للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

نَوَّهْنَا في الجزء الماضي بحفاوة الأزهر بعودة الشيخ المراغي إلى رياسة
مشيخة الأزهر والمعاهد الدينية ومشاركة جميع طبقات الأمة لهم فيها، وقد وعدهم
بأن يرد لهم الزيارة في الجامع الأزهر نفسه ويلقي عليهم خطابًا عامًّا، ووفّى بوعده
فكان يومًا مشهودًا ألقيت فيه الخطب والقصائد في تهنئة الأزهر وأهله بإمامهم
المصلح الأكبر، ثم ألقى عليهم الأستاذ الخطاب الآتي الجامع لمقاصد الإصلاح
والتجديد وكانت آلة مضخمة الصوت توصل كلامه إلى أقصى أولئك الألوف
المجموعة كأدناهم، وهذا نص الخطاب، والعناوين في أثنائه من وضع المنار:
بسم الله الرحمن الرحيم
له الحمد على نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه..
وبعد: فقد رأيت واجبًا عليّ أن أزور الأزهر قبل بدء الدراسة لأحيي علماء
الأزهر والمعاهد، وطلبة العلم في الأزهر والمعاهد في دارهم كما حيوني في داري،
والأزهر دار خاصة لكل من ينتسب إلى العلم، ودار عامة للمسلمين،
وقصدت أيضًا إسداء النصيحة إلى إخواني العلماء وأبنائي الطلبة بنسيان ما قد يكون
باقيًا في نفوسهم من ضغائن وإحن سببتها الحوادث الأخيرة التي تعرفونها؛ لنستقبل
الحياة العلمية في صفاء، ونقبل على العلم بقلوب مخلصة لله ورسوله، نقية من
دنس الغل والحقد، عامرة بالإيمان.
والأزهر مكان يستحق الإجلال؛ فقد كان - ولا يزال - مصباحًا تستضيء
به جميع الأمم الإسلامية، ومنبعًا صافيًا لعلوم الدين، ومستودع فنون العربية
وأسرارها وبعض العلوم العقلية.
وقد اضطلع بحمل عبء المعارف الإسلامية وغيرها، وخاصة بعد سقوط
بغداد وضياع ذخائرها العلمية، وصار المثابة الأخيرة، والكعبة التي يؤمها طلاب
العلم من جميع الأقطار، وما من بلد في مصر، بل وما من بلد في أي قطر من
الأقطار الإسلامية إلا وهو مدين للأزهر بما يعرفه أهله من الدين الإسلامي، وبما
بقي عندهم من علوم العربية.
حمل الأزهر هذا العبء وأدى الأمانة كاملة، وله الفضل على المعاهد العلمية
القائمة بجواره في مصر؛ فهو أستاذها، وهو شيخ هذه المعاهد جميعها.
نعم: قد استقلت عنه بعض المعاهد أخيرًا، ولكنه لا يزال له نصيب عظيم
من التثقيف في المعارف الإسلامية وفنون العربية في أكثر هذه المعاهد؛ فلَكُمْ أن
تفخروا بتاريخ طويل كله مجد وعظمة لهذا المعهد الذي تنتسبون إليه: تاريخ ظهر
فيه من الأئمة والعلماء والمؤلفين من خريجي الأزهر من لا يحصيهم العد، وقد
كانوا سبّاقين للخيرات، وكّلوا أمرهم إلى الله - جل شأنه - فحفظهم ورعاهم،
وشرح صدورهم، وأنار عقولهم؛ فترسموا آثار الرسول الأكرم - صلوات الله
عليه - وتخلقوا بأخلاقه، واعتصموا بهديه، وانتفع الناس بعلمهم وتأدبوا، وحلت
آثارهم في البلاد جميعها كما يحل ضوء الشمس ونور القمر.
أولئك آباؤنا وأجدادنا في سلسلة النسب العلمي، رضي الله عنهم ونفعنا بهم.
يجب أن نذكر هذا المجد ونفاخر به، ونحرص على الانتساب إليه كما
يحرص الأشراف على أنسابهم، وأن نحافظ على هذا المجد ونضيف إليه مجدًا
طارفًا، اقتداء بأولئك الآباء والأجداد.
قد يسأل بعض الناس ما فائدة الأزهر؟ أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال
اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام، ومتى عرفت رسالة
الإسلام عرفت رسالة الأزهر.
موضوع الإسلام واتفاقه مع علوم العصر والحاجة إليها:
الإسلام دين جاء لتهذيب البشر، ورفع مستوى الإنسانية، والسمو بالنفوس
إلي أرفع درجات العز والكرامة، قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، ووصل
بين العبد وربه، ولم يجعل لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء،
وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو
منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل، وأتى بتعاليم كلها ترجع إلى
تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وشرع حل التمتع
بالطيبات، ولم يحرم إلا الخبائث، ووضع حدودًا تحدُّ من طغيان النفوس ونزوات
الشهوات، ورسم أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين، قواعد كلها لخير
البشر وسعادة المجتمع الإنساني.
