للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المنار منذ عشرين سنة
رجب سنة ١٣٣٨ هـ
عاقبة حرب المدنية الأوربية
بقلم السيد محمد رشيد رضا
رحمه الله

كتبنا في أثناء هذه الحرب مقالات، بينا فيها أسبابها، وعللها، وحكمة الخالق
فيها، وفظائعها، وشرورها، والمقابلة بينها وبين الحروب الإسلامية، التي
امتازت بالرحمة وبجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، وبتحريم القسوة والفظائع
فيها، والمقابلة والمقارنة بين الدول المتحاربة في الاستعداد والمزايا، وصرحنا فيها
بأن عاقبتها ستكون انفراد إحدى الدولتين الرئيسيتين في الحلفين الكبيرين الجرماني
والإنكليزي - وهما: ألمانية، وإنكلترة - بالسيادة والعظمة في العالم، وفاقًا لقول
الفيلسوف هربرت سبنسر الشهير للأستاذ الإمام: (إن ضعف الفضيلة، وتغلب
الأفكار المادية في أوربة سيدفعان دولها إلى حرب عامة طامة؛ ليعلم أيها الأقوى
ليسود العالم) .
ومما بيناه في بعض تلك المقالات أن ألمانية أتقنت الاستعداد للحرب إتقانًا
يمكنها من محاربة أوربة كلها، وأنها فاقت جميع الدول في السلاح والنظام، وأن
أعداءها يفوقونها بالكثرة، التي تعد من أعظم أسباب الغلبة، كما قال الشاعر
العربي:
ولست بالأكثر منهم حصا ... وإنما العزة للكاثر
وقد كان من أمر هذه المكاثرة أن إنكلترة ألبت على ألمانية أكثر دول الأرض
في الشرق والغرب من العالمين القديم والجديد؛ وإنما كان ذلك بعلو كعبها على
الألمان وغيرهم في الدهاء السياسي، الذي هو أدق علوم البشر وأصعب أعمالهم
مركبًا وأوعرها مسلكًا، وقد قلت مرة لصاحب لي من الألمان المستشرقين كان
يحاورني وأحاوره في المقارنة بين قومه وبين الإنكليز وما بينهما من المناظرات:
(وإنني مقتنع بأنكم فقتم الإنكليز في جميع العلوم والفنون والأعمال حتى التجارة؛
إلا ما هو أهم من ذلك كله وأعظم، وهو السياسة، فإنني أرى أن الإنكليز يفوقونكم
فيها) . فقال: (صدقت) .
وقد ذكرتني هذه الكلمة التي قلتها منذ بضع سنين بكلمة في معناها قلتها منذ
بضع عشرة سنة في مجلس بدار أحد أصدقائنا بمصر مات من حاضريه لطيف باشا
سليم، وحسن باشا عاصم، وجرجي بك زيدان؛ وبقي صاحب الدار وأحد
الباشوات. قال صاحب الدار في ذلك المجلس إنه بلغه أن ألمانية عقدت مع روسية
محالفة سرية على إنكلترة، وسيترتب على هذه المحالفة إخراج الإنكليز من مصر،
ومن الهند أيضًا. فقلت له: لا تغتر بهذا الخبر فإن إنكلترة كانت ولا تزال تضرب
بعض الأمم ببعض، وتكون هي الرابحة، فهي - كما قال مسلم بن الوليد -
كالسيل يحذف جلمودًا بجملون.
إنني لم أصدق هذا الخبر في ذلك الوقت، ثم تبين في أثناء هذه الحرب مما
اكتشف من أسرار القيصرية الروسية أن له أصلاً، وأن مشروع المحالفة وضع ثم
عرض ما حال دون إتمامها، فإن كان هذا وقع بعد ذلك الزمن الذي أخبرنا فيه ذلك
المخبر به فمن الجائز أن تكون مقدماته ووسائله قد سبقته بسنين، والذي نقصده من
العبرة في هذه السياسة هو أن الإنكليز غلبوا ألمانية على روسية، فحالفوها على
الترك والفرس، ثم جعلوها باتفاقهم مع حليفتها فرنسة فدية لهما في هذه الحرب،
فكانت مصب نقمة ألمانية الحربية في ريعان قوتها، وعنفوان أسرتها، وكذلك
تعبث الأمم العليمة الحكيمة بالأمم الجاهلة الخرقاء، فتجعلها فدية لها كما فعل
الحلفاء بأمم أخرى، وكما فعل الألمان بالترك.
