للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد علماء الأزهر


فلسفة النفاق
المنافقون في فلسطين وحكمهم
بقلم أحد علماء الأزهر الفضلاء

{بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ
المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: ١٣٨-١٣٩) .
تنادى الناس في فلسطين إلى الدفاع عن أنفسهم، والذود عن بلادهم، والجهاد
في سبيل الله، فنفر فريق بنفسه، وأعان فريق بماله، وساهم فريق بجهده،
وقعد المخلفون.
والمخلفون عن الأمة في كل زمان هم المنافقون فيها، يتخلفون عن جماعتها،
ويخرجون على أمرها، ويقعدون عن نصرتها، ويعملون على خذلانها، ويتولون
أعداءها؛ ذلك أن الإيمان لم يدخل قلوبهم، والإخلاص لا يجد سبيلاً إلى نفوسهم،
والخير بعيد عنهم، والشر قريب منهم، فهم أعداء الله والناس وأعداء أنفسهم لو
كانوا يعلمون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون: ٤)
هؤلاء المخلفون هم الثلمة التي ينشدها أعداء الأمة في صفوفها المتراصة،
يبصرون منها عوراتها، ويستطلعون أخبارها، ويستكشفون أسرارها، وينفذون
منها إلى معاقلها الحصينة، وحصونها الأمينة، وهم مطايا الاستعباد، ونذر السوء،
وأبواق الشر، وعون العدو؛ ينال بهم ما لا يقدر على نيله بقضه وقضيضه،
وعدته وعديده.
لقد هب الناس جميعًا في فلسطين لدفع كارثة التهويد والاستعمار عن بلادهم،
ورفع الظلم النازل بهم، ونفروا خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يبق
منهم من لم يساهم في هذا السبيل بنصيب كثير أو قليل، إلا أولئك المخلفون
الخائنون، الذين طبع الله على قلوبهم، واستحوذ الشيطان على عقولهم، فانحازوا
إلى العدو، وقعدوا عن نصرة بلادهم، وفرحوا بمقعدهم وراء العاملين المجاهدين
من أمتهم، يتربصون بهم الدوائر، ويترقبون بهم النوائب، وإن تمسسهم حسنة
تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها، تقر أعينهم بما تفيض له أعين الناس
بالدمع، وتُسر أنفسهم بما تذهب أنفس المؤمنين عليه حسرات، يرون - وقد أعمى
الله بصائرهم، وأمات الفسق ضمائرهم - في ضعف أمتهم قوة لهم، وفي ذلها
عزهم، فهم دومًا يسلكون سبيلاً غير سبيلها، وهم أبدًا يعملون مع عدوها.
هذا هو حال أولئك المخلفين المنافقين في فلسطين اليوم، وكذلك حالهم في كل
زمان، وكذلك يكونون في كل أمة، يدخلون في عدادها وهم أعداؤها، وينتمون
إليها وليسوا منها، وكما في الحيوان والنبات طفيليات تعلق بجسمه وتلصق به
فتأكل غذاءه، وتتنفس هواءه، وتزاحمه في معايشه، وتعوق نموه، فيؤدي ذلك
إلى ضعفه ففنائه.
كذلك في البشر طفيليون هم هؤلاء المنافقون، يعملون في الإنسان عمل ذلك
الحيوان والنبات، حذوك النعل بالنعل.
وكما يعمد صاحب البستان في تعهد نباته إلى المبادرة بإزالة هذه الطفيليات
عنه، والمسارعة في إفنائها استبقاء له، وحفظًا لثمره، كذلك يفعل الناس بالمنافقين
الخائنين منهم، يعمدون إلى إزالتهم، ويعملون على إبادتهم؛ كيما يحفظوا أممهم،
وتسلم لهم نفوسهم وجهودهم.
ولئن كان الناس منذ القديم يرون في أعمال هؤلاء أعظم الضرر وأسوأ
الجريمة، ويعدون فعلتهم خيانة عظمى لا تعدلها أية خيانة، ويجعلون جزاءها
الموت، فكذلك كان حكم الله عليهم، وكذلك كان قوله فيهم إذ يخاطب رسوله بشأنهم،
فيقول: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً*
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٠-
٦٢) . فالله سبحانه حين ينذر هؤلاء بإغراء رسوله بهم، وبإخراجهم من البلاد فلا
يجاورونه فيها، ولعنهم وطردهم من رحمته، فهو يطالب بتعقبهم داخل البلد
وخارجها، وأخذهم أينما وجدوا، وأن يقتلوا تقتيلاً؛ ذلك أنهم حيث ما كانوا لا
يدخرون وسعًا في أذية أمتهم، والكيد لقوتهم، وموالاة أعدائهم.
