للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد زهران


كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم
الحكم بين المختلفين فيه
(٢)

المنكرات التسعة التي خصها بالذكر الأستاذ الشيخ
محمد زهران
أبدأ بكلام وجيز على هذه المنكرات، فأبين أنه ليس فيها شيء مما عبر عنه
الأستاذ الشيخ محمد زهران بصوادم الحجج القاطعة، التي لجأ إليَّ لاستئصال
شأفتها ببواهر البراهين الساطعة، ثم أعود إلى مسألة أحاديث المعجزات وهي أهم
وأكبر فأقول:
(١) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة ٦٤:
لم أر في هذه الصفحة شيئًا يصح أن يقال: إنه من الإلحاد، ولا من صوادم
البراهين القاطعة، ولا مما هو من مخالفة أصول الإسلام ولا فروعه. وخلاصة ما
فيها أن أبرهة أجمع أمره على هدم البيت الحرام، وأن عبد المطلب ومن معه دعوا
واستنصروا آلهتهم وانصرفوا، وخلت مكة منهم، وكان وباء الجدري قد تفشَّى في
جيش أبرهة، وفتك بهم فتكا ذريعًا لم يُعهد من قبل قط، وأصابت العدوى أبرهة
ملكهم فأمر قومه بالعودة إلى اليمن، وبلغ هو صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض
حتى لحق بمن مات من جيشه. قال: (وبذلك أرَّخ أهل مكة بعام الفيل هذا وقدسه
القرآن بذكره) وذكر السورة بنصها ولم يقل في تفسيرها شيئًا، فمهما يقل فيه
فهو لا يرد عليه.
(٢) أسطورة شق الصدر: هكذا عنوانه ص ٧٢:
أخطأ الدكتور محمد حسين هيكل أن نقل خبر هذه المسألة عن مؤلف أصل
كتابه بالفرنسية، وسيرة ابن هشام، واعتمد على نقدهما له، واستشكال وقوع ذلك
في بني سعد؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة، وكان المخبر لحليمة
الخبر أخوه ابنها الرضيع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في سِنِّه.
وقد أخرج هذا الحديث عنها ابن إسحاق وغيره من طريق عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب، وهو لم يسمع من حليمة، وإنما قال الذين أخرجوه عنه أنه
قال: حُدثت عن حليمة، ولم يذكر من حدثه. وقد أخرجه ابن إسحاق من طريق
نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع الحديث. وعبد الله بن جعفر
ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها.
وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة
مخالفة للرواية الأولى في سياقها وفي موضع وقوعها، وهي التي يذكرونها في
بعض قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الغلابي وقد قال الدارقطني
مخرجه عنه أنه كان يضع الحديث، وصرح غيره بكذبه أيضًا. فمن اطلع على
هذه الروايات في تعارضها فله العذر في الطعن عليها مع استشكال متنها وكونه غير
معقول.
ولكن مسلمًا أخرج عن أنس ما يقوي معنى رواية عبد الله بن جعفر من
طريق شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه، وشيبان كان يَهِمُ،
أي يخطئ، وحماد هذا من أثبت من روى عن ثابت، ولكنّ ثابتًا تركه البخاري
وقد تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، ويقال إن مسلمًا تحرى من رواية حماد عن
ثابت ما سمعه منه قبل تغيره. على أن أنسًا نفسه كان بعد كبر سنه ينسى بعض ما
حدث به، وهو لم يرفع حديثه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أيضًا عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك
يحدثنا عن ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة
نفر قبل أن يوحى إليه - وهو نائم بالمسجد الحرام - وساق الحديث بقصته نحو
حديث ثابت البناني، وقدم فيه وأخر، وزاد ونقص، ورواية شريك أخرجها
البخاري في كتاب التوحيد برمتها، وفيها أن قصة الإسراء والمعراج في جملتها -
ومنها شق الصدر - كانت رؤيا منامية. وقد غلطوا شريكًا فيها من جهات خالف
فيها من هو أوثق منه.