وقد كان أعجب مظاهر قدرة إنكلترة السياسة تسخير دولة الولايات المتحدة
الأمريكية لإنقاذها وإنقاذ حلفائها من جحيم الألمان العسكري بعد أن عجزت أوروبا
كلها ومن ظاهرها من أمم آسيا وإفريقية وأمريكا الجنوبية عن فل حدهم وإيقاف
طغيان مدهم، وهي الدولة التي جعلت من قواعد سياستها ترك مشاكل العالم القديم
لأهله وعدم مشاركتهم في شيء منه. رقتها إنكلترا رقيتين استخرجت بهما حيتها
من جحرها، وزحزحتها عن قاعدة سياستها، إحداهما دعوتها إلى إنقاذ حرية الأمم
والشعوب من السيطرة الألمانية التي تهدد العالم بالاستعباد، والثانية دهاء اليهود
ونفوذهم المالي في تلك البلاد؛ وقد وعدتهم إنكلترا بأن يكون جزاؤهم إعادة ملك
إسرائيل إلى مملكة سليمان في الأرض المقدسة بالرغم من أنوف العرب أصحاب
البلاد، ومن الملتين الإسلامية والنصرانية، وسكت لها على هذا الوعد أشد ذوي
التحمس الديني من البروتستنت والكاثوليك حتى الجزويت منهم.
وأما المسلمون فلم يصدهم ذلك عن مساعدتها على فتح البلاد المقدسة
بالجيوش التي جهزوها باسم شريف مكة سليل الرسول صلى الله عليه وسلم
وصاحب الحجاز بقيادة بعض أبنائه؛ فهل كان باستطاعة أحد من دول الأرض أن
يفعل مثل هذا أو يفكر في إمكانه؟ لا! ولكن الإنجليز فعلوا ما لم يكن يخطر في
بال بشر، فاستردوا هذه البلاد وما حولها من المسلمين الذين غلبوا قلب الأسد ملك
الإنجليز وسائر ملوك أوروبا في الحرب الصليبية بمساعدة الجيوش الإسلامية.
طوَّع المستر لويد جورج وزير إنجلترا الأكبر هذه الدولة بالرقيتين اللتين
ذكرتا، فجعلت ثروتها الكبيرة ومواردها الغزيرة وجنودها الكثيرة وقفًا على إنقاذ
الحلفاء من ألمانيا، بل هاجمت ألمانيا بقوة أكبر وأعظم من كل هذه القوى - قوة
الدعوة إلى الصلح المبني على اتفاق الأمم والشعوب على العدل العام والحرية
الشاملة لجميع الأنام، وإبطال ما جرت عليه الدول القوية في العصور الخالية من
المحالفات السرية على هضم حقوق الأمم المستضعفة، وغير ذلك من أصول الحق
والعدل التي ما زال الأقوياء يهدمونها بمعاول القوة، ومنها وجوب حرية البحار،
وجعل الإنجليز وغيرهم فيها سواء. قام الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات
يحارب ألمانيا بهذه القوة الأدبية المعززة لتلك القوى الحربية والمالية ففاه بتلك
الخطب الطنانة الرنانة ووضع للصلح تلك القواعد الحذابة الخلابة، ففعلت في زمر
الاشتراكيين والعمال الألمانيين فعل السحر، ولا سيما قاعدة حرية البحار في زمني
الحرب والسلم، فخرجوا على حكومتهم السياسية، وثاروا في وجه قوتهم العسكرية
وهي في أوج انتصارها، وذروة فخارها:
أمرت أسطولها بأن يهاجم الأسطول البريطاني، فاعتصب بحارته وأبوا
الامتثال، وهدد زعماء الاشتراكيين قواد الحرب باعتصاب جميع العمال، أو
يطلب عقد الصلح على قواعد الرئيس (ولسن) العادلة؛ إذ هي أفضل من نصر
