للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين الهراوي


الفصل التاسع
حكاية فنسنك [١]
(المقال الثاني)
إذا قلبت أي كتاب اجتماعي أو عمراني باللغات الغربية يتكلم عن مصر أو
الشرق أو الإسلام، وجدت أشياء لا يقرها عقل ولا يستسيغها المنطق، وليست من
الحقيقة في شيء.
ويوجه نظرك بصفة خاصة ما يوصف به الإسلام من الصفات التي لا تنبو
عن قواعد الذوق السليم والحقيقة فحسب، بل إن الكُتَّاب الأوروبيين يصورون
الإسلام بصورة بشعة قبيحة لا تكاد تقرؤها حتى يقشعر بدنك من هول ما تقرأ.
فإذا كنت شرقيًّا صميمًا أولت ما يكتب في تلك الكتب الاجتماعية بأنه جهل
من المؤلفين بأحوال الشرق وعاداته، وإذا كنت مسلمًا أسفت كثيرًا أن يوصف
الإسلام بصورة بشعة بعيدة عن الواقع، وأسفت على أن الأوروبيين لا يعرفون
شيئًا عن حقيقة الشرق بصفة عامة وعن الإسلام بصفة خاصة، فليس حقيقيًّا ما
ذكره مارشال في كتابه (الزواج) أن الأم في مصر لا يباح لها أن ترى وجه ابنتها
بعد سن الرابعة عشرة من أثر الحجاب في الإسلام.
وليس صحيحًا ما جاء في هذا الكتاب أيضا من أن الفتاة الريفية المصرية
يباح لها أن تعرِّي جسمها كله أمام الرجال، أما وجهها فلا يراه إنسان.
وليس صحيحًا ما وصف به الحجاب، وما ذكره عن تعدد الزوجات كما جاء
في كتاب (نسبت) عن الزواج والوراثة.
وليس صحيحًا أن سيدنا محمد كان رجلاً شهوانيًّا محضًا، يشبع شهوات
الشيخوخة بزواجه بالشابات، كما جاء في هذا الكتاب.
فأول ما نلاحظه في تلك الآراء أنها مجرد تشنيع خالٍ من الحق ومن العدل،
ويتجلى فيها سوء النية تجليًا لا يقبل تأويلاً أو تعليلاً، ولا يمكن الدفاع عنه.
ومن محاسن الكتب الإفرنجية أنها تكتب المصادر التي اعتمدت عليها في إبداء
رأيها، وتشير إلى المراجع التي استقت منها تلك المعلومات، وكنت أتتبع تلك
المراجع فأجدها راجعة إلى بيئة واحدة هي جماعة المستشرقين.
وفي الأدب الإفرنجي الحي كتب قيمة جدًّا تبحث في التاريخ العام والخاص،
وتاريخ الأمم والنهضات العلمية. وهذه الكتب محترمة عند الأوروبيين، فكنت
أطالع فأجد فرقًا كبيرًا فيما تكتب من التاريخ القديم أو الحديث بلباقة ودقة علمية؛
كوصف مصر القديمة وآثارها وسوريا وتاريخها، بل رأيت في تلك الكتب تاريخ
بلدان ورسوم أماكن لا تستطيع أن تعرف موقعها على الخريطة ما لم ترجع إلى
معجمات مطولة - وبين ما تكتب عن الإسلام ونبيه.
فإذا تكلمت عن الإسلام والمسلمين، أو عن حياة سيدنا محمد أجد تحريفًا
ظاهرًا وكذبًا واضحًا، وتهريجًا قبيحًا.
وانظر إلى مرجوليث حيث يقول: (ربما كانت الطبيعة الجغرافية أو المناخ
الإقليمي هو السبب في تأخر المسلمين، ولكن نظرية وجود رجل واحد - أي سيدنا
محمد - يكون هو وحده الرسول بين الله والناس، ويكون هو وحده آخر طريق لهذه
النظرية هي ثاني سبب لتأخر المسلمين) .
فمرجوليث لا يقول هذا لإنهاض المسلمين؛ ولكنه يقول هذا تشنيعًا وهو الذي
لم يترك نقيصة إلا ألصقها بالإسلام من غير سبب وها هو ذا كما ترى يتخيل نفسه
على الأقل موزونًا أو معقولاً فيتكلم عن الإسلام؛ ولكي تفهم مقدار تحصيل
مرجوليث هذا للغة العربية نأتي لك بالمثل الآتي الذي ساقه صديقنا الدكتور زكي
مبارك:
فقد تعرَّض مرجوليث لشرح هذه الأبيات:
يقول لي الواشون كيف تحبها؟ ... فقلت لهم: بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قط أمثالي
وكم من شفيق قال ما لك واجمًا ... فقلت أني مالي وتسألي مالي
والشطرة الأخيرة من هذه الأبيات فيها خطأ كتابي فقط وصحته (فقلت ترى
ما بي وتسأل عن حالي) ولكن مرجوليث العالم الضليع الذي ينتقد القرآن
وأسلوبه ويتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ويحقق تاريخ آبائه فيقول: إنه ابن
عبد الله، يعني الرجل المجهول، هذا العالم العلامة والحبر الفهَّامة يقول إن
الشطر الأخير صحته:
(فقلت أنا مالي وإن تسألي مالي)
وليس هذا التصحيح هو المضحك وحده - وإن كان أشنع من الغلط الأول -
ولكن المضحك حقًّا أن يكون المصحِّح أستاذ لغة عربية ويتعرض لأسلوب القرآن
أو يدَّعي نقده! !
