للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين الهراوي


الفصل الثالث
التحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

نحن ننكر إنكارًا تامًّا أي أثر للأديان السابقة للإسلام في نفس سيدنا محمد،
وسواء سمع بها ورآها أو خالط أهلها وتعرف بهم، فإن ذلك لم يترك في نفسه
الشريفة أي أثر، ولم يعلق بذهنه من مبادئها وتعاليمها ما يجعله يفكر فيها، أو
يفضل أحدها، أو يقلدها.
وليس أدل على ذلك من أنه لم يرد في القرآن الكريم الذي أحصى كل التهم
التي وجهها أعداء الإسلام لنبيه الكريم ما يؤيد هذا الزعم [١] .
ومسألة التحنث في الغار، والطواف بالكعبة، وتوزيع الصدقات هي نوع
التعبد الذي كان يتخذه عليه السلام قبل بعثه.
فإذا قلنا: إن التحنث في الغار له ما يشبهه في الأديان الأخرى، فالطواف
بالكعبة لا علاقة له بأي الدينين النصراني أو اليهودي الذي يتعمل جماعة
المستشرفين الأسباب ويخترعون الوسائل للقول باقتباس الدين منهما.
ولقد طبقنا حياته الشريفة على علم النفس الحديث لنتعرف أي سبب دعاه إلى
هذا النوع من العبادة إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي الأكبر في توجيهه إلى هذه
الوجهة.
ولكي يمكن فهم هذا الموضوع سنقدم للقارئ مقدمة وجيزة في علم النفس
والتحليل النفسي لكي يتفهم معنا تطبيق حياته على علمي النفس والوراثة.
لقد قسم فرويد العقل ثلاث مناطق:
١ - العقل الظاهر أو الواعي أو منطقة الوعي.
٢ - الذاكرة.
٣ - العقل الباطني أو غير الواعي أو منطقة اللاوعي.
فالعقل الظاهر أو منطقة الوعي تحتوي الأشياء التي يدركها العقل في وقت
معلوم، وهي التي تهيمن على الإنسان في حالة صحوه وعلمه.
والذاكرة تحوي الذكريات الماضية أو ما مر على الإنسان أو حفظه.
والعقل الباطني يحوي الأشياء الممنوعة من الظهور بوساطة الرقيب العقلي،
وفيها جميع الغرائز الموروثة ورغبات الإنسان التي تدفعه إلى رغباته المتعددة؛
ولكن يمنعها من الظهور قوة حاجزة تسمى بالرقيب؛ لأن كثيرًا من رغبات الإنسان
لا تتفق والوسط الاجتماعي.
والغرائز الموروثة في الإنسان تتجلى فيه من السنة الثانية من عمره بإظهار
رغباته ككل الأطفال؛ ولكنه يجد المقاومة لتلك الرغبات من الوسط المحيط به
والذي يختلف باختلاف السن والوسط.
فإن الوالدين أو المربين والأساتذة هم الذين يتولون إرشاد الطفل في مدى سنيه
الأولى وبذلك يبتدئ التصادم بين غريزته الاجتماعية والغرائز الأخرى كالبهيمية
والأنانية، فبطبيعة الحال يصبح مضطرًّا - حبًّا في استمرار الألفة بينه وبين
الجميع - إلى اتباع خطة مواجهة للواقع فيتنازل قهرًا عن الأشياء التي يريدها هو
ويستهجنها الناس.