عسكري يورث الأحقاد ويورث السياسة الجائرة؛ وإنما أسست جمعياتهم وتحزبت
أحزابهم لمقاومتها، وقد سنحت لهم الفرصة فقالوا لا نضيعها، ولم يقنعهم القول بأن
هذا خداع؛ لأن الأمريكيين غير متهمين بالكيد ولا بالأطماع، فاستمهلتهم الحكومة
ريثما تسحب جيوشها وكراعها وذخائرها من قلب فرنسا فأمهلوها، وكان ما كان
من أمر طلب الهدنة واشتراط الحلفاء فيها إضعاف جميع قوى الألمان الحربية في
البر والبحر والجو؛ حتى لا يستطيعوا العود؛ فمن المنتصر؟ أميركا في الظاهر
وإنجلترا في الباطن؛ بل المنتصر إنما هم رجال السياسة الإنجليزية وحدهم فهم
الذين أقنعوا الولايات المتحدة بوجوب مؤازرة القضية المشتركة، فسقطت على يدها
ألمانيا، وساعدهم على ذلك صلف الألمان وغرورهم واحتقارهم الولايات المتحدة.
وهم الذين والوا شريف مكة فكان عاملاً قويًّا لسقوط الترك، وهم المتصدرون
لإدارة دفة سياسة العالم بعد التهميد لها واقتحام ما يقوم أمام هذه الإدارة من العقبات.
ومن ذلك إقناع الولايات المتحدة باسم خدمة الإنسانية وتأييد المدنية بالإشراف
على تركيا، والنهوض بالجمهورية الأرمنية.
ويتولون هم إدارة البلاد العربية من برقة إلى العراق فعمان ما خلا سوريا
الشمالية فإن إدارتها جعلت لفرنسا تنفيذًا لمعاهدة سايكس - بيكو من جهة وحتى لا
تؤوب فرنسا بصفقة المغبون وترضى من الغنيمة بالإياب من جهة أخرى، والبلاد
الفارسية المتصلة ببلوخستان فالهند فالتبت.
الإنكليز يحتلون سورية الجنوبية (فلسطين) ، ويعملون فيها عمل الحاكم
المطلق، ويمهدون السبيل لمهاجرة الصهيونيين إليها ليكونوا حكامًا فيها تحت
حمايتهم، ويحتلون العراق، ويعملون فيه عمل المالك بلا معارض، وقد أسسوا
للسواحل الحجازية واليمنية محافظة سموها (محافظة البحر الأحمر) وأرسلوا بعثة
إلى الإمام يحيى ولكنها أسرت قبل الوصول إليه، وأرسلوا بعثه أخرى إلى السيد
الإدريسي للاتفاق معه، وعقدوا اتفاقًا مع حكومة إيران نُشر في الجرائد فشكت منه
الصحافيون ورجال السياسة، واحتجوا بأنه مخالف لعهد (عصبة الأمم) ؛ إذ كانت
المسألة السورية معلقة بأنواط تلك الوسائل المشار إليها، كما تحدث أولئك الرجال
وتلك الجرائد بالمسألة المصرية وبما للمصريين من الحق في المطالبة باستقلالهم
وحريتهم، ولم تفتر تلك الشقشقة حتى تم الاتفاق على العود إلى تنفيذ معاهدة سنة
١٩١٦.
وقد ظهر رجحان السياسة الإنكليزية على السياسة الفرنسية في البلاد التي
كانت تظن فرنسة أن سياستها فيها أرجح لما لها فيها من الصنائع والوسائل. فقد
كان طلاب المساعدة الأمريكية فالإنجليزية من أهالي البلاد أضعاف طلاب المساعدة
الفرنسية، فلم يبق لفرنسا بد من اللجأ إلى إرضاء إنجلترا والرضا منها بتنفيذ
معاهدة سنة ١٩١٦ بمقابلة تصرفها المطلق في مصر وسائر بلاد العرب والعجم.
