للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين الهراوي


الفصل الثاني
محمد قبل البعث

من البيّن أن مجيء القرآن وأثره في النهضة الفكرية العالمية - كما رأيت -
مسألة مدهشة حقًّا.
وقيام شخص واحد هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة الناجحة
التي اكتسحت العالم مسألة موجبة للحيرة ومعجزة بلا مراء.
والمستشرقون يقفون أمام هذه الحقائق ذاهلين، ويحاولون الدخول إلى هذا
الصرح العالي من باب التشكيك والتضليل، أو باب الاستنباط والقياس.
والتاريخ يعلمنا ويعلمهم أن حياة العظماء لها طريق في البحث والدرس ولها
طريق مألوف وهو الابتداء بدراسة الوسط الذي نبغ فيه الرجل العظيم والظروف
المحيطة به، ثم دراسة طريقة انتزاعه للسلطة أو قيامه على قيادة الأمة.
ثم يأتي بعد ذلك دور تكوين الشخصية وأثر الثقافة المحلية والعالمية في نفسه،
وأثر هذه الثقافة في أعماله.
وقد أرادوا أن يطبقوا كل هذه النظريات والمباحث على حياة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم، كما يدرسون مثلاً حياة نابليون والإسكندر وغيرهما.
وأول ما صادفهم من الخيبة والفشل أن الوسط الذي عاش فيه سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم كان وسطًا فطريًّا ساذجًا؛ ولكن هناك في محيط ذلك الوسط
وجد بعض النصارى واليهود.
ووجدت ظروف بسيطة في حياته صلى الله عليه وسلم من سفره مرتين إلى
الشام يمكن أن يبنوا عليهما القصور العالية من الأوهام.
ولا بأس من أن يجعلوا من هاتين المسألتين - وجود نصارى ويهود في
الحجاز وسفره إلى الشام مرتين ثانيًا - موضوعًا للتشكيك والتضليل.
ولذلك نقتبس لك أسهل طريقة وأبسط تضليل من كتاب درمنجهام الذي نشر في
السياسة الأسبوعية ورددنا عليه؛ لأنه كان أول مثار للبحث [١] :
والواقع أن محمدًا منذ الساعة الأولى بل قبل أن ينزل عليه جبريل بالوحي
كان أشد ما يكون نفورًا من الوثنية التي نشأ ونشأ أهله من قريش فيها، وأشد ميلاً
لهذه المعاني الروحية التي يتحدث عنها النصارى واليهود من أهل الكتاب في أنحاء
شبه جزيرة العرب ممن كان يتصل بهم في أثناء ذهابه إلى الشام وإلى اليمن في
القوافل قبل أن يقوم بتجارة خديجة وبعد أن قام بها.
وهذه المعاني الروحية في اتصالها بنفس محمد صلى الله عليه وسلم المتوثبة
منذ صباها للكمال هي التي دفعته إلى تحنثه بغار حراء شهرًا أو أكثر من شهر.
إن الله - تعالى - رضي للناس الإسلام دينًا مع بقاء الأديان السابقة للقرآن
وحده مندمجة في هذا الكمال الروحي - أي الإسلام - اندماجًا أشار إليه القرآن في
قصص أصحاب هذه الأديان وما جاءوا به من الحق من عند ربهم، وأشار إليه
حين أراد أن يثبت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمر ما جاءه كما جاء في سورة
يونس: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ
لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (يونس: ٩٤) .
وفي هاتين الفقرتين ملخص لآراء المستشرقين الذين يظنون أنفسهم أهلاً
للبحث والاستنتاج دون أن نرميهم بشيء من سوء النية. ولعل ذلك أهدأ أنواع
ضلال المستشرقين.
