للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حبيب جاماتي


خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

على مقربة من مدينة طرابلس الشام قرية صغيرة تدعى القلمون، تشرف
عليها قمم لبنان الشامخة، وتكشفها صخوره البارزة، وتنشر عليها أشجار الزيتون
نفحات من عبيرها المنعش، ويخيل إليك أن القرية تزحف بيوتها وحدائقها، من
سفح الجبل إلى شاطئ البحر، لكي تغتسل في مياهه الزرقاء، سعيدة بأن تنعم بكل
ما يمكن أن تجود به الطبيعة على بلدة بالجبل والسفح والسهل والبحر.
وإذا مررت بتلك القرية الجميلة السعيدة، وكنت غريبًا عن الديار، فإن جميع
الذين يقابلونك في طريقك يمسكون بك ويلحون عليك بأن تحط الرحال، فتأخذ
نصيبك من الراحة إن كنت متعبًا، أو تأخذ مؤنتك منها إن كنت قادمًا على تعب،
ولا يسعك إلا أن تنزل على رغبتهم، حينذاك يسير بك القوم إلى بيت المشايخ،
إلى بيت آل رضا، إلى بيت الفقيد الذي نحيي ذكراه.
وكلمة (شيخ) ليست في لبنان لقبًا يطلق فقط على رجال الدين المسلمين،
بل هي لقب وراثي، يطلق أيضًا على من بايعهم الشعب بالرياسة والزعامة، فلا
فرق بين رجل الدين ورجل الدنيا، وبين المسلم والمسيحي، وبيت آل رضا من
البيوتات القليلة في لبنان، التي تحمل أبناؤها لقب المشيخة مزدوجًا، أي أنهم من
رجال العلم والإرشاد؛ ومن رجال الرياسة والزعامة.
وفي قرية القلمون، ولد محمد رشيد رضا، من أسرة تنتسب إلى الأسرة
النبوية الشريفة.
فلا غرابة في أن يكون الراحل قد اصطبغ بصبغة ذلك الوسط، وأن يكون
تلك الطبيعة التي ترعرع في أحضانها قد فرغت فيه الشيء الكثير مما أغدقته على
بلدته، فجاء شامخ الرأس كجبال القلمون، صلبًا في عقيدته كصخورها، فياضًا في
علمه كذلك البحر الزاخر الذي كان يجلس على شاطئه في ريعان شبابه، حتى إذا
ما جاء إلى مصر، أخذ من فضائها الواسع الصافي سعة الصدر وصفاءه فلعبت
السياسة دورها البشع، وأعاد التاريخ نفسه حقًّا فزحف على الدولة الفتية غزاة من
الغرب، وهرع الأحرار المجاهدون للقاء المعتدين.
وفي ٢٤ يولية سنة ١٩١٩ كانت موقعة ميسلون، التي كتب فيها العرب
بدمائهم الزكية صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي المجيد، ولسان حالهم
يقول:
عش كريما أو مت عزيزًا ... تحت ظل القنا وخفق البنود
وبعد أن دفن الاستقلال السوري في ميسلون إلى حين قفل السيد محمد
رشيد رضا راجعًا إلى مصر، حيث استأنف جهاده المزدوج في سبيل الدين وفي
سبيل الوطن، إلى أن توفي وهو في حوالي السبعين من عمره.
أيها السادة:
إن حياة الفقيد الذي اجتمعنا اليوم لإحياء ذكراه لسفر ضخم يصعب على مثلي
أن يختصره لكم في سطور. فكل مرحلة من مراحل تلك الحياة الحافلة بالأعمال
الجليلة، والجهاد المستمر جديرة بأن يقف المرء أمامها خاشعًا مفكرًا، وكل مرحلة
من تلك المراحل سيتناولها أحد الخطباء الأجلاء بالبحث والتحليل، والخطب التي
ستسمعونها هي الحلقات التي تتكون منها تلك السلسلة الناصعة المتماسكة التي
نسميها حياة الإمام السيد محمد رشيد رضا.
وإن أنسَ لا أنس ذلك اليوم من أيام أغسطس الماضي الذي سافرنا فيه معه
إلى السويس في معية صاحب السمو الأمير سعود، كان السيد محمد رشيد في ذلك
اليوم شديد الفرح، يكثر من الحركة والكلام والضحك، وكنا نتساءل قائلين: (ما
سبب ذلك يا ترى؟) وما كنا ندري أنه - رحمه الله - يودعنا ويودع العلم، فقد
توفي فجأة في الطريق، في ذلك اليوم، قبل أن يصل إلى القاهرة كما تعلمون.
والآن أيها السادة، إن ما قلته عن حياة السيد الإمام محمد رشيد رضا ليس
كل ما يجب أن يقال عن حياته، ولكنني أديت واجبًا عن نفسي وعن إخواني
المسيحيين، نحو الراحل الكريم، ويشرفني أن يكون صوتي قد ارتفع في هذا
المجمع الإسلامي الحافل، كما ترتفع الآن رنات الأجراس والنواقيس الشرقية
العربية في الأقطار الشرقية العربية، فتمتزج بأصوات المؤذنين، داعية إلى
التآخي، إلى التضامن، إلى التكاتف، إلى التعاون في سبيل القومية العربية،
في سبيل الأوطان الذبيحة!
ومن نيلها المبارك الوفي والوفاء بكل ما فيه من قدسية وروعة، فعاش طول
حياته وفيًّا لدينه، وفيًّا لأساتذته وتلاميذه، وفيًّا لأهله وعشيرته وأصدقائه، وفيًّا
لوطنه الأول والثاني.
تلقى - رحمه الله علومه - في مدارس طرابلس والشام، وكان أشهر أساتذته
الشيخ حسين الجسر، من كبار العلماء السوريين في ذلك العهد.
وفي سنة ١٨٩٧ نال شهادة العالمية، وقدم إلى مصر في تلك السنة، أي في
شهر رجب عام ١٣١٥ هجرية، تحدو به الرغبة الملحة في لقاء الإمام محمد عبده
رحمه الله.
وصلات السيد رشيد رضا بالإمام معروفة مشهورة، وقد ظلت وثيقة لم
تعتورها شائبة، إلى أن توفي الإمام في سنة ١٩٠٥م.
وكان المرحوم السيد رشيد رضا قد أنشأ (المنار) في شوال سنة ١٣١٥،
أي في مارس ١٨٩٨م.
ومنذ أن وطأت قدماه أرض مصر إلى أن توفاه الله فيها، ظل يجاهد ويناضل
في سبيل دينه، دون أن ينسى وطنه الأول: فقد عاد إلى سورية بعد الحرب
العظمى مباشرة، ونظرًا إلى مكانته السامية في النفوس، انتخبه السوريون رئيسًا
لمؤتمرهم الوطني، الذي اجتمع في دمشق سنة ١٩١٩، وقرروا إعلان استقلال
سوريا كدولة عربية، ونادى بالمغفور له فيصل بن الحسين ملكًا على السوريين،
وكان لآراء السيد محمد رشيد رضا ونصائحه وإرشاداته، فضل كبير في نجاح
تلك الحركة المباركة.
ولكن الأقدار لم تلبث أن قلبت لسورية المجاهدة الناهضة ظهر المجن.