وأقوى الروايات في شق الصدر حديث الإسراء والمعراج الطويل الذي
أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - وليس لمالك غيره
- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في
الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعًا إذ أتاني آتٍ فقدَّ - قال: وسمعته يقول
فشق - ما بين هذه وهذه - أي وأشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج
قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملؤءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد
...إلخ) .
وفي رواية شريك بن أبي نمر أنه جاءه ثلاثة نفر وهو نائم، وهم الذين تعاونوا
على عملية شق الصدر، وأشرنا إليها آنفًا.
فأنى للدكتور هيكل أن يحيط بهذه الروايات وأسانيدها واختلاف متونها الدال
على روايتها بالمعنى في موضوع من الخوارق، ويحكم فيها بين ما حكاه عن
المستشرقين وغيرهم حكمًا معقولا؟ ولقد كنت سئلت عنها فلخصت الروايات بأوسع
مما هنا، واستظهرت من مجموعها أنه تمثيل لتطهير قلب النبي صلى الله عليه وسلم
وحفظ نفسه من كل ما لا يليق به من وسوسة الشيطان والشهوات والأهواء، كما
تمثل له كثير من المعاني والحقائق في تلك الليلة وفي رؤاه الصادقة بصورة مناسبة
لمعانيها، ولعالم المثال في الكشف الروحاني شأن عظيم عند أهله. ومن المعلوم
بالضرورة أن الإيمان والحكمة اللذين حشيا في قلبه - صلى الله عليه وسلم -
ليسا من المواد الجسمانية التي توضع في الطست ثم تحشى في القلب. ومن
شاء التفصيل في المسألة فليراجع الفتوى ١٢، من المجلد ١٩، ص ٥٢٩ -
٥٣٧، ودونها في ٨، ج ٤، م ٣٣.
وجملة القول أن الدكتور محمد حسين هيكل لم يطلع على حديث يعتقد صحته
ويعبر عنه بأنه أسطورة، فإن كان مقصرًا في هذا الاطلاع فليس بمليم بأكثر مما
يُلام أكثر علماء هذا العصر، ومما تلام عليه مجلة الأزهر (نور الإسلام) بما
تذكره كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، وكذا الموضوعة أحيانًا. فلا يصح أن يجعل
طعنًا في دينه.
(٣) مسألة بدء الوحي ص ٩٥:
لا أدري ما الذي أنكره الأستاذ زهران من كلام الدكتور هيكل في هذه المسألة،
وأما أنا فإنني أنكرت عليه متابعته فيها (لإميل درمنغام) مؤلف الأصل بما يستدل
به الماديون على دعوى الوحي النفسي الذي بسطته، ورددت عليه في كتاب الوحي
المحمدي بالتفصيل، كما أشرت إليه في مقدمة المقالة الأولى وسأعود إليه، فإنني
رأيت المنكرين على كتاب هيكل والمعجبين به سواء في عدم فهم هذه المسألة
المهمة وهي أساس الدين؛ ولهذا أقول إنه يجوز أن يكون مثلهم؛ لم يفطن لكون تلك
المسائل العشر شبهات يستدل بها الماديون على أن ذلك الوحي ذكاء نفسي وعمل
كسبي استعد له محمد صلى الله عليه وسلم بما زعموه من الروايات الباطلة والآراء
المخترعة، التي فندناها في كتاب الوحي المحمدي تفنيدًا.
وأنكرت عليهما مع العلم بعذرهما الاعتماد على رواية سيرة ابن هشام في
مسألة بدء الوحي، وما صورا به جزئياتها من التخيل الشعري الذي تعارض بعضه
الروايات، ولا شك في حسن نية هيكل فيها ومراعاته للأدب الواجب، فإن كان
الأستاذ زهران ينكر شيئًا كتبه بعينه فعليه أن يكتبه لنا، لا أن يكلفنا قراءة الكتاب
كله والرد على كل ما أنكره هو منه لظنه أن رأينا فيه كرأيه، ولكننا أقدر على الرد
عليه بما (يروق الكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة) كما قال، ورب شيء
أنكره أنا من هذه السير لا ينكره الأستاذ زهران، وقد ينكر إنكاري إن لم يقف على
دليلي مفصلاً.