ولما تسربت هاتان الفقرتان في الصحافة المصرية وعلى أيدي باحثين مسلمين
رأينا توضيح هذه الطريقة وإظهار ما فيها من خطأ في تطبيق ما يقال عن عظماء
الغرب على حياة نبي عربي عاش في بيئته خاصة وفي محيط لا زال يتمسك بعادته
وأخلاقه إلى اليوم.
ولسنا نتهم هذا الرأي بأقل من أنه استنباط غير موفق ورأي خاطئ نتيجة
الجهل والخطأ في الحكم.
فأنت ترى من هاتين الفقرتين أن سيدنا محمدًا تعمّق في درس الأديان وتلقي
مبادئها على الرهبان في سياحاته، وأن ذلك العلم هو الذي دفعه إلى التحنث.
أما أنه خالط الرهبان وتشبع بمبادئ الأديان السابقة فذلك ظن ليس له من مؤيد،
ولو أنه كان كذلك لكان في كل عمل من أعماله دليل على ذلك، وقد أحصى
القرآن الكريم كل ما وجهه أعداء الإسلام وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم له من
التهم، ومنها الكذب والسحر والشعر وكل ما شئت من صنوف السب والشتم والتهكم
والضرب بالحجارة والتحدي للقتال، كل هذا قيل ولكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن
يقول له إنك تعلمت هذا العلم على فلان، ولو كانت هذه الجملة قيلت لكنا على
الأقل وجدنا عليها ردًّا في القرآن.
ولو أن نفس محمد - عليه السلام - اعتنقت دينًا أو مالت لأي دين قبل
الإسلام لوجدنا لذلك أثرًا واضحًا في الحديث، وقد سأله الناس كل أنواع الأسئلة بلا
خجل، وكان يرد عليهم بالصدق والأمانة التي اشتهر بها، ولم يرد ما يؤيد هذا
الزعم؛ ولذلك استنبطنا - وكنا محقين في هذا الاستنباط - أنه عليه السلام كان
خالي الذهن من جميع الأديان، وأنه اشتق طريقًا في العبادة لنفسه كما سنبين ذلك
في التحليل النفسي لحياته.
أما الرحل والأسفار في التجارة أو مع عمه فقد كانت رحلته [٢] الأولى مع
عمه إلى الشام وهو ابن تسع سنين، ولم يكن هناك مجال ما لتلقي هذه العلوم فليس
ثمة جامعات وليس للرهبان حلقات درس، كما أنه لم يكن يومذاك جماعة من
المبشرين الذين نراهم اليوم يغررون بالناس، وكل ما حصل من الراهب بحيرا أن
تنبأ لهذا الغلام بمستقبل ديني، وتوسم فيه استعدادًا خالصًا لهذه الرسالة الكبرى.
والرحلة الثانية كانت وهو ابن خمس وعشرين من مكة إلى بصرى ومدة هذه
الرحلة كانت ثلاثة أشهر.
إذن فلنمش في هذا الطريق نفسه، ولنر ولنستنبط ما يمكن استنباطه،
ولنتعرف عادات العرب وأخلاقهم.
فأول ظاهرة خفيت عن المستشرقين من عادات العرب أن صغارهم لا
يجالسون كبارهم، ولا يمكن شاب حديث السن أن يجلس في مجلس الكبار ولا
يناقشهم، ولا يباح له أن يتحدث في مجالسهم.
ولم يخبرنا التاريخ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شذَّ عن هذه القاعدة، وهذا
دليل على أن كبار الرهبان وغيرهم لم يكن لهم من وسيلة لقلب عقيدة هذا الفتى كما
يفعل المبشرون من أذناب المستشرقين في هذه الأيام.
وأما الرحلة نفسها فيجب أن نلم بعمل التاجر الذي تكون مهمته من نوع عمل
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والعادة الجارية في بلاد العرب إلى يومنا هذا
هي أن يقوم التاجر ببضاعته حتى يصل إلى المدينة التي سيبيعها فيها.
ثم يذهب إلى منزل وسيط التجارة فيمكث في منزله بضعة أيام حتى يصرفها
الوسيط ويعطيه الثمن، ثم يعود قافلاً.
