للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين الهراوي


الفصل الأول
أسباب ونتائج

يحدثنا التاريخ أن جزيرة العرب عامة ومكة خاصة، لم تكن قبل الإسلام
مستعمرة لأحد، ولم يفتحها فاتح قط [١] ، وكان العرب مدى تاريخهم أحرارًا،
وكذلك يحدثنا التاريخ أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم ثقافة، أو دور تعليم، ولم
تكن لهم مدينة ولا تاريخ مكتوب غير ما كانت تتناقله الألسن راوية عن راوية،
وتلك هي ثقافة الفطرة.
ولم يكن للعرب هيئة اجتماعية، أو نظام حكومي بالمعنى الذي نفهمه الآن،
وجل تفاخرهم كان بانتصار قبيلة على أخرى، أو بتحديها، فكانوا أشتاتا من القبائل
لا تجمعهم إلا ميادين الحروب، أو أسواق التجارة، أو مواسم الحج.
ومن البيِّن أنه لم تكن هناك أية فكرة أو ظن بينهم لجمع شتاتهم وتوحيد
مجتمعهم قبل الإسلام.
ومن وسط هذه القبائل المفككة أو من أسحق الأمكنة فيها سطعت أشعة الإسلام،
وفي مدى عشرين عامًا من حياة النبي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم،
تكونت أمة تشعر بوجودها الأدبي وتقوم برسالتها في الأمم المجاورة، فتكتسح
المعتقدات البالية، وتقضي على ملك الفرس والرومان وترثه.
وليس لهذه النهضة الكبرى والثورة الفكرية العظمى سوى مصدر واحد هو
القرآن، وأداة واحدة في تأدية الرسالة هي شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم، ومهما يكن من الظروف التي ظهر فيها الإسلام، وأحوال العالم في ذلك
الوقت، فإن ظهور الإسلام من أجدب وسط في العالم، ومن أوحش صحراء، ومن
أبعد الأمكنة التي يظن أن العالم ينقذ على يدها - هذا كله يعد معجزة لا شك فيها.
وإذا كانت النهضة العربية ومصدرها الإسلام وحده تعد آية، فإن اكتساحها
للعالم والمعتقدات وتكوين دولة ترث الرومان والفرس في مدي ثمانين عامًا يعد سرًّا
ليس من السهل أن يعود، ومن المستحيل أن تجد له مثلاً في التاريخ [٢] ، خصوصًا
إذا لاحظت أن هذه الثقافة الجديدة قد هضمت الدول كلها وطبعتها بطابع خاص هو
الطابع الإسلامي.
بل المثير للدهشة والعجب أن تظل هذه الثقافة إلى الآن راسخة ثابتة رغم
العواصف التي واجهتها، والحروب التي عملت على فنائها.
والتاريخ يحدثنا عن تنازع البقاء الدولي بين الشرق والغرب، ويصف لنا من
الحوادث مدّها وجزرها، وكيف بسط الشرق سلطانه وساد، ثم كيف قاومه الغرب
ورده واكتسحه أو كاد.
وعلى الرغم من كل هذه التقلبات، فالإسلام دينًا وقانونًا وثقافة اجتماعية
وأخلاقية، ثبت لكل هذه الموجات والعواصف والتقلبات ثبات الصخر على الشاطئ،
فذهبت كلها كذهاب الزبد على سطح الماء.
والواقع أن أعداء الإسلام لم تهدأ ثائرتهم، ولم يفت في عضدهم بقاء الإسلام
قويًّا مكينًا على الرغم من الحروب والدسائس في البلاد الإسلامية التي أثاروها، بل
كان ذلك مما زاد المسلمين يقينًا وثباتًا واستمساكًا بدينهم ومحافظة على يقينهم؛ لأن
الإسلام يحفظ القومية، ويشعر الناس بواجبهم نحو أنفسهم، ويجمعهم في دائرة
واحدة من العاطفة، ويوجههم كلهم إلى قبلة واحدة، هذه القبلة التي تفني إزاءها
القوميات والشعبيات ويتساوى فيها الناس أجمعون من جميع الأجناس والأوساط.
أضف إلى ذلك أن الإٍسلام هو أول مطلع للتفكير الحر، والتحلل من قيود التقاليد،
وهو الذي يحث على الأسفار وجوب القفار والمشي في مناكب الأرض ابتغاء
الرزق. وهو في تعاليمه ينافي الاستعمار، وينافي الخضوع لكائن مَن كان إلا
للواحد الديان.