هذه صورة مصغرة جدًّا للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين
الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى
نصيبًا عظيمًا من السعادة والخير للجمعية الإنسانية.
في القرآن الكريم حثٌّ شديدٌ على العلم، وعلى معرفة الله، وعلى تدبر ما في
الكون؛ وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق، فالدين الإسلامي
يحث على تعلم جميع المعارف الحقَّة، وليس في المعارف الحقَّة الصحيحة المستقرة
شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها.
نعم: قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن
والحديث والفقه وغيرها، ولكنا لا نهتم لهذا؛ فليَسِر العلم في طريقه، ولنصحح
معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني
المستقر.
ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية
للكيمياء أو ما يشبه هذا، ولكني أعني أن هناك علومًا ومعارف لها صلة بالدين
وثيقة تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عنه الشبهات، هذه العلوم
يجب أن يتعلمها العالم الديني، أو يتعلم منها القدر الضروري لِمَا يوجِّه إليه.
هذا وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها
ضروريًّا لنشرها وترغيب الناس فيها، ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة
الحديثة: وازنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب
النفوس إليها، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس عنها، وقد
توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفًا، وأغلى قيمة، وأمتن مادة، ومع ذلك
هي في كساد.
تغيير طريقة التعليم والتصنيف:
وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث
العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي الملل والسأم.
حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب
أيضًا، وهذا المثل ينطبق علينا: ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي
جميع العلوم التي تدرس في الأزهر أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة
العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث
النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس
الآن من غير حرج، وتحقق العدالة في أكمل صورها؛ ولكن هذه النظريات البالغة
منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.
على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وأن ييسر لهم هذه المعارف،
وأن يعرضها عرضًا حديثًا جذَّابًا مشوقًا.
تطهير الإسلام من البدع:
ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: تلك هي تطهير الدين الإسلامي من
البدع وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. هناك آراء منثورة في كتب
المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها، ضنًّا بكرامة الفقه والدين.
ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في
المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها.
وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب (الولاة والقضاة) للكندي:
(كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي، وكان
يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب، وكان
مرضي الأحكام، لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه، سأل ذلك القاضي
الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات، فقال الطحاوي: أتسألني عن
رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ فقال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي:
ظننتك تحسبني مقلدًا، فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟
فتَخيُّر الأحكام نوع من الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه.
إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية في
مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
بل أقول: إن هذا الإصلاح ضروري للأمم غير الإسلامية كلها بما يؤديه من
الخدمة للحضارة الإنسانية العصرية التي تنقذها مما هي عرضة من خطر الإباحة
المادية والإلحاد، اللذين يبثهما في الأمم دعاة البلشفية والتعطيل الجاحدين لوجود
الخالق والبعث والجزاء على الخير والشر؛ فهذا الخطر لا علاج له إلا هداية
الدين [١] .
وأنا أرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في
النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، وللدين
الحق، الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر.
احترام حرية الرأي:
ونصيحة أقدمها للعلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيًا تدبرها، وهي احترام
حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر.
ولا أطالب بشيء يعد بدعة، ولا أحدث في الدين حدثًا بهذه النصيحة؛ فهي
موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة - رضي الله عنهم - وترونها مبسوطة
واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي.
وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها [٢]
كالصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا.
أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب
الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقًا، على شرط أن
يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.
على هذا أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - وأجمع عليه الأئمة، ولم
يعرف أن بعضهم أثم بعضًا.
وإجمال القول أنه ما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئًا منه، ولا
يكذب ما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطرق قاطعة، فهو مسلم لا
يحل لأحد أن يتهمه بالكفر.
عرضت لهذه النصيحة؛ لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس،
والعمل بها يمكِّن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة، والعلم على خلافها
منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة.
أسأل الله أن يهبنا رشدًا، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلاله، ويملأها
عطفًا وشفقة ورحمة لعباده.
وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم، فمن أول واجب على
أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات: لغات الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا
بلسان قومه ليبين لهم.
فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم،
وسأُعنَى بهذه المسألة، كما أُعنَى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون (أغرابًا)
فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو
أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.
وخليق بنا أن نذكر ما لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم من منن وأيادٍ
بيضاء على المعاهد الدينية، وأن نسأل الله - جلَّت قدرته - أن يسبغ عليه نعمة
العافية، ويديم على هذه المعاهد خيره وبره، وأن يحفظ حضرة صاحب السمو
الملكي أمير الصعيد، ولي عهده المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.