إنني يا أخي أُنكر كل ما رواه ابن إسحق، وما تبعه به ابن هشام مخالفًا
لرواية الصحيحين في بدء الوحي، حتى رواية عبيد بن عمير التي قال شيخنا
الأكبر في الحديث (الحافظ ابن حجر) إنه يمكن الجمع بينها وبين حديث البخاري
في أول صحيحه. وما أظن أنك أنت ولا أمثالك من المبالغين في الإنكار على كتاب
(حياة محمد) تنكرون مثلي رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي في
المنام، وتلقيه منه أول سورة العلق مكتوبة في صحيفة أقرأه إياها، وهي مرسلة
لا ندري لعل الساقط من سندها أحد زنادقة اليهود، وأُنكر كذلك جميع الروايات
التي في كتب السير ودلائل النبوة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى ويسمع
من الإرهاصات ما اعتقد به أنه سيكون نبي هذه الأمة فتعلق به رجاؤه، وأنا أعهد
أن أمثالكم يطعن على من ينكرها أشد الطعن إلا من طريق علمي: كجرح الرواية
أو معارضة المتون بمخالفة القرآن مطلقًا والضعاف منها للصحاح، كما فعلت في
كتاب الوحي المحمدي مما تلقاه كل قارئيه بالقبول.
(٤) ما نسبه إلى السيدة خديجة ص ١٠٠:
يعني الأستاذ زهران بهذه المسألة قول الدكتور هيكل: إن خديجة قالت للنبي
صلى الله عليه وسلم عندما فتر الوحي: (ما أرى ربك إلا قد قلاك) أي أبغضك.
وقد تابع بهذا درمنغام، وهما لم يخترعاه اختراعًا. وكان من شأن المنكِر عليهما أن
يعلم أن ابن جرير رواه مرسلاً عن طريقين قيل إن رواتهما ثقات، ولكنهما
معارَضان بما رواه الشيخان عن جندب قال: اشتكي النبي فلم يقم ليلة أو ليلتين،
فأتته امرأة فقالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله:
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: ١ -
٣) اهـ.
وأقول إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب عدوته صلى الله عليه وسلم،
وما قيل في الجمع بينها من أن خديجة قالت له ذلك توجعًا وأم جميل قالته شماته فهو
مردود، وكان يجب على هيكل ألا يأخذ كلام درمنغام قضية مسلمة، ولو بحث
وراجع لعرف الصحيح، وعلم أن هذه الفترة القصيرة في الوحي ليست هي التي
استوحش لها النبي صلى الله عليه وسلم وكبر عليه الأمر، بل تلك الفترة هي التي
كانت بين بدء الوحي في حراء وبين الأمر بالتبليغ، وهي ثلاث سنين، كما بينته
في كتاب الوحي المحمدي وكان ينبغي للدكتور هيكل أن يتأمله ويعتمد عليه فهو لباب
التحقيق.
بل هذه الفترة مشهورة في كتب الحديث وكتب السير لا ينبغي لمن يجهلها أن
يكتب مصنفًا في حياته صلى الله عليه وسلم، يدعي أنه يتحرى فيه الحقائق؛ فماذا
فعل بالكتب التي طالعها لأجله؟
(٥) ما قاله في الإسراء والمعراج ص ١٥٣:
أجمل الأستاذ زهران إنكاره على ما كتبه الدكتور في هذه المسألة، وكلفني أن
أبين ما أُنكره منها وأُثبت ما أعرفه، وهو إرهاق يتقاضاني أن أصنف كتابًا أو
رسالة طويلة فيها، وقد سبق لي أن ارتجلت محاضرة فيها استغرقت ساعتين ونيفًا
في جمعية مكارم الأخلاق؛ إذ كانت في قاعة دار السادات.
الدكتور يثبت الإسراء والمعراج، وينقل فيهما ما هو مشهور بين الناس من
الاختلاف بين العلماء؛ هل كان في النوم أو اليقظة؟ وبالروح والجسد، أم بالروح
فقط؟ وينفرد بتعليل القصة بأنها من مشاهد وحدة الوجود الخيالية، ويصف هذه
الوحدة بغير ما يصفها به أهلها من الصوفية الغلاة الذين يُعرفون بصوفية الحقائق؛
لأنه موضوع ليس من علمه، كما أن التمييز بين صحاح الروايات وضعافها
ومنكراتها واختلاف متونها وتعارضها في المعراج ليس من شأنه بالأولى، وقد
أشرت إلى بعضها آنفًا في الكلام على حديث شق الصدر، والجمع بينها متعذر
حتى قيل بتعددها وهو لا يعقل.
