للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

جاءنا في بريد (جاوا) الأخير كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي يقول فيه أنه
قرأ ما كتبناه في حث الأمم الإسلامية على الاعتماد في ترقيهم على أنفسهم، لا على
الدولة العلية، لا سيما أهل الهند والجاوا وأمثالهم ممن تحت سلطة الأجانب، ثم
قال: (اعلم أيها الفاضل أننا معاشر الجاويين ليس قصدنا بأن تكون ترقيتنا على يد
الدولة العلية، ولكن غرضنا الوحيد هو مساعدة الدولة العلية لنا في فك الأغلال التي
وضعتها حكومة هولندا في أعناقنا، وقيدت بها أرجلنا، وضيقت علينا في كل أمر
نقصده، فليس لنا مدارس، وليس لنا أساتذة، وتداخلت في كثير من أمورنا الدينية
كعقود الأنكحة، وتعطيل بعض المساجد من إقامة الجمعة بعد ما استمرت فيها
قرونًا عديدة، والتضييق علينا في شأن الاجتماع، فيمتنع أن يجتمع أكثر من
سبعة نفر بدون إذن الحكومة، ولو لقراءة المولد الشريف، أو وليمة زواج، ونحو ذلك، هذا كله في وقت الإقامة، وأما التضييق في السفر، فقد فرضت على كل من
يريد السفر، ولو ميلين أن يكون معه تذكرة لها شروط طويلة عريضة، بحيث يضيع
على الإنسان أكثر وقته في السعي بالحصول عليها، وتسمى عندهم (باسفور)
ولو شرحنا هنا شروط التذكرة في حملها وحطها لاحتجنا إلى كراريس، ولكن
بهذا القدر كفاية، واللبيب تكفيه الإشارة، فأنَّى لنا الترقي وهذا حالنا، فهل من
نصير، وهل من مجير لنا؟ فالمُشْتَكى إلى الله وحده، ونرجو أن تساعدنا الدولة
العلية في طلاب المساواة من حكومة هولندا؛ لأن هذه الحكومة تزن بميزانين،
وتكيل بمكيالين مختلفين، وتفعل كلَّ ما تريده بالمسلمين من العسف والجور، وليس
لها مُعَارِض ولا منازع، فإذا حصلت لنا مساعدة، وإنشاء مدارس في سائر مدائن
جاوا، ففي مدة قريبة ترى عجبًا؛ لأن الجاويين أهل ذكاء وفطنة، ليسوا كغيرهم،
هذا وإن أحببتم نشر هذا في (المنار) يكون بدون إمضاء والسلام) اهـ.

(المنار)
لا يخلو حال الدولة معكم معاشر الجاويين من ثلاثة أحوال:
(الأول) أن لا تكون عالمة بما حل بكم وما أصابكم من سهام الظلم
والاضطهاد، وماذا تنتظرون ممن يجهل من أمركم ما علمه العالمون، ومرت
عليه السنون؟
(الثاني) أن تكون عالمة بما أصابكم وهي قادرة على إغاثتكم، ولكنها لا
تبالي بكم، والأمر في هذا ظاهر لا يحتاج إلى ناهٍ ولا إلى آمر.
(الثالث) أن تكون عالمة بالمصاب والبلاء، ولكنها عاجزة عن الإغاثة
والإنجاء، والأمر في هذا أظهر وأبين، وهو الواقع لا ريب فيه، فتبين أن نصيحتنا
لكم ولأمثالكم بالاعتماد على جدكم وهمتكم حقيقة صادرة عن إخلاص وغيرة قلبية.
ولا تحسبوا أن سبب عجز الدولة العلية عن إنقاذكم ورفع الضغط عنكم هو
قوة الدولة المتسلطة عليكم، فإن مملكة هولندا ليست إلا كولاية من الولايات
العثمانية، ولو كانت متصلة ببلاد الدولة العلية لأمكن الدولة أن تدمرها في وقت
قريب، كما دمرت اليونان، ولكن السبب الصحيح هو أن الدول الأوروبية بعضها لبعض ظهير بإزاء الدولة العلية، فيُلزمنها باتفاقهن إجابة ما تطلبه كل واحدة منهن
لنفسها، أو للنصارى في بلاد الدولة، ولا يجبن لها طلبها فيما يتعلق بمصالحها
أو مصالح المسلمين الذي هم تحت رعايتهن، على أنه لو كان لها أسطول قوي يليق
بموقعها البحري لأجيب لها كل طلب، ولأمكنها أن تتبع للوصول إلى مقاصدها
كل سبب. فإن أمرالدول مبني على قاعدة بسمارك (القوة تغلب الحق) وأما ما
تُثَرثر به ساستهم وجرائدهم من العدالة والإنصاف، والمرحمة والإنسانية،
والتبري من التعصب الديني، فهي تمويهات خادعة وخلابة كاذبة.
اشتهر المستر غلادستون بأنه السياسي الفرد الذي أفاض على السياسة أمواه
الآداب والفضائل، فلانت قناتها وراعت العدالة رعاتها. ولقد كان يعلم أن أهل
جاوا يسامون من هولندا سوء العذاب، ويقاسون من الظلم والاضطهاد ما لم يقاسه
أحد في بلاد متوحشة همجية، وما كان ينبض له عرق ولا يهيج له انفعال، هذا
ودم القوة يجري في عروقه، وماء الفتوة يترقرق في أديم وجهه، ولما كبحت الدولة
العلية جماح بُغاة الأرمن الذين أضرموا نيران الثورة وخرجوا عن الطاعة، قام
على شفير قبره، وقد تبيغ دمه بعد ما كاد يغيض من الضعف والكبر، وتدفقت
الفصاحة من لسانه بعد ما أوشك يصاب بالحصر، وطفق يهيج الأمة الإنكليزية
خاصة، والأمم الأوروبية عامة على التنكيل بالدولة العثمانية، ومحو اسمها من لوح
البرية، شفقة على أولئك البغاة اللئام، والعصاة الطغام، حتى قال فيه البرنس
بسمارك: (إن المعلم غلادستون أضاع على دولته بغلوه في بضعة أيام ما اكتسبته
من وداد الدولة العلية في بضع عشرات من السنين) فليعتبر هؤلاء الشبان
الأغرار الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار، وليكفوا عن طلب الإصلاح
بواسطة الأوروبيين، وليخدموا أمتهم بالتربية والتعليم إن كانوا صادقين.