للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحديث الموضوع
نشرت مجلة (الموسوعات) الغرَّاء مقالة تحت هذا العنوان لأحد الفضلاء
رأينا أن ننشرها في (المنار) إفادة للقراء وهي:
الحديث الموضوع هو: المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم زورًا وبهتانًا، وهو أشد خطرًا على الدين، وأنكى ضررًا بالمسلمين من
تعصب أهل المشرقين والمغربين؛ لأنه يصرف الملة الحنيفية عن صراطها
المستقيم، ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه، والولد أباه،
وتطيرالأمة شعاعًا، وتتفرق بِدَادًا بَدَادًا لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية،
وانشعاب الأهواء، وتباين الآراء، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضية وبابية
ونصيرية وزيدية وخوارج ووهابية وسنوسية ودرزية ونيشرية إلخ - لهو أثر
قبيح من آثار الوضع في الدين، ولقد قام الحُفَّاظ الثقات، وكادوا يزهقون هذا الروح
الخبيث بضبطهم الحديث حفظًا وكتابة وتلقينًا، ومازوا الخبيث من الطيب، وقشعوا
سحب اللبس فتلألأ نور اليقين أحقابًا طويلة حتى ابتلي الإسلام بموت الحفاظ الذين
آخرهم جلال الدين السيوطي رحمه الله، فأطفئ المصباح من مشكاة مصر وأغلب
الشعوب الإسلامية، وعدا الباطل على الحق عدوانًا شديدًا، ولولا كتاب الله فينا
وبقية من أهل العلم صالحة، لقلت: إن الباطل خذل الحق خذلانًا لا يقوم بعده أبدًا.
ورب سائل يقول: أنى ساغ للمسلمين أن يضعوا في دينهم ما ليس منه،
فالجواب أن أسباب الوضع كثيرة منها غفلة المُحَدِّث، أو اختلاط عقله في آخر
حياته، أو التكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد استبانة الخطأ لسهو مثلاً، ومنهم
قوم وضعوا الأحاديث لا يقصدون إلا الترغيب والترهيب ابتغاء وجه الله فيما
يزعمون، وآخرون وضعوها انتصارًا لمذهبهم، ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم
فاختلقوا ما شاءوا للتقرب من السلاطين والأمراء، أو لاستمالة الأغنياء إلى الإعطاء،
ومن هذا الصنف القصاص الذين انتحلوا وظيفة الوعظ والتذكير في المساجد
والمجامع، وأخذوا يهدمون من أركان هذا الدين لفلس يقتنونه، أو حطام خبيث
يلتهمونه، ولقد شاهدت منهم في المسجد الحسيني رجلاً بيده رقاع صغيرة فيها دعاء
يقول: إنه دعاء موسى، وأن من قرأه أو حمله تسقط عنه الصلوات المفروضة،
والزحام حوله شبيه بزحام الحشر، حتى لا تكاد ترى إلا عمائم وطرابيش وبرانس
وخمرًا وأيديًا ممتدة بفلوس أو دراهم، وهو في بهرة حلقتهم كأنه أبوزيد السروجي
يوزع الرقاع، ويجمع المتاع، ويخلب الأسماع، حتى كاد يبيح للمتصدقين
والمتصدقات كل ما دخل تحت الحرمة وشمله اسم النهي، هذا وقد بلغني أن بعضهم
نبه السيد التقي الورع النقي شيخ الجامع والسادات إلى إزالة هذا المنكر من مسجد
سبط الرسول، فأجاب بأن هذا تجسس، والله يقول: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (الحجرات: ١٢) . ولا أدري - إن صح هذا عنه - من الذي أخطأ؟ أهو أم
عمر بن الخطاب الذي كان يطرد القصاصين أمثال هؤلاء من المساجد، مع أنهم لم
يكونوا بهذه المثابة من التغرير والتضليل.
(ولنرجع إلى الوُضاع) فمنهم زنادقة قصدوا إفساد الشريعة والتلاعب بالدين
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة:
٣٢) فعملوا على لبس الحق بالباطل، وخلط السم بالترياق وهيأت لهم الفرص
في الأزمان الغابرة مجالاً فسيحًا لهذا البهتان حتى شحنوا الأذهان وسودوا الدفاتر،
وأفعموا الكتب بمفتريات ما أنزل الله به من سلطان.
وقد سرى هذا الداء في كتب التفسير والسير والتاريخ، وتلقتها العامة عن
سلامة صدر، إما لشهرة المعزوّ إليه، أو لاستبعاد كذبه على الرسول صلى الله
عليه وسلم، فخبطوا وحادوا عن الجادة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فمن
تلك الكتب التي تحرم قراءتها إلا على العالم المقتدر على درء باطلها تفسير الكلبي،
وتفسير مقاتل بن سليمان، وكتاب محمد بن إسحاق في المغازي، وكتب الواقدي،
ومنها (فتوح الشام) ، وكتاب (فضل العلماء) للمحدث شرف البلخي ومسائل عبد الله
بن سلام في امتحانه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث نسطور الرومي
ووصايا علي المبدوءة بـ (يا) إلا (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ،
وقد وقع لطائفة من متأخري المفسرين والمحدثين كثير من هذا، لا يعرفه تحقيقًا إلا الواقف على الأحاديث الصحاح.
