للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد أحمد العدوي


خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي
الأستاذ بكلية أصول الدين

بسم الله الرحمن الرحيم
يرحم الله مالك بن أنس إذ يقول: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أولها) . ولقد كانت هذه الكلمة دستور أستاذنا الراحل في الإصلاح، آمن به إيمانًا
خالط قلبه، وتغلغل في نفسه. سلف هذه الأمة صلح بالعمل بدين الله، بعيدًا عن
تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
البدع والمحدثات
ومن أجل ذلك حارب البدع والمحدثات في دين الله؛ ليبقى للدين جماله،
ويحفظ له عظمته وجلاله. وأي عاقل يرى ما عليه المسلمون وهم يزورون قبور
الصالحين، من تعفير للوجوه، وتقبيل للأعتاب، وطواف حول المقاصير كما
يطاف بالبيت الحرام، والتجاء إلى صاحب القبر في كشف الكروب، وهداية
القلوب، والبركة في الرزق، وما إلى ذلك مما لا يتصل بالإسلام في قليل أو كثير؟
أي عاقل يرى ذلك ثم لا يندى جبينه لهذه البدع في دين التوحيد والفطرة؟
وهذه بدع الموالد أصبحت معرضًا من معارض الفسق، وسوقًا نافقة للتجارة
في الأعراض وانتهاكًا لحرمة الدين، وهذه بدع الأذكار ومعها الطبول والمزامير
والرقص والطرب، تصور الدين أمام الأجانب بصورة تتقزز منها النفوس،
وتجعله إلى الهزل أقرب منه إلى الجد، وهذه بدع الدجالين من محترفي الطرق،
يستغلون سذاجة الجماهير بضروب من التمويه والشعوذة: كأكل الثعابين، والنار،
وطعن أنفسهم بالسلاح وما إلى ذلك!
ولا تنسَ فعل الكلشني، وعمود الحسين، ومغارة المغاوري، وقبر أبي
السعود الجارحي، ومغطس الطشطوشي، وصناديق النذور، التي لم يأذن بها الله،
دع كتب أدعياء التصوف، وما شحنت به من أباطيل: كإيهام الناس أن هناك
حقيقة تخالف الشريعة، ووحدة الوجود التي سرت إليهم من ديانات الهند الوثنية.
فإذا جاهد الأستاذ في ذلك السبيل فإنما يجاهد لحماية دين الله من الشرك، وذرائع
الشرك، وتطهيره من الجهالات، ولا غنى لمصلح ديني عن خوض هذه المعركة
التي خرج منها الفقيد ظافرًا، فكان سيفًا من سيوف الله على رقاب المبتدعين
والمضللين.
دفع الشبهات عن الدين
وكذلك كان من أهم أغراضه أن يدفع عن الإسلام الشبهات التي يوردها
أعداؤه عليه، كما أفاض في دفع شبهات الماديين كنظرية دارون، وهناك قسم من
الشبهات منشؤه الجهل بالإسلام وما انطوى عليه من حكم: كشبهتهم على توريث
البنت نصف أخيها، وتعدد الزوجات، والرق في الإسلام، وقد تجلت عبقرية
الأستاذ في هذه المسائل، فأبان حكمة الله العليا في هذا التشريع، ووضع رسالة
سماها: (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) ، وفيها تحقيق لكل
هذه المسائل.
وكذلك عني بدفع الشبه التي تعرض بسبب تعارض بين نظريات العلم والدين،
وكبرى حسناته كتاب الوحي المحمدي، الذي ألفه لمناسبة شبهة لبعض الغربيين
على الوحي، وهو خير مؤلَّف يدعى به إلى الإسلام، ويدحض شبهات الماديين
المعطلين، قرظه علماء مستقلون، وغُرّتها تقريظ أستاذنا الأكبر المصلح العظيم
الشيخ المراغي، يقول فيه:
صديقي الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا:
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصة من
ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون، ولكم مني تحية الإخاء،
والسلام عليكم ورحمة الله.
وكذلك عني الأستاذ بشرح المسائل التي أساء المسلمون فهمها، كمسألة
القضاء والقدر، وله فيها تحقيقات علمية نفيسة تتفق وحكمة الله في تكاليف الإنسان
وجزائه على الخير والشر، فما كتبه السيد في دفع الشبه التي منشؤها جهل أو
تجاهل بالإسلام، أصل عظيم في الإصلاح الديني، ودعامة لا يستغني عنها عالم
مصلح.