ومن العناصر الأساسية لنظرية فرويد أن الرغائب والميول التي تقمع وتبعد
إلى العقل الباطني أو غير الوعي لا تُمحى بل تبقي حية ولها أثرها في حياة
الشخص، وتؤثر تأثيرًا واضحًا من مظاهر الوعي بطريق غير مباشر، فإذا كانت
هذه الغرائز المقموعة سيئة أمكن تهذيبها بالقوة الدافعة المرافقة لتلك العناصر
الفطرية التي في العقل الباطني، وتوجيهها إلى طريق نافع يساعد على تقدم
الشخص، ويكون تأثيرها في الوعي نافعًا، هذا ما يحصل في الأحوال العادية،
ولكن لنقص في التربية - وخصوصًا المنزلية - قد لا يحصل التهذيب في تلك القوة
الدافعة، وقد تستعمل في الإضرار بالتطور العقلي من الطفولة إلى المراهقة، مثل
ذلك إذا تعلق الطفل بوالديه - خصوصًا إذا كان وحيدًا - فيكبر وليس لديه أي
اعتماد على النفس، وتكون النتيجة رسوخ هذا الميل عنده، فلا يقوى على احتمال
صعوبات الحياة وحده، فإذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا أصابه الحنين وكانت عملية
القمع - أو تخفيف لوعة فراقه - مسألة شاقة ومؤلمة؛ وذلك لأنه بعد أن تعود
الاعتماد على والديه يرى نفسه قد كبر وأصبح في سن خاصة لا تتفق ومركزه
وكرامته أن يكون عالة، ويتسبب عن ذلك ظهور أعراض مرضية في العقل
الظاهر كالبكاء والحزن.
وكذلك قد تصيب الشخص في حياته وهو صغير صدمات مؤلمة يضطر إلى
قمعها في العقل الباطني؛ ولكنها تبقي فيه طول الحياة، وقد تظهر أعراضها في
ظروف مختلفة؛ إذ لم يستطيع الرقيب قمعها تمامًا، فإذا فشل الرقيب في قمع هذه
الصدمات تمامًا ظهرت بشكل أفكار تجول في خاطر الشخص، أو أعمال لا فائدة
منها.
هذه مقدمة سطحية جدًّا في علم النفس يمكنك أن تتفهم منها النتيجة الباهرة
التي وصل إليها فرويد، وهي أهمية الغرائز في إحداث ظواهر عقلية خاصة في
تصرفات الشخص في الحياة.
وبنظرية العقل الباطني وأثره تفسر الأحلام وتحلل نفسية الأشخاص، ومهما
يكن من تنافر الآراء بين علماء النفس فإن الجميع (فرويد وينج وأولر) يعترفون
بأن العوامل الخلقية والوراثية لها كل الأثر في الأمراض النفسية وكفايات الشخص.
أما قوانين الوراثة فلم يوضع لها إلى الآن حدود وقواعد ثابتة يمكن تطبيقها
بسهولة، وهي وإن كانت تفسر لنا الأحوال النفسية التي بين أيدينا، إلا أن اختلاف
طرق الوارثة في سلالة واحدة لا زال محتاجًا إلى تفسير وشرح؛ كأن يكون
الأخوان الشقيقان مختلفين في الأخلاق.
إلا أن ذلك لم يمنع المشتغلين بتأصيل الحيوان من تتبع سلالة الهجين وإمكانهم
أن يستخلصوا منها بالتناسل سلالة نقية، فإنه من الممكن ومن الأمور العادية جدًّا
أن تحصل على جواد عربي أصيل من أم وأب هجينين بتقوية الدم العربي في كل
سلالة، وذلك بانتقاء الأقرب إلى الأصل الذي تريده.
هذه مقدمة لبحث التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد قبل البعث، وسترى أنه
يستنبط منها أنه كان في ذاته وشخصيته وحدة كمال مستقلة، ولم يكن في نفسه أي
أثر للأديان الأخرى، وأنه كان نسيجَ وحده.
فقد رأيت مما شرحناه لك أن العوامل النفسية في العقل الباطني هي الغرائز
النفسية الكامنة، أوالتي قمعت، وأن لها أكبر الأثر في تصرف الشخص.
فلنطبق ذلك على حياته الشريفة:
فسيدنا محمد كان يعيش في وسط عبادة الأوثان، أو ما تقدم الإسلام من
الأديان، فكانت هذه هي القاعدة الأساسية في المجتمع الذي كان يعيش فيه، فإذا
كان محمد صلى الله عليه وسلم قد ورث في نفسه عوامل نفسية تحرضه على
كراهيتها، كان له أن ينتقم أو يعبث بها، ولكن عمليات القمع بوساطة الرقيب
العقلي وغريزة الاجتماع وآداب العشرة نهته أن يعادي الناس؛ فماذا كان شأنه مع
نفسه؟ هذا ما سوف ننتظره من نتيجة التطبيق العلمي على ما أثر من حياته
الشريفة في كتب السير المعتمدة.
