للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد مصطفى المراغي


حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
عزم جماعة من طبقات الأمة العالية والوسطى إقامة حفلة تكريم عامة لشيخ
الإسلام المراغي ابتهاجًا بعودته إلى مشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية بعد فترة
خمس سنين كادت تقضي على ما كان فيه من دين قويم وخلق كريم وعلم نافع،
وتجعله بيئة دسائس ورياء وفتن وأهواء وخرافات ونزغات مادية، فكانت كسني
يوسف السبع الشداد، وكان هذا العام بعودة المراغي كذلك العام الذي أغاث الله به
الناس، ذلك العام كان غوثًا من القحط والجدب الذي كاد يقضي على الحياة البدنية،
وجاه هذا العام غوثًا من الجهل وفساد الأخلاق الذي كاد يقضي على الحياة الدينية
العلمية.
ولقد سعى الأستاذ لصرف الناس عن إقامة هذه الحفلة، زهدًا منه في هذا
الظهور والشهرة، بيد أن الأزهر - علماءه وطلابه - لم يتسن لأستاذهم
ورئيسهم صرفهم عن الانفراد بإقامة حفلة باسمهم خاصة بهم، ورياسته عليهم
إسلامية من أقوى دعائمها اتباع الإجماع، وكانوا على التكريم مجمعين، والعلم
بإجماعهم كان نطقيًّا لا سكوتيًّا؛ لأنهم محصورون، فجمعوا النفقة المقدرة للاحتفال
من أنفسهم بنظام اختياري عادل، واختاروا للاحتفال أفسح مكان في مصر، وهو
معرض الجمعية الزراعية الذي تعرض فيه نتائج زراعة القطن وصناعاته، فراعوا
النظير بعرض نتائج العقول والفنون فيه، ودعوا إلى حضوره ألوفًا من رجال
الطبقات العليا والوسطى، وفي مقدمتهم أمراء البيت المالك والوزراء العاملون
والقاعدون، وكبار رجال القصر والدواوين، وممثلو الدول الإسلامية السياسيين،
ووضعوا من موائد الشاي وما يتبعه عادة من أنواع الحلوى والفطائر ما يسع المئين أو
الألوف: منها ما وضع للمتعارفين من جمع القلة، ومنها ما وضع للمتجالسين من
جمع الكثرة، ووضع للمحتفل به ولأعضاء لجنة الاحتفال مائدة في صدر المكان مزينة
بالرياحين والأزهار بجانب منبر الخطابة، وبجانبه الآخر موائد الأمراء والوزراء،
وأمام موقف الخطابة آلة المذياع الكهربائي (الراديو) ووضع في جو المكان
أصوار أو أبواق متفرقة من مضخمات الصوت لتسمع كل من فيه ما يُلقى على
المنبر كأنه بجانبه.
وكان وراء هذا المجلس الفسيح الخاص بالمدعوين مجلس آخر للألوف
المؤلفة من مجاوري الأزهر وهم مع علمائهم أصحاب الدعوة، وقد جلسوا بترتيب
ونظام تام كنظام الجيش الألماني.
ولما كمل الجمع أقبل الشيخ الأكبر فانتصب القاعدون وقوفًا إجلالاً له وتكريمًا،
وهتفت جيوش المجاورين دعاء وترحيبًا، ثم أديرت كؤوس الشاي على جميع
الموائد في وقت واحد، وتلاها الطواف بأكواب شراب الليمون والبرتقال المثلوج،
بنظام دقيق سريع، ولما فرغ الجموع مما لذ لهم وطاب أكلاً وشُربًا افتتحت الحفلة
بتلاوة أشهر القراء لآيات من الذكر الحكيم، ثم نهض رئيس لجنة الاحتفال صاحب
الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد اللبان فألقى خطبة الافتتاح، وتلاه الخطباء
والشعراء من علماء الأزهر ونابغي طلابه، وكان أولهم أشهر علماء الأزهر في
الخطابة الارتجالية والكتابة العصرية: صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور
الزنكلوني، فبدأ خطبته بما يعهد به من مراعاة مقتضى الحال، بصوته الجهوري
المعتاد، وما لبث أن هاجته ذكرى ما سامته المشيخة الساقطة من هضم، وما
أرهقته من عسر وظلم، وما انقلب إليه بانقلابها من عزة وكرامة في وقفته هذه
على أعين عظماء الأمة، ومرأى ومسمع من رجال الدولة، فإذا به وقد غلبه على
رأيه ورويته غاشية من مراقبة الله - عز وجل - شغلته عن المضي في خطبته
بمداراة خشوعه، وكفكفة دموعه، فمكث هنيهة يستنجد قلبه، ويستلهم ربه، فألهمه
حسن المخلص بتوجيه التهنئة على هذه النعمة إلى الأمة؛ لأن ظفر الأزهر ظفر لها،
وأن يكل أمر تكريم المراغي إلى الله الذي رفع ذكره، وأعلى قدره، ووضعه في
الموضع اللائق به، ومكنه من الإصلاح الذي خُلق له، وختم الخطبة بالدعاء
لجلالة الملك وولي عهده.