جرى كل ما ذكر على طريقة السياسة الأوروبية المعروفة المألوفة من
تصرف الأقوياء في الضعفاء والعلماء في الجهلاء، بعد أن ذهبت جعجعة خطب
الرئيس (ولسون) في الهواء، وهو ما كنا نتوقعه من وراء هذا النصر، وتحدث
به من كلمناه في عواقب الحرب، وخاصة إخواننا العرب المغرورين من السوريين
والعراقيين، ولا غرابة في غرور أطفال أغرار في مهد السياسة والحركة العربية
الحجازية في بدء ظهورها تكبرها في أعينهم بعض الجرائد.
فإن قال قائل: إن كتاب الله قد أثبت أن العاقبة للمتقين، وقد فسر علماؤنا
التقوى بأنها عبارة عن أداء المأمورات وترك المنهيات؛ فهل كان الإنكليز - بهذا
المعنى - هم المتقون، حتى كانت عاقبة هذه الحروب لهم بنفوذ الكلمة وعلو
المنزلة والتصرف في أرض الله الواسعة؟ نقول: إن قول الله تعالى لا ريب فيه،
وإن كلام العلماء في تفسير التقوى صحيح، ولكنه مجمل؛ فمن فهم منه أن المراد
بفعل المأمورات الوضوء والصلاة والصيام ولو على غير الوجه الذي شرعه الله
تعالى، وإن ترك المنهيات خاص بترك الخمر والزنا والسرقة وما أشبه ذلك - فهو
قصير النظر، ضعيف الفهم، التقوى أعم من ذلك، وهي تختلف باختلاف ما
تطلب فيه ما بيناه في مواضع من تفسير المنار، ونبهنا أهل العصر إلى تقصير
المفسرين وغيرهم من علمائنا في بيان ما في الكتاب والسنة من الأصول الاجتماعية
ومسائل السياسة والعمران.
فالتقوى المكررة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (المائدة: ٩٣) الآية غير التقوى في معاشرة
النساء المكررة في سورة الطلاق، وغير التقوى في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة: ٩٦) ، فلكل
مقام خصوصية هي المقصود الأول من المعنى العام، والتقوى في قوله تعالى:
{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: ١٢٨)
غير ما ذكر كله. فالأولى والثانية في أحكام الطعام والصيد؛ وهما من الأحكام
الشخصية الفردية، والثالثة في أحكام الزوجية؛ وهي منزلية (أو عائلية) ،
والرابعة في شئون الأمم والعمران؛ وهي ما يعبر عنه في عرف هذا العصر
بالاجتماعية وكلامنا فيها.
والثابت عندنا أن الإنكليز أشد الأقوام عناية باتقاء الخيبة والفشل في هذه
الأمور، والألمان كذلك، إلا أن الألمان فاقوا الإنكليز بالقوى الحربية، فلم يَدَعُوا
شيئًا من أسباب اتقاء الانكسار فيها إلا وأحكموه؛ ولذلك كانت العاقبة لهم في
المعارك الحربية، ولكنهم لم يتقنوا كالإنكليز اتقاء التنازع الداخلي، فوقعت الثورة
الاشتراكية في أمتهم، وصدق عليهم قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦) ، ولم يتقنوا كالإنكليز اتقاء سخط الأمم والشعوب عليهم،
فأسخطوا الأمة الأمريكية على حين صارت أعظم الأمم ثروة، واشتدت حاجة
جميع الأمم إليها، فكان ذلك عونًا للإنكليز على تسخيرها لهم.