(وللحديث الموضوع علامات)
(١) منها المجازفات التي لا يقول مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم
مثل: من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان
لكل لسان سبعون ألف ألف لغة، إلى آخر المفترى.
(٢) ومنها تكذيب الحس له، كحديث الباذنجان شفاء من كل داء، وحديث
إن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، وحديث رد
الشمس إلى علي بن أبي طالب.
(٣) ومنها سماجة الكلام، وكونه مما يسخر منه كحديث لو كان الرز
رجلاً لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا شبّعه، وحديث قدس العدس على لسان سبعين
نبيًّا آخرهم عيسى عليه السلام.
(٤) ومنها مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة، فمن ذلك أحاديث
مَن اسمه محمد وأحمد وأن كل من يسمى بهذا الاسم لا تمس جسده النار، إذ
المعلوم من الدين أن النار لا يُجَار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجدة منها
بالإيمان والعمل الصالح المقبول.
(٥) ومنها قيام الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق
من أن طوله ٣٣٦٠ ذراعًا، وأنه كان يشوي الحوت في عين الشمس، وأنه
قال لنوح احملني على قصعتك، يريد السفينة، وأنه قلع صخرة عظيمة على
قدر عسكر وأراد أن يسحقهم بها، فقورها الله على عنقه إلخ. إذ هذا يدل على
أنه عاصر نوحًا وموسى وأنه ليس من ذرية نوح مع أن الله يقول: {وَجَعَلْنَا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} (الصافات: ٧٧) وفي هذا الهذيان مناقضات أخرى
تدرك بأقل مسكة، وكحديث إن (ق) جبل من زمرذة خضراء محيطة بالدنيا،
كإحاطة الحائط بالبستان، والسماء واضعة أكتافها عليه فزرقتها منه، وحديث
الأرض على صخرة، والصخر على قرن ثور ... إلخ
(٦) ومنها مخالفته لصريح القرآن، كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة
آلاف سنة، وأن الذاهب منها كذا، فإن ذلك يدل على علم الساعة مع أن تعالى
يقول: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّه} (الأعراف: ١٨٧) .
(٧) ومنها اقترانه بما يبطله، كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر؛
لأنها لم تكن نزلت إذ ذاك، وإنما نزلت بعد عام تبوك، ووضعها الرسول صلى
الله عليه وسلم على نصارى نجران واليمن.
(٨) ومنها مناقضته للفضيلة، كالأحاديث الدالة على الشره في الأكل،
كوصفهم أَكْلِه صلى الله عليه وسلم العنب بما لا مساغ لذكره، أو الدالة على
ترغيب في شهوة، كحديث النظر إلى الوجه الجميل عبادة.
(٩) ومنها مناقضته العقيدة كحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه،
ولا بد أن يكون هذا من وضع المشركين عُبَّاد الأوثان، ولقد رسخ هذا الحديث
المزور في أذهان أغلب أهل هذا الزمان رسوخًا متينًا، حتى كاد يكون معناه
ملكة فيهم، فهم يتسابقون إلى العمل بمعناه أكثر مما يتسابقون إلى الجماعة
والصف الأول، حتى لو أنك نهيتهم عن التمسك بعامود السيد في مسجد
الحسين، أو شجرة الحنفي، أو باب زويلة (بوابة المتولي) أو أخشاب ضريح،
لأجابوك جميعًا بهذا الحديث، كأن الشيطان ما ترك نسمة فيهم إلا ولقَّنَها
الضلال البعيد.
ومن الأحاديث التي لا أصل لها أحاديث الحمام، واتخاذ الدجاج، وذم الأولاد
والتواريخ المستقبلة، وفضائل السور، ومدح العزوبة، والنهي عن الطعام في
السوق، وفضائل الأزهار والحناء، وحديث إن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم،
وغير ذلك مما يطول بي إيراده، ولست أعجب من العامة وصنعهم هذا، ولكن
العجب العُجَاب من أهل العلم الذين يرون هذا المنكر رأي العين صباح مساء،
ويتأولون له، كأنما أعمال هؤلاء السوقة وحي سماوي متشابه يجب تأويله في رأي
العلماء المتأخرين، اللهم ألهمنا السداد، ووفقنا إلى سبيل الرشاد.