ومما أخطأ فيه - كما نرى - ما نقله عن (موسيو أميل درمنغام) في
وصف المعراج وقد خلط فيه بين الروايات المضطربة، فلم يميز بين صحيحها
ومنكرها.
ووصفها وصفًا شعريًّا خلب الدكتور ببلاغته الفرنسية، فعرج هو من أفقه إلى أفق
أبعد منه في التخيل الشعري وهو أفق وحدة الوجود، التي يعجز صوفية الهند
ومقلدتهم من الإفرنج أن يبلغوا فيها شأوَ محيي الدين بن عربي في نثره وعمر بن
الفارض في شعره، وقد قال الدكتور فيها بما لم يعقله من الجمع بين الأزل والأبد.
مسألة وحدة الوجود عقيدة هندية قديمة لا تتفق هي وعقيدة الإسلام في كون
الخالق تعالى فوق جميع خلقه بائنًا منهم، وخلاصتها أن وجوده تعالى وتقدس عين
وجودها، وهي مظاهر له كمظاهر الماء من جامد ومائع وبخار وغاز، كما قال
عبد الكريم الجيلي:
وما الخلق في التمثيل إلا كثلجة ... وأنت لها الماء الذي هو نابع
وأقرب مما ذهب إليه الدكتور في تصوير مسألة الإسراء والمعراج أو تقريبها
إلى الأذهان، يوافق العلوم العصرية - هو ما ثبت عند القائلين باستحضار
الأرواح من تمثل أرواح الموتى المجردة بصور جسدية من الأثير تتكاثف أحيانًا بما
تستمده من مادة الكون أو من جسم الوسيط، حتى يمكن تصويرها بالآلة العاكسة للنور
وقد قرأنا في كتاب (المذهب الروحاني) وغيره من الكتب والصحف شواهد
على ذلك، وأصل هذا معروف عند أهل الدين بما ثبت من تمثل أرواح
الملائكة والشياطين بصور البشر وغيرهم وأمثلته كثيرة في كتب أهل الكتاب
المقدسة وفي القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة، ويحكون في كتب الصوفية أن
بعض الروحانيين منهم يتجردون من أجسادهم الكثيفة ويتمكنون من تحويلها إلى
أجساد أثيرية لطيفة أحيانًا تقطع المسافات البعيدة في طرفة عين وتنفذ من الأجسام
الكثيفة، فالمسألة معروفة مسلمة عند غير الماديين من المليين، وغيرهم من
الروحانيين.
فعلى هذا يمكن أن يقال إن روح النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت من القوة
في تلك الليلة ما كانت به كقوة روح جبريل الذي كان يتمثل له صلى الله عليه وسلم
بصورة دحية الكلبي وغيره، وتمثل للسيدة مريم - عليها السلام - بشرًا سويًّا، وفي
هذه الحالة تتصرف الروح بجسدها الأثيري اللطيف فتحمله من مكة إلى بيت
المقدس، ومنه إلى حيث شاء الله من السموات العلى إلى سدرة المنتهى، وقد
بينت هذا من قبل في المنار وفي محاضرتي الطويلة التي أشرت إليها آنفًا، وقلت
إنه مذهب الصوفية الموافق لقول جمهور المحدثين إن الإسراء والمعراج كانا
بالروح والجسد.
ولعل هذا ما أشار إليه الأستاذ الأكبر المراغي في التعريف بالكتاب بقوله:
(وعلم استحضار الأرواح فسَّر للناس شيئًا كثيرًا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على
فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها، وفهم انفصالها، وفهم ما تستطيعه من السرعة
في طي الأبعاد، وقد انتفع الدكتور بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى
بشيء طريف) ا. هـ.