ولم يتقوا خروج العرب على الترك باستمالة العرب وتوثيق الرابطة بينهم
وبين الترك، وتحذيرهم من خطر انتصار الإنكليز عليهم، بل سمحوا لأوليائهم
سفهاء الأحلام من زعماء (جمعية الأحمرين) - الدم والذهب - بإرهاف العرب
والتنكيل بهم تقتيلاً وتصليبًا وتذليلاً وتغريبًا ومصادرة وتعذيبًا وهتكًا للأعراض
وإفسادًا للأخلاق، على حين كان الإنكليز يجدون في استمالة كل أمير وزعيم منهم
بما يروج عنده من ضروب الاستمالة، فمال إليهم بعض دون بعض، وكان فيمن
مال وشايعهم مشايعة فعلية أو سلبية الأمير عبد العزيز بن سعود صاحب نجد،
وبعض شيوخ عرب العراق، ووالاهم شريف مكة (الملك حسين) ، وساعدهم
على محاربة الترك بجيش مؤلف من بدو الحجاز وحضر سوريا والعراق، بقيادة
أبرع أبنائه في الغزو والقتال الأمير فيصل (ملك سوريا) ، وقد اعترفوا له ببلائه
وإخلاصه في إعانتهم على فتح القدس الشريف، وعلى إيقاع الفشل والخذلان في
جيش الترك المدافع عن سوريا حتى انهزم وتركها غنيمة باردة لهم، وصرحت
جريدة التيمس الشهيرة بأن الأمير فيصل سل حسامه في نصر الخلفاء من غير أن
يحصل على أي وعد منهم بشيء؛ ولكنه أعطى بعض الوعود بعد ما أخذ في
النجاح، وقالت إن الأمير فيصل كان يرغب في الاستقلال التام للحجاز وحده،
وأما لسائر الشعوب العربية فإنه يرغب لها في الاستقلال عن الترك فقط، وأن
تطلب كل البلاد العربية وصاية دولة واحدة عليها - وتعني دولتها إنجلترا - (ا.
هـ ملخصًا من عددها الأسبوعي، المؤرخ في ١٤ فبراير سنة ١٩١٩) .
بل كانت موالاة الشريف أكبر مما ذكر في فوائدها السلبية والمعنوية، ولا
محل لشرح ذلك هنا، ولو كان للألمان مثل دهائهم لسبقوهم إلى استمالة العرب -
وكانوا على ذلك أقدر -، وإذًا لاستطاعوا أن يجندوا منهم خمسمائة ألف أو ألف
جندي، ولا أبالغ إذا زدت على ذلك، ولا سيما إذا شملت هذه الاستمالة اليمن
وعسير، ووصلوا إلى شواطئ البحر الأحمر، وبحر العرب - ولم يكن ذلك
عليهم بعسير.
فإن قال ذلك القائل: فهمنا معني التقوى في السياسة والحرب، ومعنى كونها
من سنن الله - تعالى - في النجاح؛ ولكن خفي علينا ما بينت في تلك المقالات من
أن هذه الحرب انتقام إلهي عادل من الدول والشعوب الظالمة لنفسها والظالمة لغيرها،
الباغية على عباد الله، التي لم تشكر نعمة الله - تعالى - باستعمالها فيما يرضيه
من إقامة الحق والعدل، وإننا نرى ألوف الألوف من البشر تئن من سلطة تلك
الدول وحكمها، وإذا كانت مصيبة صادقة في شكواها لأنها مهضومة الحقوق
بضعفها، فلماذا كانت عاقبة الحرب استمرار عقاب الله لها بالاستذلال والحرمان من
الاستقلال، ورفع العقاب عن أولئك الباغين، وتحكيمهم في بلاد قوم آخرين؟
إن قال ذاك القائل هذا القول وأورد علينا هذا الإشكال، فإننا نرى أن الأمم
المستضعفة الظالمة لنفسها، المظلومة من قبول الأقوياء المسلطين عليها بما كان من
تفريطها، لم يمحصها ما حل بها ويرجعها إلى رشدها، وإن الدول الباغية الظالمة
قد ذاقت من الشدائد التي تعامل المستضعفين بها ولم تنب وترجع إلى ربها، وكذلك
شأن الدول والأمم التي غلبت بهذه الحرب على أمرها، فالعقاب الإلهي لكل أمة
ودولة لم ينته بهذه الحرب، ولا هي انتهت بما وضع من معاهدة الصلح مع بعض
المتقاتلين دون بعض.