إحياؤه سنة العلماء
من أبرز صفات الفقيد إحياؤه سنة علماء الصدر الأول الذين كانوا يصدرون
في فتاواهم عن كتاب ناطق، أو سنة ماضية، أو قياس على أحد هذين الأصلين،
واهتدى بهديهم الأئمة الأربعة، فَعَبَّدُوا لمن بعدهم طريق الاستدلال، ولم يقنعوا
بذلك، فنهوا عن التقليد في دين الله، وبالغوا في ذلك، وإن شئت فقل: وأسرفوا.
نُقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين
أخذناه، وقيل له: إذا قلتَ قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي لكتاب الله،
قيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال:
اتركوا قولي لقول الصحابة. ونقل مثل هذا أو ما هو أشد منه عن بقية الأئمة.
نهى الأئمة عن التقليد؛ لأنهم أدرى الناس بمقدار ضرره على الدين، وأنه
شلل يحول دون النشاط العلمي، وهو إلى ذلك كله امتهان لقيمة الحجة، وتعطيل
لموهبة العقل، ويرحم الله من قال: (التقليد إبطال لفائدة العقل) .
كانت هذه سنة العلماء؛ لأن الذي في كتب الأصول: (إن المقلد ليس معدودًا
من أهل العلم) .
ثم خلف من بعد الأئمة خلف أغلقوا باب الاستقلال في فهم الدين، وقصروه
على طائفة يحصيها العد، وكأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يصحان عندهم
شريعة دائمة! !
ولما كان أستاذنا الراحل من أئمة الإصلاح الديني، لم يكن له بد من تحطيم
السلاسل التي وضعت أمام ذلك الباب، وقد وضع كتابًا نافعًا سماه (الوحدة
الإسلامية) على شكل محاورة بين مصلح ومقلد، وله في أوله كلمة جديرة أن
تحفظ: (لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع التقليد) .
لم يقف الأستاذ في إحياء هذه السنة عند ذلك الحد، بل كان دائمًا ينوه بشأن العلماء
الذين لهم محنة وبلاء في ذلك السبيل كشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي قال فيه أحد
الأئمة: (ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله
وسنة رسوله ولا أنفع لهما منه) وشى به العلماء لدى الملوك وولاة الأمور،
ورموه بالإلحاد، فسجن أكثر من مرة، ومات سجينًا بدمشق.
وكتلميذه ابن قيم الجوزية، كان على أخص أوصاف شيخه، امتحن في سبيل
دعوته، وأوذي مرات، وحُبس مع شيخه بقلعة دمشق بعيد المحنة.
فإذا كان للاستقلال السياسي شهداء يصرعون في ميادينه، فإن الاستقلال
الديني العلمي له شهداء وشهداء، وفي مقدمتهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
أما إحياؤه لذكرى موقظ الشرق (السيد جمال الدين) و (والأستاذ الإمام)
فحدث عنها ولا حرج؛ فقد أحيا سيرتهما قولاً وكتابة وعملاً، وكان أظهر شيء فيه
شغفه بتلك السيرة حتى لا تكاد تجلس إليه مجلسًا بدون أن تسمع ذكرى للإماميين أو
أحدهما، فإن المصلح هو الذي يعنى بسيرة المصلحين فهو يعتبر بحق محيي سيرة
المصلحين، ورافع لواء المجددين على أساس كتاب الله تعالى وسنة خاتم النبيين.
دراساته العميقة
لقد عكف أستاذنا الراحل على دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة،
دراسة واسعة النطاق، فكان بذلك متمكنًا من علوم القرآن الكريم: كمعرفة المكي
والمدني منه، وتاريخ المصاحف، وأوجه القراءات، وما صح من أسباب النزول،
وما لم يصح، وما دخل على المفسرين من إسرائيليات على تفاوت بينهم في القلة
والكثرة، حتى شيخهم ابن جرير فكان من أجل ذلك تفسير أستاذنا الراحل نسيجًا
وحده في سلامته من الروايات الضعيفة في أسباب النزول، ومن الإسرائيليات التي
شوهت جمال القرآن، كما عكف على دراسة علوم الحديث، ولا سيما علم تاريخ
الرجال الذي عز في هذا العصر، فكان من السهل عليه الوقوف على درجة الحديث
في سرعة مدهشة، وما أحوجنا إلى إمام له تلك الخبرة الواسعة كفقيدنا الراحل.