وتلك سنة الله في الخائنين من خلقه من قبل ومن بعد، وذلك حكمه في كل
زمان على المنافقين، وعلى الذين في قلوبهم مرض من فجور وفسق يصدهم عن
رضاء الله، وصالح قومهم؛ حبًّا لذاتهم، واتباعًا لشهواتهم، وذلك حكمه أيضًا على
الذين يرجفون حول المؤمنين، فيشيعون أخبارًا سيئة عنهم، ويقومون بالدعايات
المضلة ضدهم؛ لإضعاف شأنهم وتوهين قواهم، وتثبيط عزائمهم كما يفعل
الخائنون المنافقون في فلسطين اليوم.
وما أشبه حال المنافقين اليوم حين أدلى كبيرهم بحديث لبعض الصحف
المصرية، يقول فيه: (لو كنا نعلم أن هذه الثورة تقوم ضد الإنكليز واليهود
لساهمنا فيها؛ ولكنها تقوم ضد العرب أنفسهم) . ما أشبه ذلك بحال المنافقين في
عهد رسول الله فيهم {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ
بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (آل عمران: ١٦٧) .
بل ما أشبه هؤلاء الخائنين في فلسطين إذ تخلفوا عن المؤمنين في قتالهم
وجهادهم، وقعدوا من ورائهم يعوقون الناس عن الجهاد بشتى الوسائل، ويخوفونهم
بأس العدو وقوته، ما أشبههم بأسلافهم المنافقين الأولين، الذين يقول الله فيهم حين
تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله والمؤمنين: {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ
رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي
الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: ٨١-٨٢) ، إلى أن يقول تعالى في الحكم عليهم:
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي
الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: ٨٤-٨٥) .
وكما أصدر أحد أئمة النفاق بيانًا أسماه الناس (الورقة الصفراء) لما فيه من
صفرة الخيانة، تودد فيه إلى اليهود، وتغنى بمحاسنهم، ورحب بهم أن يكونوا
أصحاب البلاد، في حين يريد المؤمنون إخراجهم منها، ومَنَّاهم بانتصار حزبه -
حزب الشيطان - لهم، وأغراهم بأن يكون عونهم ليشبع جشعه من أموالهم، فكذلك
قال أسلافه المنافقون لليهود السالفين حين عمل المؤمنون على إخراجهم من المدينة،
وكذلك وعدوهم ومنوهم، فقال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} (الحشر: ١١-١٢) .
ذلك بعض ما يقوم به في فلسطين المنافقون الخائنون، الذين يتولى زعماؤهم
بأنفسهم أكبر أعمال الخيانة لقومهم، والتجسس للعدو عليهم، والإغراء بالمجاهدين
العاملين، والدلالة على معاقلهم ومواطنهم، والإرشاد إلى أماكن أسلحتهم وذخيرتهم،
والمساعدة على قتلهم وتعذيبهم مع أولادهم ونسائهم، وهدم مساكنهم، وإتلاف
مؤنهم وأموالهم، كما صنعوا في قرى بيت فجار، وكفر مالك، وحلحول،
والمزرعة الشرقية، وبيت ريما، وغيرها من القرى والمدن العربية؛ يبتغون بذلك
العزة عند العدو، ويطلبون الرفعة لديه {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: ١٣٨-١٣٩) .
إن ما يقوم به هؤلاء المنافقون من فساد في الأرض وحرب لله ورسوله،
فليأذنوا إذن بحرب من الله والمؤمنين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ
أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: ٣٣) .
ذلك حكم الله على المنافقين المخلفين الخائنين، وذلك قوله فيهم ومن أصدق
من الله قولاً؟ ! ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون؟ !
فليحذر المؤمنون في فلسطين هؤلاء المنافقين، ولينفذوا حكم الله فيهم، من غير
أن تأخذهم بهم رأفة أو تعصمهم منهم صلة وقربى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَ تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: ٢٠-٢٢) .