وفضلاً عن ذلك فإن الإسلام عطف على الأديان الأخرى، وطبع الشعوب
التي انتشر فيها بطابع آخر هو الطابع العربي. فترى معتنقي الأديان السابقة له
والذين يعيشون في البلاد الإسلامية تجمعهم بالمسلمين رابطة الطابع واللغة،
ويعطفون على الإسلام بداعي العروبة، والعروبة هي الطابع الثاني للإسلام لغير
أهله - بما سنه من المعاملة الحسنة ومصاهرة أهل الأديان الأخرى وتقوية روابط
الأسر، ونشر روح الوئام بين الجماعات؛ ولذلك اختلطت الأنساب وتنوسيت،
ولكن الشائع في البلاد الإسلامية هو الأصل العربي، سواء كان الشخص مسلمًا أو
غير مسلم. فأصبح المؤرخون في حيرة من تسمية هذا الامتزاج وتلك الثقافة،
فطورًا يسمونها الإسلامية وطورًا يسمونها العربية.
تلك حقيقة، وذلك واقع، ولم يخف عن الغرب، وليس في حاجة إلى دليل
وليس من المستطاع انتزاع تلك العواطف من أفئدة الناس، وليس من الممكن
استئصالها بحملة عسكرية، أو إنشاء محكمة تفتيش أندلسية جديدة لمحاربة آراء
الناس ولغاتهم وضمائرهم وعلاقاتهم.
فالمسألة كلها فكرية وعلمية، ومحاربتها يجب أن تكون على أسلوب نشأتها،
ثقافة وغزوة فكر.
من أجل هذا نشأ الاستشراق في بلاد الغرب، وأخذ جماعة من الغربيين
يعكفون على لغات الشرق وتاريخه ودينه دراسة واستذكارًا وحفظًا وتحقيقًا وتغلغلاً
في البحث.
هذا هو منبع المستشرقين، وهذا هو مصدرهم، وتلك هي الغاية التي يعملون
لها.
والباحث في هذه الموضوعات لا يعدم موضوعًا جديدًا علميًّا، ولا يعدم كتابًا
قيمًا مدونًا، يعيد نشره، ويحيي ذكره؛ ليصبغ نفسه بصبغة العالم البريء، ومنها
اصطبغ اسم المستشرقين بصبغة علمية.
غير أن النواحي الأخرى التي عكفوا عليها وهي غزوة الفكر الشرقي في
قوميته ولغته ودينه كانت واضحة جلية في أعمالهم؛ لأنها الهدف الأول والغاية
القصوى.
والمستشرقون هم من أساتذة اللغات الشرقية في الجامعات، وطلبتهم من أبناء
وطنهم، وهؤلاء الطلبة يعدون أنفسهم للعمل في المستعمرات في الشرق، وكان
لابد من المحافظة على قومية هؤلاء الطلبة. ولابد للعناية بتربيتهم أن لا يكونوا أداة
عطف على الشرق أو مصدرًا لإذاعة محاسن الإسلام، ولإدراك ذلك لابد من
تصوير الشرق بصورة بشعة قبيحة في أخلاقه وعاداته وآرائه، ولابد من تصوير
الإسلام في صورة منفِّرة، وأن يكون هؤلاء الطلبة حربًا على الشرق والإسلام.
كما لابد من أن يقوم هؤلاء المستشرقون بدورهم في تغذية جمهور أممهم بمثل تلك
التعاليم بنشر مؤلفات يصفون الشرق فيها بصورة مشوهة. ويصمون الإسلام بكل
المخازى التي هو منها براء.
ولذلك أصبحت الهوة بعيدة بين عواطف الغربيين والشرقيين، وأصبح التفاهم
أبعد منالاً مما يجب.
وقد تأثر الشرق نفسه بتلك الدعاية، وكأنه من هذا التجريح والتشنيع شعر
بضعفه أمام الغرب، وألقى فريق من ضعفاء النفس سلاحهم، فاعتقد الشرقيون
أنفسهم أن عاداتهم وأخلاقهم وقوميتهم وشعوبهم في مستوى أدبي وعقلي أقل من
المستوى الأوربي، وأصبح الشرقيون لا يثفون بأنفسهم في التفكير ولا في العمل
الحر ولا في إدارة الأعمال، وأصبحت تراهم إذا قرؤا في الجرائد أي جريمة عادية
أو خبرًا صغيرًا ثاروا وقالوا إن ذلك مستحيل حدوثه في الغرب؛ ولذلك أخذوا
يقلدون الغربيين في كل شيء؛ في المعنويات وفي الماديات.
