للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الربا والزكاة والضرائب
ودار الحرب

(س ٥ - ٧) من صاحب الإمضاء في بيروت لصاحب الفضيلة الأستاذ
العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) المعظم.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فأرجوكم أن تتفضلوا بنشر أسئلتي المحررة أدناه مع الإجابة عليها في (المنار)
وتكرموا بقبول خالص الشكر ومزيد الاحترام.
(١) هل يجوز شرعًا وضع مال في أحد المصاريف الأجنبية، وأخذ ربا
عنه، ودفعه (أي الربا) إلى الحكومة عن الضرائب المتنوعة التي تفرضها وتجبر
الناس على دفعها؟
(٢) هل يجوز دفع الضرائب - كأعشار الزروع وغيرها - إلى الحكومة
من أموال الزكاة؟
(٣) متى يُدعى الأجنبي وأمته (أمة محاربة) بعرف الشرع؟ وما هي
(بلاد الحرب) ؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عزت المرادي
(المنار)
هذه المسائل من متممات المسألة الأولى من مسائل استفتاء جاوه الذي قبله،
ونجيب عنها بالإيجاز:
(٥) أخذ الربح من المصارف الأجنبية:
إن الربا المحرم قطعًا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارًا
كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير؛ فهل الربح المسئول عنه كله من الربا
القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟
المشهور أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح
العام الذي تستغله منها، وهو أنواع أقلها ما هو من الربا الذي عرفه الإمام أحمد
وغيره من أئمة السلف، وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أنه كان
يكون للرجل على الرجل دين مؤجل فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به
زاده في المال وزاده صاحب المال في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية
وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها ولا للمودعين لأموالهم فيها.
وأما كونه بعض مالها المحرم في الإسلام، فمثله كثير من أموال الناس،
والعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر الذي قلما يوجد فيه
كسب يُلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام؛ فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟
فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم، لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في
الضرائب المحرمة - من باب دفع الفاسد بالفاسد - لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له
ذلك. ومن اعتقد أنه غير ربا شرعي قطعي لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم
الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون
بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء إنه حرام إلا إذا كان بيِّنًا
في كتاب الله بغير تفسير. ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في
ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينَّا حكم
الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل.
* * *
(٦) دفع الضرائب من أموال الزكاة:
أموال الزكاة المستحقة على صاحبها لا يجوز دفعها إلا للأصناف التي
بينها الله تعالى في آيتها المعروفة] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [..
إلخ (التوبة: ٦٠) ، وزكاة الزرع كالأعشار إذا أخذتها الحكومة تسقط عن
صاحب الزرع المستحقة عليه، ولكن لا يسقط عنه زكاة النقدين بدفعها إلى الحكومة
أداء لضرائب الظلم. وفي هذا الباب مشكلات تختلف باختلاف الحكومات:
إسلامية، وغير إسلامية.
* * *
(٧) الأمة المحاربة التي تسمي بلادها دار الحرب:
دار الحرب مقابلة لدار الإسلام التي تكون فيها الحكومة الإسلامية التي تقيم
أحكام الإسلام، فكل أمة أجنبية لا تعقد حكومتها مع الحكومة الإسلامية معاهدة على
السلام والأمان وعدم الاعتداء تكون أمة محاربة، وتكون دارها دار حرب؛ لأن
الحرب فيها عرضة للوقوع في كل وقت؛ إذ لا عهد يمنعها، وللفقهاء تعريف لهما
لوحظ فيهما جريان الأحكام من الجانبين.
عقد العلامة ابن مفلح الفقيه الحنبلي فصلاً وجيزًا لهذه المسألة في كتابه
(الآداب الشرعية) قال فيه ما نصه (ج ١، ص ٢٣١) : (فكل دار غلب عليها
أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفار فدار الكفر ولا دار
لغيرهما) . وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن ماردين: هل هي دار حرب أو دار
إسلام؟ - قال: (هي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الإسلام التي يجري
عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار،
بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة
الإٍسلام بما يستحقه، والأول هو الذي ذكره القاضي والأصحاب والله أعلم) . اهـ.
وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم
إمام المسلمين من البلاد، ودار الحرب عندهم ما يجري فيه أمر رئيس الكفار
(كلمة الكفار تشمل - في الاصطلاح الشرعي - غير المسلمين من كتابيين ووثنيين
ومعطلة) من البلاد كما في الكافي، وفي الزاهدي أن دار الإسلام ما غلب فيه
المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من الكافرين. ولا خلاف
في أنه يصير دار الحرب دار إسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها. وأما
صيرورتها دار الحرب - نعوذ بالله - فعنده بشروط:
(أحدها) : إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم، ولا يرجعون إلى
قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من أحكام الإسلام، كما يأتي في الحرة.
(وثانيها) : الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد
الإسلام يلحقهم المدد منها.
(وثالثها) : زوال الأمان الأول، أي لم يبق مسلم ولا ذمي آمنًا إلا بأمن
الكفار (أي غير المسلمين) ولم يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد
الذمة قبل استيلاء الكفرة. وعندهما لا يشترط إلا الشرط الأول.
وهو يعني بقوله (فعنده) الإمام أبا حنيفة، وبقوله: (وعندهما) أبا يوسف
ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ولفقهاء المذاهب أقوال أخرى في دار الإسلام ودار الحرب وأحكامها،
والأصل فيها أن دار الإسلام ما كان أهلها من المسلمين وغيرهم آمنين بسلطان
الإسلام وحكمه العدل، وجارية فيهم أحكامه؛ ودار الحرب ما كان أمانها وأحكامها
بسلطان غير المسلمين وغير أحكام الإسلام؛ سواء كانت بينهم حرب أم لا؛
فيدخل في دار الحرب ما كان حكامها من المعاهدين المسلمين، ولهذه المسألة فروع
مشكلة في هذا، فإنَّ بعض البلاد التي تسمى حكوماتها إسلامية لا تجرى فيها
الأحكام الإٍسلامية من حيث هي إسلامية، بل لها تشريع وضعي مخالف للشرع
الإٍسلامي يسمى باسم البلد أو القطر، ويسمى رئيس حكوماتها شارعًا، وتنفيذ
الأحكام باسمه؛ بمعني أنه هو الشارع والمنفذ لها بسلطانه واسمه، لا بحكم الله
واسمه، ولا نخوض في بسط هذه المسائل.