لا يتسع المنار لما تحيط به الصحف اليومية من وصف هذه الحفلة بالتفصيل،
ونشر ما ألقاه أعلام الأزهر فيها من الخطب والقصائد؛ وإنما الواجب عليه أن
يبدأ بنشر خطبة المحتفل به، فهي أفصحها لفظًا، وأبلغها معنى، وأصحها بيانًا لما
ينويه من الإصلاح، على منهج المصلح الأول الأستاذ الإمام - قدس الله روحه -
وجعله خير خلف له، فيما نوَّه به من رفع ذكره، وتخليد حمده وشكره.
* * *
خطبة الأستاذ الأكبر في حفلة تكريمه
حضرات السادة الأعزاء:
أحمد الله - جل شأنه - على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم،
وأشكر لحضرات الداعين المحتفلين بِرَّهم وكرمهم، وعاطفة الحب الفياض البادية
في قولهم وفعلهم، في شعرهم ونثرهم، ولحضرات المدعوين تشريفهم واحتمالهم
مشقة الحضور الذي أعربوا به عن جميل عطفهم وحبهم.
ويسهل عليَّ قبول هذه المنن كلها واحتمالها إذا أذنتم لي في صرف هذه
الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف،
الذي تُجلُّونه جميعًا وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الإسلامية في مصر وغيرها من
البلاد.
ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم فقد دل بالإشارة
والتبع على معانٍ أسمى من غرض التكريم.
دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها، ونهض يشارك الأمة
في الحياة العامة وملابساتها، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد، وهذه ظاهرة
من ظواهر تغيير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه، وعن
شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة يجب أن تدرس وتعرف،
وطرائق في التعليم يجب أن نحتذي ونهتدي بها. ومنذ أربعين سنة اشتد الجدل
حول جواز تعليم الحساب والهندسة والتاريخ في الأزهر وحول فائدة تعليمها لعلماء
الدين، ومنذ أربعين سنة قرأ لنا أحد شيوخنا كتاب الهداية في الفلسفة في داره على
شرط أن نكتم الأمر لئلا يتهمه الناس ويتهمونا بالزيغ والزندقة، والآن تدرس في
كلية أصول الدين الفلسفة القديمة والحديثة، وتدرس الملل والنحل، وتقارن
الديانات وتعلم لغات أجنبية شرقية وغربية.
ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة - والحديث حديث
الأزهر والأزهريين - ذلك الكواكب الذي انبثق منه النور، الذي نهتدي به في حياة
الأزهر العامة، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه،
ذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية والنشاط الفكري، ووضع المنهج الواضح
لتفسير القرآن الكريم، وعبَّد الطريق لتذوق سر العربية وجمالها، وصاح بالناس
يذكرهم بأن العظمة والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى ومكارم الأخلاق، ذلك
الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته، ولم تقدره قدره إلا بعد أن أمعن في
التاريخ، ذلك هو الأستاذ الإمام محمد عبده - قدس الله روحه وطيب ثراه - وقد
مر على وفاته ثلاثون حولاً كاملة، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين ونحن نتحدث
عن الأزهر أن نجعل لذكراه المكان الأول في هذا الحفل، فهو مشرق النور،
وباعث الحياة، وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتد الظمأ، والدوحة
المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير.
الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي
أوجد أممًا من العدم، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة، وكان له هذا الأثر الضخم
في الأرض، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه وأبنائه واجبات إنسانية، ويشعرهم
بفروض صورية ومعنوية، يعدون مقصرين آثمين أمام الله وأمام الناس إذا هم
تهاونوا في أدائها، وأنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم ولمعهدهم وأنفسهم
إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه، وأجادوا معرفة لغته، وفهموا روح الاجتماع،
واستعانوا بمعارف الماضين ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو
متصل بالدين، أصوله وفروعه، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال
بآراء العلماء والاستزادة من العلم، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي
لا تعرف اللغة العربية، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه، وإلى التساند التام
بين العلماء والطلبة والقوامين على التعليم، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي
مراحل السير في هدوء ونظام وجِدٍّ، وصدق نية، وكمال توجه إلى الله، وحب
للعلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله.
وللمسلمين في الأزهر آمال من الحق أن يتنبه أهله لها:
أولاً - تعليم الأمم الإسلامية المتأخرة في المعارف وهدايتها إلى أصول الدين،
وإلى فهم الكتاب والسنة، ومعرفة الفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام ورجاله، وقد
كثر تطلع هذه الأمم إلى الأزهر في هذه الأيام وزاد قاصدوه منها أفرادًا وجماعات،
واشتد طلبها لعلماء الأزهر يرحلون إليها لأداء أمانة الدين وهي بيانه ونشره.