أما في المعنويات فقد شاهدنا اختلاط الألسن في الأسر والبيوت، ونبذ اللغة
القومية في الطبقات المتفرنجة، وكذلك في الزي النسائي، واستحالت الأخلاق،
وضاعت تلك المودة القويمة وصلة القربى، وأصبح الشخص ينظر إلى أسرته
المصرية الصميمة من أعلى إلى أسفل، يحاول خدع نفسه بأنه غربي، وأنهم
شرقيون، ورأينا تيارًا جارفًا من الأدب الغربي يكتسح التفكير الشرقي والقومية
الشرقية، انتشرت القصة المعربة، وهي قصص لا تخرج عن معاني الحب الساقط،
وألفاظ الخنا، وخيانة الزوجة، وتهوس الشباب، وسقوط المرأة التي يقابل
الزوج زلتها بالعفو والصفح والغفران.
كان هذا من أثر الدعاية أن العربية ينقصها أدب القصة، فملأ المعربون هذا
الفراغ بقصص لا تلتئم والشرق الشرقي، ولا الغيرة الإسلامية، ولا الآداب القومية،
ثم هجم جماعة المبشرين على معاقل الإسلام، مزودين بالمال والعلم والرجال،
فأصبحنا نرى المخازي والإغراء والقبائح ترتكب باسم الأديان، وأصبحت الأسرة
الإسلامية يقتنص بعض أفرادها بالمال، أو بالإغراء، أو الاستهواء، أو التنويم
المغناطيسي باسم الدين. وترى ذلك متجليًا في دور التعليم الأجنبية، وفي
المستشفيات الأجنبية التي تحمل على بابها بالخط العريض أنها بيئة ووكر للمبشرين
في ثوب علمي شفاف. طرق لا يقرها عقل أو ذمة أو ضمير أو وجدان.
أضف إلى ذلك أن كل بلد شرقي استعمر كان لابد له من طلائع تجوس الديار،
وتستكشف الآثار، وتكتب التقارير.
وكان لابد لهذا الجاسوس أن يلبس ثوب العالم بلغة البلاد، وأن يصطنع
البحث العلمي.
وفي حالة دخول الجيش الفاتح لابد لقيام صلة بين الأهالى والجيش المهاجم،
والتاريخ يحدثنا أن هؤلاء كلهم من المستشرقين.
أما في حالة السلم فلابد من وضع سياسة لمعاجلة هدم الإسلام وتفريق كلمة
أهله، وإعداد النفوس لقبول التغييرات التي تدخلهم تحت النير.
هذه مسائل علمية محضة، ويقوم بها المستشرقون.
فلتغيير الدين يجب أن يقال إن الإسلام دين مخترع ملفق، ولهذا الرأي شيعة
من المستشرقين، وللسخرية من الإسلام يجب مهاجمة شخصية النبي الكريم ولهذا
أيضا شيعة من المستشرقين، ولتفكيك روابط العرب يجب أن يفهم الناس أن
العربية الفصحي لا تصلح لشيء، وأنها لغة قديمة، وأن اللغات الدارجة أنفع منها.
ولتفكيك روابط القومية والهيئة الاجتماعية الشرقية يجب أن يعتزي كل شعب
إلى أصله؛ لأن العرب لم يكن لهم فضل في ثقافة أو تاريخ.
ولإضعاف الروح القومية وقتل الاعتماد على النفس يجب أن يفهم الشرقي أنه
غير مؤتمن الجانب، وأن الاختلاس غريزة فيه، وأن الشرف بعيد عنه، وأن
بلاده وتربيته لا تصلح إلا للزراعة، وأن عقله غير مكون تكوينًا تجاريًّا، وهذا كله
ليحتكروا التجارة والصناعة ويتركوا للبلاد المستعمرة العمل الزراعي الشاق الذي لا
يدر إلا الخير القليل.