ولسنا في مقام الرد على أسباب وعوامل تأخر الأمم الإسلامية فلدى
المستشرقين أنفسهم الأسباب.
والظاهر أن المستشرقين جمعية دولية حتى إذا ألَّف مستشرق كتابًا أو كتيبًا
ظهر في ثلاث لغات حيَّة دفعة واحدة، في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مع أن طبع
هذه الكتب قد يستنفد كل ثروة المستشرق في الطبع، والمدهش أنك ترى في مقدمة
كل كتاب مستشرق قائمة بأسماء الذين عاونوه وساعدوه في البلدان الأخرى.
وإني لأعلم أن المستشرقين تنقصهم في مباحثهم عن الإسلام الروح العلمية،
وأن لهم في الاستقصاء طريقة لا تشرف العلم؛ وهي أنهم يفرضون فرضًا ثم
يتلمسون الدليل عليه، فإذا وجدوا في القرآن ما يهدم نظريتهم تجاهلوه والتمسوا
الآيات التي تتناسب والمعنى المراد، ولا مانع من بترها إذا اقتضى الحال، أو
تحريف معناها - حسب الرغبة - فيخرج القارئ من كلامهم وهو يتهم الإسلام
بالتلفيق - كما يقولون - كما سبق شرحه في كلام مرجوليث.
بمثل تلك النواحي التي أسلفناها أصبحنا لا نقرأ للمستشرق شيئًا إلا ونحن
نحرص على تفكيرنا، وأن نعنى بتعرف الغرض الذي يرمي إليه قبل أن نثق بما
يكتب، وأن نقتفي أثره فيما يبحث وفي مستنداته؛ لأنه دائمًا يبتر الحقائق؛ فيقول:
إن القرآن فيه آية لا تقربوا الصلاة.
وسنعطيك مثلاً آخر فيما قال فنسنك تحت كلمة " كعبة " في دائرة المعارف
الإسلامية، صفحة ٥٨٧، النسخة الإنجليزية:
(نحن لا نعلم شيئًا عن شعور محمد الشخصي في شبابه نحو الكعبة أو
العبادات المكيَّة؛ ولكن المفروض أنه لم يشذ عن الجماعة) .
(وإن ما ذُكر في سيرته عن هذه المسألة مدة وجوده في مكة لا يوثق من
جهة القيمة التاريخية) .
(وإن الآيات المكية لم تخبرنا شيئًا عن هذه العلاقات في تلك المرحلة الهامة
من حياة النبي، على أنه لم يظهر حماسته في حادثة نحو الحرم المكي، وفي
المرحلة الأولى بعد الهجرة كان محمد في شغل بمسألة أخرى مختلفة عن هذه جد
الاختلاف؛ ولكن أخفقت العلاقات الطيبة المنتظرة مع اليهودية واليهود، وهناك
حصل تغيير؛ حيث إنه - بعد مضي عام ونصف عام على الهجرة - ذكرت الكعبة،
وذكر الحج في الوحي) .
(وأول مظهر من مظاهر التغيير كان وجهة القبلة، فلا يتجه المؤمنون في
صلاتهم إلى القدس، بل إلى الكعبة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (البقرة:
١٤٤) الآيات.... ومن الوجهة الأمرية فإن هذا التغيير في القبلة برر بأنه
استئناف ملة إبراهيم، وهي - أي ملة إبراهيم - اخترعت خصيصًا لهذا الظرف
السورة ١٢٩ - آية - و٣ - ١٩ - كما بيَّن سنوك هرجرونيه) .
(وقيل إن ملة إبراهيم هذه كان اليهود قد أخفوها ثم أظهرها محمد، ومن ثم
أدمجت فيها عبادات مكة) .
وبعد فقد انتهت الفقرة التي ننقلها من دائرة المعارف الإسلامية بقلم فنسنك،
فلنتعرف أغراضها ومراميها وحقيقتها.
وأول ما يعترضنا عند النظر إلى هذه الفقرة أن فنسنك رجل مقلد في السب
والشتم والهجاء، وأن تقليده أعمى يقوده عكاز ضعيف من الاطلاع السطحي،
والظاهر أنه في هذه المسألة يتبع آراء سنوك هرجرونيه، ويتلمس أدلة جديدة
ليضيفها إلى أدلة أستاذه السخيفة.
والمدهش أن هؤلاء المستشرقين يختلفون في كل شيء إلا في هجاء محمد
عليه الصلاة والسلام.
فهذا فنسنك يقول: إنه لا يعرف شيئًا من شعور محمد عليه الصلاة والسلام
نحو الكعبة في شبابه وبعد رسالته إلا بعد الهجرة بعام ونصف عام، وإن ما لديه
من تاريخ حياته - عليه الصلاة والسلام - لا يصح أن يؤخذ أساسًا تاريخيًّا.
وزميل له في الاستشراق هو إميل درمنغام يزعم أن محمدًا كان يتعبد على
مبادئ اليهودية أو النصرانية.
ومرجوليث يقول ما قاله مالك في الخمر.