* * *
الحمل والطفولة
إن سلسلة نسبه الشريف تنتهي إلى إسماعيل وإبراهيم من جهة الوالدين وهو
نسب معرق في النبوة والعمل على تطهير العقائد، وسئل النبي عن نفسه فقال:
أنا دعوة أبي إبراهيم (ابن هشام ص ١٥٥) .
ونسبه صلى الله عليه وسلم بانتهائه إلى إسماعيل وإبراهيم ونوح المعترف
بنبوتهم من الأديان الأخرى يجعلنا نطبق قوانين النفس والوراثة الأخلاقية على
شخصه الشريف، ولو كانت قوانين الوراثة واضحة تمامًا ومحدودة في حدود علمية
تامة - لكان في تطبيقها أكبر لذة علمية، ولكن الناس يعرفون منها اليوم قوانين
ونتائج لا شك في صحتها، فيقولون عن السبع أنه يموت عطشًا ولا يلغ من ماء
ولغ فيه الكلب.
وينقلون عن أبناء الملوك المعرقين قصصًا طويلة ونوادر عن الألفة واحترام
النفس، فلا ننتظر من مثل ذلك النسب إلا وراثة غرائز أرقى من مجموع مستوى
الناس، على الأقل مما كان يتجلى في آبائه وأجداده، فإنهم لم يشتهروا بالثروة والغنى ولقد ولد عليه السلام في إملاق؛ ولكن آباءه اشتهروا بالشرف والنخوة، وعرف عن
أهله شدة المراس والصلابة فيما يعتقدونه حقًّا، ولم يرث عليه السلام من آبائه إلا
شرف النفس، وهو ما نعبر عنه باللسان العلمي بالغرائز والإلهامات الراقية العالية.
يدلنا على ذلك أخلاقه قبل البعث: وقار وحشمة، واحترام لنفسه، ولم
يرتكب زلة أدبية مما كانت تبيحه عادات الجاهلية؛ فلم يسكر ولم ينهب ولم يقتل
إلى غير ذلك مما كانوا يعدونه من ضروب الشهامة.
وكانت أخص صفاته احترام النفس والغير؛ فلم يعتدِ على أحد ولم يُطلب عنده
حق لغيره.
كان هذا قبل النبوة وقبل أن توجد عداوات وحزازات، شهدت بها وفود
أعدائه عند ملك الروم.
وهذا أرقى أنواع الغرائز والإلهامات.
ولنتمش قليلاً بعد ميلاده، فنراه ولد يتيم الأب، ولم يلتصق بأمه بل بعث به
إلى الصحراء.
مسألة غريبة في هذه الحياة الحافلة، فقد علمت أن الالتصاق بالوالدين فيه
مضيعة للاعتماد على النفس، وفيه معنى من معاني الرخاوة في الطباع، وقد يكون
في الالتصاق بأحدهما مفسدة للأخلاق.
ولقد تيتم من أمه طفلاً، فلم يكن له أمل في الاعتماد على أحد من الناس
اعتمادًا قد يقتل من عزمه، أو يفسد من طباعه.
ولننظر إلى اليتم وأثره في النفس:
أنا شخصيًّا جربت ذلك؛ فقد ولدت يتيم الأب وفي كفالة الأم، وقد أورثني
ذلك عوامل نفسية مؤلمة، ما تحدثت بها إلا أمضني الحزن والألم.
إن أول ما يشعر به اليتيم متى شبّ هو الإقرار بالواقع والاستسلام للقضاء
والقدر، والرضا بما قسم له من نصيب محزن لفقدان عطف الآباء، والمرشد
الخبير في أوقات حرجة من ظروف الحياة التي تحتاج إلى قرار حاسم من مطّلع
خبير، ويكون الدافع النفسي موجهًا إلى الخضوع والوحدة، لا إلى حب السلطان
والمظهر البراق، كما تتعود النفس الخشونة وعدم العطف، فلا يتعود اليتيم التدلل
ولا المرح وهما أهم خواص الطفل في سن الصغر، وذلك كله نتيجة الإخفاق في
إشباع رغبات الطفل، والفشل المتوالي في نوال كل شيء يطلبه أو يتطلع إليه.