* * *
كل موضوع من الموضوعات التي ذكرناها تخصص لها فريق من
المستشرقين، وقد أصبحنا نعرف وجهة تخصص كل واحد منهم، ويمكننا أن نعد
أسماء المخصصين لكل موضوع من هذه الموضوعات كما سيمر بك في هذا الكتاب،
وكل هذه الموضوعات ذات مرمى سيئ، وليست من الحقائق العلمية في شيء؛
ولذلك فإن هؤلاء الناس قد ألبسوا موضوعاتهم الثياب العلمية، غير أنه لم يتعرض
لهم أحد بنقدها وإظهار ما فيها من غش وخداع وتلبيس، حتى إن كثيرًا من القراء
قد خدعوا بها ودخلت الحيلة عليهم.
ولذلك يجب تحرير الفكر الشرقي من تلك الغزوة التي طال أمدها وسئمنا
تكرارها، ويجب أن نبرهن لهؤلاء الناس أنهم خادعون، وأن الأخلاق الغربية لم
تبلغ إلى الآن المستوى الشرقي، وأن الزخرف البراق من المعاملة والطلاء
الخارجي للمعاملات العادية لا يغير الواقع، فالبلاد الغربية كالبلاد الشرقية فيها أحط
الأخلاق وأشنع الجرائم من كل نوع.
وليس الفكر الشرقي بأقل في مستواه من الغربي، وإنما في استقلال المواهب
نتيجة التربية الاستقلالية التي امتاز بها الغرب، ونتيجة لازمة للحرية الشخصية
والمساعدة الحكومية التي حرمتها الشعوب الشرقية، إلا أن أول دعامة في تحرير
الفكر الشرقي أن يعرف أسرار استعباده فيقف دونها حائلاً، ويطلع على الصواب
فيستزيد من مناهله، ولا يقبل التغرير، وأن يواجه هؤلاء المستشرقين بحقيقتهم
ويعلم أن بضاعتهم مغشوشة ولأغراض غير بريئة، وهي بضاعة زائفة صنعت في
معامل التغرير؛ ولذلك عمدنا إلى الرد على بعض المستشرقين في هذا الكتاب،
وجعلنا الرد في أسلوب علمي ليعرف القارئ الحقيقة.
والذي دعانا إلى وضع هذا الكتاب هو تلك الحادثة المشهورة التي اضطرب
لها عقلاء المصريين، فإنه لما صدر المرسوم الملكي بتأليف المجمع اللغوي الملكي
بالقاهرة، ووجدنا اسم فنسك من ضمن أعضائه نشرنا شيئًا من مباحثه، ورددنا
عليه، وانبنى على ذلك خروجه أو إخراجه من المجمع اللغوي وحلول غيره مكانه،
وبذلك انفضح جانب عظيم من أعمال المستشرقين وحقيقتهم مما سيتجلى عند
قراءة هذا الموضوع في الصفحات المقبلة.
أضف إلى ذلك أن هذا المبحث الذي خرج من أجله فنسنك كان بعض الناس
سرقه ونسبه لنفسه في كتاب ادعى أنه بحث في الشعر الجاهلي، وبذلك اتضحت
آفة أخرى من آفات المستشرقين هي أن بعض الناس من المسلمين يجارونهم في
تفكيرهم ويقتبسون آراءهم بغير نسبتها إليهم؛ ليقال إنهم من العباقرة.
وفوق ذلك فقد عثرنا على بعض سفسطة المستشرقين من أن محمدًا كان على
علم بالأديان السابقة، وأنه اتصل في سياحته للشام بأهل العلم مما دعاه إلى وضع
قرآنه، وتلك الفرية قد اتخذت سبيلها في التفكير الشرقي ورددنا على ذلك في حينه
كما سنزيده شرحًا في الفصول القادمة.
والخلاصة: أننا نريد تنبيه الناس إلى طلائع الاستعمار، ومصدر تغذية
المبشرين، وأدوات إذلال الشعوب الشرقية وتفريقها، وتشتيتها، ونثبت أن هذا كله
من المستشرقين.
ولا ندعي أننا ندافع عن الإسلام بهذا الكتيب فنحن أهون أن تكون لنا هذه
المنزلة الرفيعة؛ ولكننا نريد أن نهتك سترهم، ونظهر حقيقتهم دفاعًا عن قوميتنا،
وعقولنا، وقديمًا قال عبد المطلب: (أما الجمال فسأدافع عنها، وأما البيت فله رب
يحميه) .
((يتبع بمقال تالٍ))