ثانيًا - إثارة كنوز العلم التي خلفها علماء الإسلام في العلوم الدينية والعربية
والعقلية، وهي مجموعة مرتبط بعضها ببعض، وتاريخها متصل الحلقات، وقد
حاول العلماء كشفها فنقبوا عنها وبذلوا جهودًا مضنية، وعرضوا نتائج بعضها
صحيح وكثير منها غير صادق، وعذرهم أنهم لم يدرسوا هذه المجموعة دراسة
واحدة، على أن بعضها متصل بالآخر كما هو الحال في دراسة الأزهر، فإذا وفق
الله أهل الأزهر إلى التعمق في دراسة هذه المجموعة دراسة قديمة حديثة، ودراسة
المعارف المرتبطة بها، وأتقنوا طرق العرض الحديثة - أمكنهم أن يعرضوا هذه
الآثار عرضًا صحيحًا صادقًا بلغة يفهمها أهل العصر الحديث؛ وإذ ذاك يكونون
أداة اتصال جيدة بين الحاضر والماضي، ويطلعون العالم على ما يبهر الأنظار من
آثار الأقدمين، وأعتقد أن التعليم الأزهري على النحو الذي أشرت إليه هو الذي
يرجى لتحقيق الأمل، وأنه مدخر لأبنائه إن شاء الله.
ثالثًا - عرض الإسلام على الأمم غير المسلمة عرضًا صحيحًا في ثوب نقي
خالٍ من الغواشي المشوِّهة لجماله، وخالٍ مما أدخل عليه وزيد فيه، ومن الفروض
المتكلفة التي يأباها الذوق ويمجها طبع اللغة العربية.
رابعًا - العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها، فإن
الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرقة، ومعروف لدى العلماء أن
الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي يهدي إلى
الحق في أكثر الأوقات، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في
القرون الماضية لمناصرتها، ونشطت أهلها وخلقت فيهم تعصبًا يساير التعصب
السياسي، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسة وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا
على ما يصوغه الخيال وما افتراه أهلها، وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها
القرآن، وجعلتها شيعًا في الأصول والفروع، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء
يلبسان ثوب الدين، ونتج عنه سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد
الشافعي غير كفء لبنت الحنفي، ومثل ما يُرى في المساجد من تعدد صلاة
الجماعة، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة، وعذبات
العمائم، وطول اللحى حتى إن بعض الطوائف لا تستحيي اليوم من ترك مساجد
جمهرة المسلمين، وتسعى لإنشاء مساجد خاصة.
من الخير والحق أن نتدارك هذا، وأن يُعنَى العلماء بدراسة القرآن الكريم
والسنة المطهرة دراسة عبرة وتقدير، لما فيها من هداية ودعوة إلى الوحدة؛ دراسة
من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه، وتجعل المؤمن رحب الصدر هاشًّا
باشًّا للحق، مستعدًّا لقبوله، عاطفًا على إخوانه في الإنسانية، كارهًا للبغضاء
والشحناء بين المسلمين.
قد أتهم بأني تخيلت فخلت، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود،
ولفت النظر إليها، وفضل الله واسع، وقدرته شاملة، وما ذلك على الله بعزيز.
الآن - وقد أوضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر - ترون أيها السادة
أن العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل، فإنه في حاجة إلى العون
الصادق من كل من يقدر على العون، إما بالمال أو العقل، أو بالمعارف والتجارب،
وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين إذا أتت الجهود بهذه الثمرات
الطيبة المباركة.
أيها السادة:
أكرر لكم شكري، وأبعث من هذا المكان، وفي هذا الجمع المبارك، تحية
الأزهر إلى العالم الإسلامي وإلى دور العلم ومعاهده، وأتشرف برفع ولاء الأزهر
إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الجالس على عرش مصر الملك فؤاد الأول،
وصاحب الفضل العميم في الأزهر في العصر الحديث، أدام الله عزه ومتع جلالته
بالصحة التامة والتوفيق الدائم، وأقر عينه بحضرة صاحب السمو الملكي أمير
الصعيد ولي العهد المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *
خطبة الأستاذ الكبير الشيخ
عبد المجيد اللبان
رئيس لجنة الاحتفال
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرات أصحاب السمو..
حضرات أصحاب الدولة والمعالي..
حضرات السادة ...