أضف إلى ذلك نوعًا من الشفقة المؤلمة، ونوعًا من العطف أقتل للنفس من
العقاب الصارم، ذلك هو الحنان الذي يستجدى كأنه حسنة أو نافلة؛ إذ ترى قومًا
يظنون أنفسهم على شيء من حسن الصفات يعطفون على اليتيم عطفًا هو أشبه
بالصدقة منه بالعطف، ويشفعون عطفهم بالإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك ليتم الشخص.
دُعيت مرة إلى مهرجان زواج وأنا غلام صغير، فوزعت الحلوى على
الرجال والغلمان، وكان كل والد يحضر لنجله نصيبه من الحلوى، وخرجت من
الاحتفال وليس معي غير دمعة تترقرق؛ فلم أصب من الحلوى قليلاً أو كثيرًا، ولم
يلاحظ إخفاقي إنسان، فآليت على نفسي بعدها ألا أذهب إلى مهرجان [٢] .
وتوفيت إحدى قريباتنا وأنا غلام، وكانت تحبني لقرابتها من المرحوم والدي،
وكنت في نحو العاشرة من عمري، فانسللت وحدي من المنزل لأمشي في
جنازتها اعترافًا بهذا الحنان الذي كانت تظهره نحوي، وبكيت عليها كثيرًا؛ لأنها
ما كانت تراني حتى تذكر والدي وتبكيه، وكانت هذه السيدة أصيبت بشلل، فكانت
تهتز في بكائها إلى درجة أني كنت أشعر أن نوبة إغماء تعتريها، فإذا أفاقت قبلتني
فيتبلل وجهي من دمعها.
رأيت وفاء لها أن أسير في جنازتها وأن أشيعها إلى مقرها الأخير بتلك
الدموع التي أرهقتها لذكرى أبي.
ودفنت، ووقفت على قبرها أبكي، وكنت ألاحظ أن الناس ينصرفون في
مركبات أعدت لهم ولم يدعني إنسان لمركبته، وبعد قليل - وكانت الشمس قد
قاربت المغيب - وجدتني وحيدًا بين المقابر، لم يعرني أحد اهتمامه، ولم يسأل
عني سائل.
هناك عرفت أن لا نصير لي في الدنيا، ولا من يسأل عني، وضربت يدي
إلى جيبي فوجدتني خالي الوفاض، فافترشت الأرض أنتظر ما قدره لي الله، لولا أن
أسعفت بمُكارٍ له حمار أعرج، يسوقه أمامه وسط القبور، وهو يغني بصوت
متهدج، فأوصلني إلى البيت على أجر اتفقنا عليه.
بعد تلك الحادثة لم أكن أذهب إلى مكان إلا بعد أن أفكر في طريق العودة
وحدي.
هذه العوامل كلها تورث في الطفل شيئًا كثيرًا من الحسرة والاعتماد على
النفس، وتعلمه الحياة ومعناها وهو طفل، فيعوض بنفسه ما فاته من عون والده؛
ولذلك لم أشك في رواية بحيرى حين قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي
لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا) لأن مثله يجب أن يكون أستاذ نفسه ولا فضل لأحد
عليه.
على أن هناك عاملاً نفسيًّا قويًّا يختلج في نفس اليتيم، وهو ذلك الشعور الذي
يتولاه بأنه ضحية القدر، وأنه بريء مظلوم في العالم، فقدَ مرح الطفولة وابتسامتها
العذبة، وسرورها المستمد من عطف الوالدين وإرشاد الوالد، فينظر إلى العالم
بالمنظار الأسود، ويفكر في الانتقام من العالم لو استطاع إلى ذلك سبيلاً.