والداهية الدهياء أن الناس الآن أخذت تروي الأحاديث من غير إجازة ولا
تلقين، وحَوَّل العلماء وجهتهم إلى فروع الفقه وآلات التفسير والتوحيد، وانصرفوا
عن الحديث إلا ما كان منه قراءة على سبيل التبرك، فراجت سوق الأراجيف
المعزوّة للدين، واختلط الباطل بالحق فمهدوا بهذا للطاعنين على الدين سبلاً كانت
عذراء، وخططًا كانت وعثاء، فلا تكاد ترى حمَّارًا، أو حوذيًّا، أو خادمًا أو طاهيًا،
أو أكارًا أو قصارًا، أو كناسًا أو رشاشًا، إلا ويستشهد في كل شيء من أعماله
بالحديث، سواء صح معناه ولفظه، أو لم يصح، فإذا جلست في مرتاض أو نادٍ،
أو سوق أو حانوت، أو محفل عرس أو مأتم، سمعت من خلطهم وخبطهم في الدين
ما تخرج لأجله النفوس من العيون، وتمشي له القلوب في الصدور، وربما كان في
مجلسهم عالم فيسئل عن اختلافهم، فلا يجيب إلا بأظن كذا، ويمكن أن يكون كذا،
والورع يقول: لا أدري حتى أراجع الصحاح، وقد يكون الحديث مشهورًا بين كل
الطبقات وهو موضوع، فيظن أنه صحيح لشهرته، خصوصًا على ألسنة بعض
الأشياخ، فيفتي بأنه صحيح، وهنالك الطامة الكبرى.
هذا ومما يؤسف عليه أنك لو سألت عمن هو أقرب إلى درجة الحفاظ في
مصر لقالوا: رجلان أحدهما توفي قريبًا وهو المرحوم محمد بك المكاوي، والآخر
العلامة اللغوي الشهير الشيخ الشنقيطي رضي الله عنه، ولا تكاد تسمع باسم ثالث.
ولقد كنت عقدت النية على أن أجمع طائفة من الأحاديث الموضوعة التي
يستدل بها الناس الآن على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو نهي عن رذيلة، وأقترح
على حضرة الفاضل خادم الأمة والدين صاحب (المؤيد) أن يقف بضعة أسطر من
جريدته الغرَّاء على نشر حديث أو حديثين منها كل يوم ليُمَيِّز عامة المسلمين الخبيث
من الطيب، ويبتعد حملة القرآن وخطباء المنابر ووعاظ المساجد عن رواية
الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون، فلما علمت أن السيد
السند الجليل الشيخ محمود الشنقيطي هو ابن بجدتها ونسيج وحده في هذا الموضوع،
خلعت هذا من عنقي وجعلته في عنقه لتعينه لهذا الأمر الجلل، كما أجمع عليه
الثقات، فإن كان في علماء مصر وجهابذة العصر من يحب أن يسبق إلى خدمة
الدين ونصح المسلمين، وكان بهذا الشأن أحرى - فليتفضل، فإنما الغرض إحياء
السنة وإماتة البدعة ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا، وألتمس من
المتصدر لهذا الأمر أن يجمع أولاً الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة والخاصة
في احتجاجهم وأمرهم ونهيهم ومعاملاتهم، فإن ضررها عميم، وخطبها جسيم،
وذلك كحديث حب الوطن من الإيمان الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا
الحث على تفرق (الجامعة الإسلامية) التي تنشد ضالتها الآن، فإنه يقضي بتفضيل
مسلمي مصر مثلاً على من سواهم، وأن من في الشام يفضِّل إخوته هناك على
غيرهم، وهكذا، وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ولم يقيد الأخوة بمكان، ويقول: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) وأقل ما فيه تفويت فضيلة
الإيثار، ومن ذلك (شاوروهنَّ وخالفوهنَّ) إلى غير ذلك.
ومما هو جدير بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل على كثير من الخيال
الشعري والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة، كحديث لولاك ما خلقت الأفلاك،
وقولهم: إن الميم من اسمه الشريف تدل على كذا، والدال على كذا، إلخ تصرفات
الخيال، ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بضروب من الغزل لا تليق إلا
بمتخذات أخذان مما يجل مقام النبوة عنه، وتنفر طبيعة الجلال منه، وكروايتهم من
المعجزات ما ليس له أصل كحديث الضب، وأن الورد من عرقه إلخ ما ينسبونه
للمناوي، ولا أظنه إلا مصطنَعًا باسم الشيخ رحمه الله ورضي عنه.
والخلاصة أنه يجب تدارك هذا الأمر الخطير وفينا حياة علمية، فعلى العلماء
المسارعة، وعلى أصحاب الجرائد القبول، ولا أظن صاحب (المؤيد) إلا مرتاحًا
لهذا الاقتراح، وعلى الله تمام النجاح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (الناصح الأمين)
(المنار)
إن لنا كلامًا في المقالة وفي الموضوع نرجئه لأقرب فرصة تسنح.