اشتبه بعض قراء هذه العبارة المجملة الوجيزة في فهمها فظنوا أن الأستاذ
وافق المؤلف على القول بأن الإسراء كان بالروح منفصلة من الجسم، وعلى مسألة
وحدة الوجود، ولكن قوله: (فأتى بشيء طريف) لا يدل على فهمهم هذا؛ ولذلك
لم يقل: (بشيء طريف فيه) ، بل هو يشير إلى ما قلته.
وجملة القول: أن الدكتور هيكلاً نقل بعض أقوال علماء المسلمين في مسألة
الإسراء والمعراج وقول درمنغام من غير تمحيص ولا تحقيق، كما فعل بعض أهل
السير وغيرهم من المسلمين، وزاد عليها مسألة وحدة الوجود بعبارة مبهمة تدل
على أنه لا يعتقد أنها مخالفة لنصوص الكتاب والسنة لخفائها المعروف، فلا يباح
لمنكريها عليه الطعن في دينه، ولا يصح للمعجبين به أن يقولوا: إنه محقق لروايات
السيرة.
(٦) ما عقب به معجزة الغار ص ١٧٧:
يعني الأستاذ الناقد المنكر بهذه المعجزة ما نقله الدكتور هيكل عن أميل
درمنغام عن بعض كتب السير كالسيرة الحلبية: من أن النبي صلى الله عليه
وسلم حين دخل مع صاحبه الغار وجاء المشركون يبحثون عنه وجدوا شجرة تدلت
فروعها إلى فوهته، وبيتًا من العنكبوت يستر من فيه، وحمامتين باضتا عند بابه.
وذكر أن وجه المعجزة في هذه الأشياء أنها لم تكن موجودة، وإنما وجدت وقتئذ،
وأن درمنغام قال: (هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقص التاريخ
الإسلامي الجد (كذا) ، وهي أعاجيب ثلاث، لها كل يوم في أرض الله نظائر) .
(أقول) : حديث هذه الثلاث أخرجه ابن سعد وابن مردويه والبيهقي
وأبو نعيم عن أبي مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم
والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي e ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في
وجه النبي e فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي e فسترته،
وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن
رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم ... إلخ.
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان بعد ذكر حديث أبي مصعب هذا: قال
العقيلي مجهول ذكره في ترجمة عون بن عمرو. وذكر الحافظ في ترجمة عون هذا
أنه منكر الحديث مجهول، وذكر حديثه هذا عن أبي مصعب وقال إنه لا يعرف.
فهذه المعجزات لم يصح بها الخبر، بل انفرد بروايته مجهول منكر الحديث
عن رجل لم يعرف قط، فالظاهر أنه هو الذي وضعه عليه، ولو كان له أصل
لأمكن أن يقال من ذا الذي حقق أن هذه الثلاث وجدت عند دخوله e في الغار،
وأنها لم تكن من قبل، وكيف كان عبد الله بن أبي بكر وراعي غنمه مولاه عامر
ابن فهيرة يدخلان الغار في كل ليلة؟ ولِمَ لمْ يحدِّثا بها أحدًا ولا حدث بها من أكرمه
الله بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم وكذا صاحبه -رضي الله عنه- حتى حدث
بها أبو مصعب المجهول الذي أعيا رجال الجرح والتعديل أن يعرفوه أو يعرفوا عنه
شيئًا، ولم يحدث بها عنه إلا عون بن عمرو المنكَر الحديث؟ وأي حاجة إليها في
حفظ من كفل الله حفظه، وعبر عن ذلك بأنه تعالى معه ومع صاحبه؟ ههنا يظهر
الفرق بين شعور الأستاذ زهران والدكتور هيكل وأمثالهما:
الفريق الأول يرتاح إلى روايات خوارق العادات مطلقًا، ويرون أنها أعظم
الحجج على إثبات النبوة، فلا يعنون بتحقيق رواياتها.
والآخرون ينفرون منها لكثرتها عن جميع الملل ولا يرون فيها حجة قاطعة
على النبوة كالآيات العلمية والعقلية وأعظمها القرآن؛ ولذلك يميلون إلى تكذيب
روايات تلك الخوارق، وسنبين تحقيق الحق في ذلك.
(للنقد بقية)