هذا سر من أسرار بعض النفوس، فغريزة التخريب والهدم كامنة في النفس،
ولكن عوامل الضعف قد تكبر هذه الغرائز ولا يجمحها غير التربية والوسط، ولم
يكن محمد صلى الله عليه وسلم في وسط يساعده على تكوين نفسه؛ ولكن الظروف
هيأت له أن يكون رقيق القلب، وكأني بهذه الظروف ليست بنت المصادفة؛ ولكنها
إلهام وتوفيق من قدرة أقوى، فكيف تهذبت نفسه؟ وكيف صار بارًّا بالعالم والفقراء
واليتامى؟ وكيف استطاع أن يعرف نفسه؟ وكيف تربت نفسه على العظمة، ولم
تفقد كبرياءها مع اليتم والإملاق؟
إن نشأته (راعي غنم) هي السر في انتصاره على أفكار ثورية تمليها
الطبيعة البشرية، وغرائز الهدم والتخريب، وشعوره بظلم الحياة بفقد والديه.
فلما كان غلامًا تحمل مسئولية رعاية الأغنام التي هي مضرب المثل في
الوداعة، وهي لا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، وهي أحوج ما تكون لرعايته من
الذئب الذي يهاجمها.
ولقد توافرت في هذه الصناعة كل العوامل التي يحبها اليتيم - كما أسلفنا -
من العزلة عن الناس اتقاء ما يصيب اليتيم منهم من إهمال وعدم عطف، والزهد
والاعتكاف؛ حتى لا تتأثر النفس بضعفها في الحياة، فهي نوع من التربية النفسية
لنمو غريزة المسئولية، ورعاية الضعيف والعطف على الوداعة والشعور بالسلطان
والاعتماد على النفس.
وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليشعر وهو يرعى الأغنام بأنه ملك صغير له
رعيته وعليه واجبه، وأهم هذا الواجب هو حمايتها من الذئب أو من اللص، وهو
في أثناء ذلك يمشي في الأرض ويفكر في الطبيعة بين السهل والوادي، والجبل
والصحراء؛ ليبحث عن رزق أغنامه ورزقه؛ أليس ذلك يصرفه عن البطش بها؟
أليس يعرف أنه مسئول عن ضياعها؟ أليست هذه مسئولية تربي في نفس كنفسه
الشريفة كل تقدير للواجب، وتعده أن يكون راعياً كبيراً، يرعى الناس فيما بعد؟
* * *
حياته وهو غلام
في حياته - عليه السلام - أثر واضح للغرائز النبيلة، وأن عقله الباطني كان
أنشط من عقله الواعي، وإلهامه الطبيعي أشرف من إلهامات الناس كافة.
لقد عاش في وسط ليس للتربية القويمة أي أثر فيه، وقد يكون الوسط العربي
في بلاد العرب اليوم مشابهًا له، أي أن الغلمان لا يجالسون الكبار، فلم يكن له
فرصة التربية والعملية تلقينًا أو مشاهدة؛ ولكنه كانت تربيه غرائزه الخاصة، إذا
صرفنا النظر عن القوة الإلهية التي نعتقد أنها كانت مشرفة على إعداده.
يتجلى لك ذلك في حوادث جمة نسوق لك منها حادثتين: الأولى ما ذكره ابن
هشام وغيره نقلاً عن الحديث الشريف:
(لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، وكلنا
قد تعرّى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأُقبل معهم كذلك
وأدبر إذ لكمني لاكمٌ - ما أراه - لكمة وجيعة [٣] ، ثم قال: شُدّ عليك إزارك، قال:
فأخذته وشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين
أصحابي) .
والحادثة الثانية هي الحادثة المشهورة؛ إذ أراد أن يسمر بمكة، وتتمتها كما
جاء في قوله عليه السلام: (فخرجت لأدنى دار من دور مكة فسمعت غناء
وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان زوّج فلانة لرجل من
قريش، فلهوت بذلك حتى غلبتني فنمت) .
فما هو التعليل النفسي لهاتين القصتين إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي
الأكبر؟ فإن هذا الهاتف وهذه الكلمة هما نشاط العقل الباطن نشاطًا غير معتاد
نتيجة الغرائز الشريفة التي أخفاها الرقيب العقلي على حكم البيئة التي يعيش فيها
عليه السلام، فسمعه صوتًا وشعر به لكمة وهذا كثير الحصول في الأمراض
العصبية؛ إذ يرى الشخص أو يسمع أو يشعر بأشياء لا وجود لها نتيجة العقل
الباطني، وكذلك تعلل الحادثة الثانية بمغالبة دافع السمر بغريزة الاقتصار والرضا
بالواقع، ومواجهته، فشغل حتى نام.
