للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر


كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر
في حفلة التأبين

ابتدأت النهضة في سورية دينية كما ابتدأت في معظم الأقطار الأخرى؛ لسبب
بديهي، وهو اعتقاد الناس أن بلاءهم من أنفسهم، فهم يخطئون ولكن دينهم الذي
يقدسونه لا يخطئ، وهم ينحطون ولكن العقائد التي توارثوها عن أئمتهم لا تنحط،
فلابد لهم - والحالة هذه - من أن يرجعوا إلى دينهم إذا أرادوا أن يعودوا سيرتهم
الأولى من الرقي والنجاح، ففيه الكنوز المخبوءة التي تحقق لهم رغباتهم.
وكانت الحلقة التي سارت أبعد شوط في هذا المضمار في سورية مؤلفة من
الأساتذة المرحومين: الشيخ طاهر الجزائري، والسيد سليم البخاري، والشيخ عبد
الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي والسيد علي مسلم وغيرهم، وكان من
حظي ومن حظ الأستاذ محمد كرد علي أن نلتحق بهذه الحلقة المباركة، فكان يُطلق
علينا للتشهير بنا أسماء مختلفة آخرها أننا (وهابية) وهي كلمة لم تعن في نظرنا
يومئذ إلا ما تعنيه اليوم في كثير من الأوساط في أنها طريقة الرجوع إلى السلف
والاعتماد على كتب المؤلفين أمثال ابن تيميه وابن القيم ومن حذا حذوهما من الأئمة.
معرفتي بالسيد رشيد سماعًا: وفي تلك الغضون طلعت علينا من القاهرة مجلة
(المنار) فعرفنا أن لنا في مصر إخوانًا ينطق بلسانهم الراحل الكريم، فكنا
ننتظر وصولها بلهفة وشوق؛ لنطلع منها على أخبار الأستاذ الإمام محمد عبده
وإخوانه السلفيين المجددين.
ومع كل المقاومات التي لاقيناها في الدولة العثمانية ولاقاها إخواننا في مصر
فلابد لنا من الاعتراف بأنها لم تكن شيئا مذكورًا بجانب ما لقيه رجال الإصلاح
الديني في أوروبا، ولعل من أسباب ذلك أننا ليس عندنا (إكيروس) منظم له
جيوشه وقواده ومصالحه الخاصة.
أما معرفتي بالسيد رشيد عيانًا: فهي عقب الدستور العثماني في سنة ١٩٠٨؛
فقد جاء سورية زائرًا بعد غيبة طويلة عنها، ودعي إلى إلقاء درس في
الجامع الأموي فتآمر عليه الحاقدون على التجديد الديني والحرية والدستور، وتألبوا
عليه بصورة كادت تنتهي بسفك الدماء، فما لفقوه واختلقوه عليه وزوروه أنهم
نسبوا إليه تحليل بعض المحرمات وتحريم بعض المحللات، ولولا تدخل كبار
الأحرار لكانت ثورة رجعية حمراء، وهذا درس بليغ يجب ألا ينساه من وضع
الإصلاح الديني الاجتماعي نصب عينيه مثلكم أيها السادة؛ لأنه يدل دلالة واضحة
كيف أن أعداء الإصلاح لا يتورعون عن الاختلاق والتزوير في سبيل مآربهم،
وكيف أنهم يتذرعون بالدين للوصول إلى شهواتهم، وعلى كل حال فليس من
الضرورة في شيء أن يكون أكثر الناس تشدقًا باسم الدين بأفواههم هم أقرب الناس
إلى الله بقلوبهم.
وعالج السيد رشيد رضا الشؤون السياسية في حياته، فكان في إبان الحكم
العثماني من أنصار اللامركزية، وقارع الاستعمار مقارعة يشهد له بها كل من
عرفه معرفة صادقة، وإن الخدمات الجلَّى التي قدمها في الموضوعات الدينية
متعددة وجوهرية؛ فمنها سعيه المتواصل لإظهار الصلة القائمة بين المعقول
والمنقول وأنهما حليفان لا يجوز أن يفترقا، ومنها نشر الأخبار الصحيحة عن
أخلاق السلف الصالح التي كانت سبب عزته ومناعته، ونقص هذه الأخلاق في
الخلف الحاضر، ومنها اهتمامه بالأخلاق الإيجابية - وهي الأمر بالمعروف - كما
كان يهتم بالأخلاق السلبية؛ وهي النهي عن المنكر. ومتى عرفنا أن هناك تفاعلاً
شديدًا بين العقائد الدينية والعقائد السياسية واتصالاً وثيقًا، أدركنا شأن الخدمات التي
أداها السيد رشيد في النهضة العربية الوطنية، وستبقى مجلة المنار التي أنشأها
بجده وغذاها بعقله وعقل أساتذته وإخوانه سجل النهضة الدينية الحديثة، وإذا كان
الموت درجات: موت يفرح له الناس وموت لا يتأثر به أحد من الناس، فموت
السيد رشيد رضا هو موت تهلع له قلوب الناس.