفى المراغي عظيم، أشرت إليه في تصدير الطبعة الثالثة من كتاب الوحي
المحمدي، بعد أن كتبت عنه في الجزء الماضي من المنار ما كتبت.
كان الأزهر كَنْزًا خفيًّا، أو جوهرًا مجهولاً عن أهله وحكومته، وعقلاء بلده
لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به، والاستيلاء
على زعامة جميع الشعوب الإسلامية في الدين والأدب واللغة بإصلاح التعليم العام
فيه، ولكن تعليم الإمام - رحمه الله - وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في
طائفة من شيوخه، والاستعداد في جمهور طلابه، ولم يبق إلا العمل الجادّ، ولله
الحمد.