وليس هناك فرق بين العقل والجنون إلا قوة الرقيب، فإذا ظهرت القرائن
التي لا تلائم المجتمع سمينا ذلك مرضًا، وإذا ظهرت الغرائز التي ترقي المجتمع
وتسمو بالشخص إلى منزلة رفيعة ومثل أعلى سمّينا ذلك شخصية فذّة وعبقرية،
وعزونا ذلك إلى الغرائز الشريفة الراقية التي لم يستطع الرقيب التغلب عليها بحكم
الوسط، فالوسط الذي كان فيه عليه السلام يبيح للأطفال تعرية سوءاتهم، أما غريزته
فكانت أرقى من ذلك؛ ولذلك نشط عقله الباطني ونهاه عن العري.
ويمكن أن تؤول كل تصرفاته وهو طفل على هذا النحو، فلا تجد هناك إلا
تعليلاً واحدًا وهو أن غرائزه كانت نبيلة غاية النبل مما اشتهر به من الأمانة
والكياسة إلى غير ذلك من جميل السمات.
* * *
محمد تاجر
هذه الصناعة هي ألصق الصناعات بأخلاق الناس ودراسة نفوسهم، وفضل
السياحات عظيم في تربية الشخص الخلقية، وقد ظهرت لك غرائزه في أمانته،
ولنذكر الآن العناصر الجوهرية في هذا البحث وهي صلة محمد صلى الله عليه
وسلم بالأديان الأخرى، وهل هي التي أثرت فيه في التحنث بالغار أم لا؟ يقول لنا
جماعة المستشرقين: إن صلة محمد صلى الله عليه وسلم في سياحاته بالأديان
الأخرى عرفته الشيء الكثير عن تلك الأديان ودراستها، ويخيّل إليك أنها كانت
دراسة عميقة كدراسة الطالب الذي يتخصص في علم الطب والحقوق مثلاً ومثل
هذه الدراسة لابد أن يلزم الطالب فيها باب أستاذه مدة طويلة جدًّا من الزمن توازي
على الأقل مدة دراسة تلاميذ سقراط، ولكن ظهر لك أنه لم يصرف في الرحلة
الثانية غير ثلاثة أشهر، منها نحو ثمانين يومًا في الطريق، ويلوح لنا أن هذه
الرحلة لم يكن الغرض منها سوى التربية النفسية، وتحمل مشاق السفر،
والمحافظة على الأمانة التي عهد إليه القيام بها وهي توصيل التجارة والعودة بالثمن،
كما بيّنا ذلك مفصلاً في الفصل الثاني الذي مر بك.
ولقد ادعى درمنغام وغيره أنه عليه السلام ذهب إلى اليمن، ولم تؤيد كتب
السير هذا الزعم، ولكنها أضيفت فقط للتهويل.
* * *
دين محمد قبيل الوحي
فلننظر ما ذكره ابن هشام ونستنبط منه دين محمد قبيل الوحي، وهل تعبده له
صلة بالأديان الأخرى أم لا؟
لم يروِ لنا أحد من المسلمين وأعداء الإسلام شيئًا عن دين سيدنا محمد قبل
الوحي، بل كل ما قالوه هو أنه صلى الله عليه وسلم (ابن هشام: صفحة ٢٢٤)
كان يجاور في حراء في كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنثت به قريش في
الجاهلية، والتحنث لغةً هو التحنف.
وقال عبيد - صفحة ٢٢٥ -: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور
ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره
من شهره ذلك كان أول ما يبتدئ به إذا انصرف من جواره إلى الكعبة فيطوف بها
قبل أن يدخل بيته.
هذا هو كل ما كان يفعله عليه السلام من التعبد قبل بعثه، ولنطبق ذلك على
علم النفس أيضًا.