أمراض المسلمين
وكذلك كان من أهم أغراضه بحثه عن أمراض المسلمين الخُلقية والاجتماعية
وفساد تربيتهم الدينية والدنيوية، فكنت تراه باحثًا منقبًا عن كل أولئك الأمراض،
وطرق الوقاية منها، وهذا كتابه (الوحدة الإسلامية) يطلعك على كثير منها، وإن
أخذ الدين من طريقه الصحيح، خير علاج لها، وقد أعانه على ذلك خبرته
الواسعة، ورحلاته المتكررة، فمن رحلة إلى الهند، إلى رحلة للأستانة إلى رحلة
لأوروبا، وذلك عدا رحلاته الثلاث إلى سورية التي اختير في آخرتها رئيسًا لأول
مؤتمر عربي، وهو الذي نودي فيه بالأمير فيصل ملكًا على سورية، ثم رحلته إلى
الحجاز مرتين، ولا شيء أعون للمصلح الديني من دراسته لأحوال المسلمين، دع
أن دار المنار كانت دائمًا غاصة بالزائرين من كبار العلماء، فكان ذلك كله خير
معين له على القيام بمهمته كمصلح ديني، فإذا دعا إلى الإصلاح، فإنما يدعو على
بصيرة، وإذا وصف العلاج، فإنما يصفه بعد أن عرف المرض.
إصلاح الأزهر
هو المعهد الديني الذي مضى على تأسيسه عشرة قرون، كان فيها مشرق
الثقافات الدينية والعربية، غير أنه قد طرأ على هذه الجامعة من أعراض
الشيخوخة ما جعلها غير وافية بحاجيات العصر من تسليح طلابها بما يكبح جماح
الملحدين، ويصد شبهات الماديين، والدعوة إلى الإسلام في المشرق والغرب،
وإعداد طائفة لهذه الدعوة مزودة بالعلم والدين.
ومن أجل ذلك كان في حاجة كبرى إلى إصلاح طرائق التعليم ومناهج
الدراسة.
وقد كان أول من أيقظ الأفكار لذلك الإصلاح السيد جمال الدين الأفغاني،
حينما وفد على مصر في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، واستفاد منه بعض
شبان الأزهر، وتولى السعي لذلك لإصلاح مريده الأكبر وخليفته (الأستاذ الإمام) ،
وغرضه الأسمى تخريج نشء جديد من جميع الشعوب الإسلامية، جامع بين
التقوى والأخلاق الفضلى، وبين العلم الاستقلالي المثمر لترقية اللغة وإحياء علوم
الدين، والتمكن من الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه.
ثم جاء الأستاذ المراغي وأمضى في الأزهر خمسة عشر شهرًا، شيخًا له
ورئيسًا لمجلسه الأعلى، فكان محط الرجاء ومعقد الآمال، ورجل الساعة، وقام
في ذلك الوقت القصير بعمل الجبابرة، ثم شاء الله أن يدع الأزهر قبيل أن يتم
الإصلاح الذي أراده، فاضطرب الحال، واختل أمر القائمين عليه من رجال
الإدارة، وروعت العلماء بما لم يروع به قطاع الطريق، وساعد على ذلك السياسة
الدكتاتورية، حتى أذن الله أن يعود للسفينة ربانها، وللإصلاح رجله، فعاد إلى
الأزهر أستاذنا (المراغي) موفور الكرامة، وضاء الجبين، ففتح لطلاب
الإصلاح باب الأمل على مصراعيه.
أما فقيدنا الراحل فقد كان خير نصير لكل أولئك المصلحين، كان نصيرًا
للسيد جمال الدين، ونصيرًا للأستاذ الإمام، ونصيرًا أيُّ نصير للأستاذ المراغي،
أبلى في سبيل هذه المناصرة بلاء حسنًا، وقام بأوفر نصيب في ذلك الجهاد.
اقرأ مجلة المنار منذ أنشئت. ثم أقرأ كتاب (المنار والأزهر) الذي ألفه
السيد في آخر حياته، وفيه أربعة وأربعون شاهدًا من دعوته الإصلاحية، إلى
عشرة مقاصد اتبع الأزهر أكثرها، ومقدمة في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله،
وجناية العهد الماضي عليه.
تلك نواح لفقيد الإسلام والمسلمين في الإصلاح الديني.
أسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين فيه خيرًا، وأن يوفقهم للسير على نهجه
وتقدير جهاده وبلائه، وأن يجزيه عن دينه كما يجزي المجاهدين الصابرين.