وما ذكرنا من فوز بعضهم وعلو كلمته بما بيناه من سببه لا دليل على ثباته
ودوامه، وإذا طال العهد عليه بحثنا عما اقتضى ذلك من أسبابه وسنن الاجتماع
فيه، وإنما نرى هذا الفوز والفلاح يكاد يجر وراءه أسباب خسار وخذلان، أهمهما
خسران الإنجليز ذلك الصيت الحسن الذي غرسوا فسيله، وزرعوا بذوره،
وتعاهدوا زرعه بما ينميه عدة أجيال، حتى كانت الشعوب المتململة من سلبهم
استقلالها تفضلهم على غيرهم، والشعوب المتألمة من غيرهم تتمنى لو تتفيأ ظل
حكمهم، ولكن لا يزال في الشعب الإنجليزي ذي العرق الراسخ في مكارم الأخلاق
وبعد الرواية وطول الأناة وحب العدل والإنصاف رجال يرجى أن يرجحوا القوة
المعنوية على القوة المادية، ويراعوا الانقلاب الاجتماعي الجديد الذي فجرت هذه
الحرب قواه التي جمعت في عهد بعيد، كما تتفجر البراكين من الأرض بآخر نقطة
أو دفعة من الغازات المولدة للضغط.
فإذا قدر هؤلاء الرجال على مقاومة الأطماع الاستعمارية ووضعوا لدولتهم
سياسة جديدة تتفق مع مصالح مصر والهند والعرب والفرس وسائر الشعوب ببقائها
على مراعاة ما أشرنا إليه من الانقلاب الاجتماعي الأكبر، إذا قدر هؤلاء الفضلاء
العقلاء على ما ذكرنا، وتركوا لهذه الشعوب استقلالها في إدارة بلادها وسياستها،
وحالفوها على أن يكونوا هم المقدمون على جميع أمم المدنية في مساعدتها العلمية
والفنية التي تقرر استقلالها وتعمر بلادها، ورضوا من المكافأة على ذلك بالمنافع
الاقتصادية والأدبية التي تكون بالتراضي لا بالقوة الاحتلالية، فإنهم يؤسسون
لشعبهم السكسوني المجيد مجدًا طريفًا إلى مجده التليد، بحيث يرجى أن يكون خالدًا
لا يبلي ولا يبيد مما لم يرجع عن هذه الطريقة أو يحيد، وحينئذ تكون له العاقبة
المحمودة، ويسترجع أضعاف ما فقد من ثروته الهالكة من غير نفقات كبيرة،
كالنفقات التي لا يزال يتكبدها باحتلال البلاد المغلوبة. ويكون سببًا لإصلاح الكون
وعمران الأرض.
أكتب هذا بإملاء العقيدة الثابتة المؤيدة بالدلائل الاجتماعية الناهضة لا بباعث
الأغراض القومية، أو قصد الإبهامات السياسية، تاركًا تصديقه للزمان، وتفسيره
لحوادث الأيام وسنن الله في الأنام، لا مبدل لسنته ولا معقب لحكمه ولا راد
لمشيئته.
(المنار)
من تأمل هذا المقال رأى كيف أن التاريخ يعيد نفسه، وكيف أن ضعف
الفضيلة وتغلب الأفكار المادية في أوربا الآن سيدفعان - بل قد دفعا فعلاً - دولها
إلى حرب عامة طامة، ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم كما وقع ذلك من قبل، وكيف
أن إنجلترا كانت ولا تزال تضرب بعض الأمم ببعض وتكون هي الرابحة، وكيف
أن دهاء اليهود ونفوذهم المالي يعمل عمله دائمًا وراء الستار في كل فتنة، وكيف
أن جعجعة خطب الرئيس ولسن قد ذهبت في الهواء بعد انتصار الحلفاء وجرف
السياسة الأوربية على سنتها من الاستغلال والاستبداد، وكيف أن إنجلترا لم تأخذ
بهذه النصيحة الذهبية التي أسداها إليها صاحب المنار منذ عشرين سنة ولم يوجد
فيها بعد أولئك الرجال الذين يقاومون الأطماع الاستعمارية، ويضعون لدولتهم
سياسة جديدة أساسها العدل والإنصاف.