لقد نشأ محمد عليه السلام في الجاهلية التي كانت تحترم الكعبة، وقد أوجدت
الظروف التي طرأت على بناء الكعبة فرصة انقسام القبائل على حمل الحجر
الأسود، فكانت فرصة ساخنة له أعطته ميزة الفصل بينهم وأن يكون رداؤه محمل
الحجر، وأن يكون له ميزة وضعه بيديه الشريفتين مكانه، فإلهامات محمد صلى
الله عليه وسلم الطبيعية وغرائزه لم تجعله ينفر من الكعبة وهو يجهل ما سيكون لها
من الشأن على يديه مستقبلاً وليس في التوراة والإنجيل ما يدل على أن هذا هو
بيت الله الذي بناه إبراهيم، فهو على حكم البيئة التي نشأ فيها لم يشذ عن احترام
الكعبة؛ ولكنه نفر مما حوت من أصنام مما كان المجموع يدين به.
نقف هنا وقفة قليلة لنتأمل هذا الفرق الهائل بين احترامه للكعبة ونفوره من
الأصنام: فالكعبة كما رأيت لا تمت بصلة لليهودية ولا للنصرانية؛ ولكن العرب
كانوا يحترمونها احترامًا متوارثًا، وكانوا يعرفون أنها بيت إبراهيم.
ولقد روى الكلبي في كتابه (الأصنام) أن منشأ هذه الأصنام هو شدة تعلق
أبناء إسماعيل بالكعبة، فكانوا كلما كثروا ورحلوا إلى جهة أخذوا حجرا من الكعبة
ووضعوه في مكانهم الجديد وطافوا به تبركًا.
ثم دار الزمن بهم فعبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه.
فأنت ترى من هذا أن احترام الكعبة موروث في أبناء إسماعيل ومنهم محمد
صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه نَفَر من الأصنام، وهذا فارق كبير.
وتاريخه عليه السلام يكاد يحوي كل صغيرة وكبيرة من تعبده، بل كان يُسأل
بعد الإسلام عن كل شيء، ولم نجد في عمل من أعماله دليلاً على اتصاله بالأديان
الأخرى.
ولكن هناك أمر واحد تمحّك فيه جماعة المبشرين بعد أن غذاهم به فريق
المستشرقين، تلك هي القبلة الأولى، وزعيم هذه الفرقة هو ستوك هرجرونيه
وفنسنك طريد المجمع اللغوي الملكي، وسنبين هذه الشعوذة عند الكلام عن هذا
الرجل الذي وقفنا معه موقفًا خالدًا في هدم المستشرقين، على أن ذلك كان بعد
البعث ولا شأن له بموضوعنا الآن، وعلى أن الأعمال الثلاثة التي كان يدين بها
قبل البعث هي المجاورة في الغار، وإطعام المساكين والفقراء، فإذا انتهى ذلك
الشهر طاف بالكعبة سبعًا.
فهل هذه الأعمال تمُت بالصلة لأي دين من الأديان السابقة؟
إذا كان هذا التعبد - إن صحت تسميته بهذا الاسم - مصدره الغريزة والإلهام
وحدهما، فهو - على حكم الوراثة من جده الأعلى إبراهيم وإسماعيل - قد شق له
طريقًا وحده.
ولم يقل لنا المستشرقون ومن جرى مجراهم أنواع هذه الصلة التي قالوا عنها،
بل اكتفوا بهذا الوضع للتشكيك لا غيره، وإلا فإني أتحدى من يقول بأن هذه
الأعمال التي كان يقوم بها محمد صلى الله عليه وسلم متخذة من الأديان السابقة،
اللهم إلا دين الحنيفية دين الإسلام وملة إبراهيم، ومحمد بغرائزه وإلهامه شق له
طريقًا وحده ولم يتشيع لدين ما قبل بعثه، وإلا لكان الكافرون من أهل زمانه حاجّوه
بما كان يعترف به أو يعمله، وليس في القرآن إشارة ما إلى ذلك مع أنهم حاجّوه
بكل أنواع الحجج، وطعنوه بجميع أنواع المطاعن إلا هذا، فهل ما خفي عن
معاصريه اكتشفه المستشرقون في آخر الزمان؟
... ... ... ... ... ... سبحانك هذا بهتان عظيم.
((يتبع بمقال تالٍ))