أحييكم أطيب تحية، وأشكر لكم أصدق الشكر تلبيتكم دعوتنا، فقد برهنتم
بذلك على ما للأزهر من المنزلة الرفيعة في نفوسكم، والمكانة السامية في قلوبكم،
وضاعفتم معنى التكريم الذي أراده الأزهريون لشيخهم من إقامة هذه الحفلة الكبرى؛
إذ أعلنتم بهذا الاشتراك أن مقام المشيخة الإسلامية الذي يرقاه حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي هو هو مقام الرياسة الدينية
العظمى، الذي يحيطه المصريون بمظاهر الاحترام والإجلال، ويتوجه إليه
المسلمون في شؤون دينهم بأسمى الآمال، كما يدل اشتراككم على أن مصر ممثلة
في صفوة أولي الرأي من رجالها، تعرف ما للأستاذ المراغي من أيادٍ بيضاء على
التعليم الديني، وجهود بارزة في سبيل إصلاح المعاهد الدينية وإعلاء شأنها، وإني
باسم الأزهر وباسم لجنة الاحتفال التي شرفتني برياستها، أرحب بكم وأحيي من
قلبي تلك الرابطة الوثيقة التي تربط الأزهر بهذا الوطن العزيز وبالعالم الإسلامي
أجمع، وأحيي هذا الشعور النبيل الذي يتجلى نحو هذا المعهد الديني الأكبر في
جميع المناسبات.
حضرات السادة:
أنشئ الجامع الأزهر من نحو ألف عام وتاريخه في هذا الزمن الطويل،
يكاد يكون تاريخ الحياة العلمية والدينية والاجتماعية لمصر ولسائر بلاد العالم
الإسلامي؛ إذ كان هو مصدر العلوم ومقر الدراسات لهذه البلاد جميعها [١] ، ثم
طرأت بعد ذلك طوارئ كان من أثرها هذا التحول في الحياة العامة، وفي أساليب
التعليم واتجاهاته، وزخر تيار هذه الاتجاهات الجديدة، وزاحمت الأزهر بمالها من
قوة الشيء الجديد، وكاد الأزهر وسط هذا التطور العام ينفصل عن البيئة المصرية،
وتصبح تعاليمه السمحة مقصورة على رجاله، وأوشك - بفعل الزمن - أن
يصير وطنًا مستقلًّا في قلب هذا الوطن، وكادت فائدته تخفى على بعض الناس،
وشعر الأزهريون أنفسهم أنهم يبتعدون عن شعب مهمتهم الكبرى إرشاده وهدايته،
وينفصلون عن مجتمع عملهم في الحياة تهذيبه وتثقيفه، وإذ ذاك لاحت بارقة أمل
خلال جهود المصلحين في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ثم جاء عصر
جلالة مولانا الملك المعظم فتوجهت عنايته السامية إلى إصلاح الأزهر والمعاهد
الدينية إصلاحًا شاملاً، فوضعت له الأنظمة واللوائح الحالية، وقسمت الدراسات
العالية فيه إلى كليات تقوم كل واحدة منها بنوع من الدراسات الإسلامية والعربية
على نمط جامعي، خشي معه بعض الناس أن يتحول الأزهر عن تقاليده ومميزاته
إلى نظام المدارس المدنية، لكنهم ما لبثوا أن شهدوا معجزة الأزهر تبرز أمام
العيون واضحة جلية، فإذا العلوم والفنون الأزهرية التي استقرت في كتبنا القديمة
تتحول إلى دراسات عصرية منظمة محتفظة بطابع الأزهر في دقة البحث، وعمق
التحليل، وإذا أساتذة العلوم المستحدثة في النظام الجديد المنتدبون لذلك من الجامعة
المصرية والمدارس العالية يلقون محاضراتهم المختلفة في كلياته بجانب شيوخه،
وإذا عقول الطلاب تتسع للجديد الطريف وللقديم العتيد في ثوبه الجديد، وبهذا أخذ
الأزهر يسترد زعامته الأدبية والعلمية بعد أن نافسته معاهد استمدت حياتها منه.
وللأستاذ المراغي في تأسيس هذا النظام عظيم الفضل، ولجهوده كبير الأثر في
تكوينه.
أيها السادة:
أترك لحضرات الخطباء والشعراء بعدي تفصيل الكلام على فضل الأستاذ
الأكبر وجليل أعماله، وأختم كلمتي بالتوجه إلى الله تعالى بالحمد والثناء على
توفيقه وجميل رعايته، وأضرع إليه - جل شأنه - أن يهب الأستاذ الأكبر التوفيق
في عمله، ويرزقه السداد والحزم في رأيه؛ ليحقق بالأزهر وفي الأزهر ما ينشده
العالم الإسلامي من إصلاح بفضل ما يسديه جلالة الملك المفدى من رعاية،
ويخص به الأزهر من عطف وعناية.
أدام الله جلالة الملك ذخرًا للوطن العزيز، ممتعًا بالصحة الكاملة، وأبقاء
حاميًا للعلم والدين، وأقر عينه بسمو ولي عهده المحبوب أمير الصعيد، آمين.