فعمل التاجر في هذا السبيل ينحصر في المحافظة على التجارة في أثناء
الطريق، ومساومة الوسيط، وحمل الثمن إلى أصحاب البضائع.
والمسافة بين مكة وبصرى تقطع على ظهور الإبل في نحو أربعين يومًا ذهابًا
ومثلها إيابًا، ومدة إقامة التاجر في بيت الوسيط هي المدة التي تبقى من ثلاثة
الأشهر التي قضاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة.
فالوقت كله يقطع في الطريق وكانت رحلة واحدة، فأي عقل إنساني أو غير
إنساني يمكنه أن يستنبط أن سيدنا محمدًا يمكنه أن يتعلم كل ما أتى به، أو كل
العلوم التي وردت عنه في وقت كهذا؟
وأي سخف أدعى للسخرية من مثل هذا الاستنباط الملفق القائل أن سيدنا
محمدًا في أسفاره تعلم من الأحبار.
أضف إلى ذلك ما استنبطه فريدرك شولنهنس عندما جمع ديوان أمية بن أبي
الصلت وطبعه سنة ١٩١١ [٣] ، وأظهر في مقدمة هذا الديوان مقدار ما بذله من
الجهد في جمعه من كتب السير ومن شوارد أخبار الكتب، ورأى أن أمية هذا كان
قد ترهّب ولبس المسوح ونظم قصصًا مصدرها التوراة والإنجيل، وكان يطمع في
النبوة إذا أشيع وعرف أنه سيبعث نبي في زمنه.
وبعد ذلك بعث محمد - عليه السلام - وأخفقت آمال أمية، فناوأ الإسلام
وجاهر بعداوة نبيّه.
ليس في الأمر غرابة فليس أمية بأول رجل في مكة أو بلاد العرب عرف
شيئًا عن التوارة والإنجيل، وليس هو أول من عادى الإسلام والتوراة والإنجيل
والقرآن بين أيدينا شاهد بذلك، وفي هذه الكتب توافق في بعض النواحي التاريخية
واختلاف في نواحٍ أخرى؛ فليس من المستغرب أن يعرف شاعر عربي شيئًا عن
التوراة والإنجيل وينظمه شعرًا؛ ولكن المستغرب حقًّا أن يقول شولنهنس هذا إن
محمداً عليه السلام استقى تلك المعلومات من المصدر نفسه الذي استقى منه أمية.
وليس أدل على الجهالة والتضليل في هذا القول، وعلى التعصب الأعمى
وقلة الخبرة من أن القرآن ليس بقصصه؛ ولكن بأحكامه وبقانونه وبإعجازه،
وبأثره الاجتماعي والفكري؛ فهل اجتمع كل هذا في أحد؟ كلا، ولكن مستشرقًا
يظن نفسه في منزلة علمية يطلق لنفسه العنان ويصدر الأحكام، فيتلقفها طاعن من
طاعن، ومبشر عن مستشرق للتشكيك في مصادر القرآن.
ولو طاوعنا هؤلاء فيما زعموا، وبحثنا عن كل حكم من أحكام القرآن
ومصدره ورأينا حكمًا منها من السند والآخر من الهند والآخر من فارس ومن مصر
ومن أثينا وروما للزم لهذا النبي الكريم آلاف الأسفار والاشتغال بالجامعات عدة
قرون قبل أن يأتي بكتاب لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
مثل هذا التفكير المزري يقول به المستشرقون وتهضم عقولهم أن محمدًا أتى
بما أعجز الإنس والجن في سفره إلى الشام ثلاثة أشهر، منها ثمانون يومًا ذهابًا
وإيابًا وعشرة إقامة.
ولكنها طريقة من طرق التشكيك وضرب من الهوى لا نشك أن القارئ عرف
مغزاه.
((يتبع بمقال تالٍ))