للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد علي بن حسين


دعوى علم الغيب
ومنابذتها لأصول الإسلام

لا ريب أنه قد جاءت آيات وأحاديث في إفراد الله - تعالى - وحده بعلم
الغيب، وهي كثيرة، ونقتصر هنا في الآيات على ما في سورة الأنعام والنمل
والجن، قال - تعالى -: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام:
٥٩) {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: ٦٥)
{عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن:
٢٦ - ٢٧) .
ومن الأحاديث حديثي ابن عمر في البخاري، وعائشة في مسلم؛ فالذي في
البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: عنده
علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا،
وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ، والذي في مسلم هو قول
عائشة - رضي الله عنها -: (ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله
الفرية) إلى أن قالت في بيان الثالثة: (ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد
أعظم على الله الفرية، والله - تعالى - يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: ٦٥)) .
وقد بسط ابن العربي في أحكام القرآن القول في هذه المسألة أول سورة الأنعام،
وحكم بكفر من ادعى علم واحدة من الثلاث المذكورة في كلام عائشة - رضي الله
عنها -، وحكى ابن الحجاج في حاشيته على (صغير ميارة) الاتفاق على كفر من
يقول إن الأنبياء يعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ونقل ابن حجر في
الإعلام بقواطع الإسلام، وابن عابدين في حاشية الدر المختار، وغيرهما من
الفقهاء في المذاهب الأربعة كفر من ادعى علم الغيب.
قال الشاطبي في الموافقات، جزء ٤ صحيفة ٨٤: (وقد تعاضدت الآيات
والأخبار، وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك
الظواهر - حسب ما مر في باب العموم من هذا الكتاب -، فإذا كان كذلك خرج من
سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء - صلوات الله عليهم - في العلم بالمغيبات.
قال بعض العلماء ويراد بعلم الأنبياء بالغيب ما كان عن طريق الوحي - كما لا
يخفي -، وقد ذكر ابن قتيبة مبتدعي علم الغيب للمخلوق مع الحكم بكفرهم،
فقال في رسالته الاختلاف في اللفظ غلت الرافضة في حب علي وفي علم الغيب
للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل التي جمعت إلى الكذب، والكفر إفراط الجهل
والغباوة) . انتهي، صحيفة ٤٧ باختصار على موضوع البحث.
قلت: وقد سرت هذه البدعة في الرافضة إلى متأخري الصوفية، وقد ظهر
شيخ جديد من الأكراد اسمه الشيخ نوري البرفكاني، أخذ يدعو الناس منذ خمسين
سنة بلسانه وبكتب ألفها إلى قواعد وأصول تتنافى مع الروايات والأحاديث،
بدعوى أنها كرامات، وسلك بذلك مسلك الغلاة من متفلسفة الصوفية؛ حيث جعلوا
دعوى علم الغيب وما هو أفظع منها من قبيل الكرامة، وجهلوا أن شرط الكرامة ألا
تصادم أساس الدين؛ ولذلك قيد النووي في بستان العارفين الكرامة بألا تؤدي إلى
رفع أصل من أصول الدين، نقله ابن علان في شرح رياض الصالحين، مجلد
٧، ص ٣٦١، وهو قول أبي إسحاق الشاطبي في الموافقات؛ حيث قال: (لا
يصح أن تراع وتعتبر - أي الكرامة - إلا بشرط ألا تصدم حكمًا شرعيًّا؛ فإن ما
يصدم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال، أو
وهم من إلقاء الشيطان) . ذكره في الجزء الثاني، ص ٢٦٦.
وقد كثرت الكتب التي تقرر هذه الدعاوى وتذيعها في الناس من مؤلفات
المحدثين والقدامى من غلاة الرافضة ومتفلسفة الصوفية، وعم خطرها، وزاد
شرها وضررها.
وقد تداولتها الأيدي أكثر من تداول صحيح البخاري، وعمل بها الكثير من
الناس في أكثر البلاد، على رغم ما فيها من الأحداث المبتدعة الهادمة للدين أصولاً
وفروعًا؛ فمحت آثار الإيمان من قلوب العاملين بها إلا قليلاً ممن صانه الله وحماه
وأبعده عنها؛ وذلك لغلبة الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسله.
فالله الله يا أمة الإسلام، ويا علماء الدين أن تدعوا هذه الكتب من غير إنكار،
وتحذير منها، وبيان لما فيها من الضلال البعيد، فضلاً عن أن تدافعوا عنها
وتروموا بقاءها مندمجة في كتب الدين الإسلامي الحقيقي، فإنكم والذي لا رب
غيره، إن تفعلوا ذلك لابد أن تستوجبوا مقت الله وغضبه، وأن تلاقوا الصغار
والهوان في هذه الدار وتلك الدار، فنحن نطالب كافة العلماء أن يقوموا بما أوجب
الله عليهم من إنكار تلك الكتب ونحوها من كل كتاب فيه مصادمة لكتاب الله في
دعوى علم الغيب لغير الله وأنبيائه، ونحو ذلك من الأمور المبتدعة التي هدموا بها
عماد الدين وقوامه.
فإذا فعلوا ذلك، ونصروا الله ودينه، واغتاروا الله ولأنبيائه مما وقع في تلك
الكتب من الإلحاد العظيم رجوا حينئذ نصر الله لهم، قال - تعالى -: {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة: ٤٠) ، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِن
تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: ٧) ، فإما أنهم يرجون النصر من غير نصر الله
والغيرة على دينه، بل بمجرد المحافظة على الوحدة والوفاق بما يوجب خذلان الله،
ومقته، وتسليطه الأعداء على المسلمين، فذلك غرور وأماني باطلة؛ لأن الله -
تعالى - قد علق نصره بنصر العباد لدينه وأكد ذلك في غير ما آية، ومعلوم أن ما
ربط الله به حصول المسببات عند تعاطي أسبابها لا يمكن تخلفها، فضلاً عن أن
يوجد عكسها، وهو أن ينصر سبحانه وتعالى من يخذل دينه؛ فإن مفهوم مخالفة
آية {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: ٧) إلا تنصروه لا ينصركم، وقد
أشار إلى هذا المفهوم منطوق آية {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} (آل عمران: ١٦٠) .
وهذه الآية تدل على أن ما عدا نصر الله لا يكون سببًا لنصره هو سبحانه
لعباده، وعلينا أن نتأمل في حالة النبي صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه وما
شجر بينه وبين قومه من الحروب والخلاف لأجل إقامة الدين وإزاحة البدع،
وكيف جعل الله عاقبة ذلك النصر المبين، ثم من بعد ذلك لما حدث هجر العمل بما
كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد لإعلاء كلمة الدين، كيف أن
المسلمين من ذلك الحين لازالوا في انحطاط ورجوع إلى الوراء؛ وما ذلك إلا لأنهم
وضعوا أسبابًا اخترعوها من قبل أنفسهم، وهي أن الوفاق وترك الجهاد وعدم إقامة
أحكام الدين واستبدالها بالقانون الوضعي، كل ذلك يوجب لهم الراحة والاتحاد
والوفاق وعدم الاضطراب، وهب أن ذلك يحصل لهم الراحة ونحوها مدة من
الزمان استدراجًا ومكرًا في حياتهم الدنيا، فأني لهم الملخص والنجاة من يوم يجعل
الولدان شيبًا.
هذا ما رأيت إبداءه لإخواني المسلمين؛ لما رأيته من كثرة تطلبهم للوحدة
والوفاق، ونفرتهم عما يوجب التفرق والشقاق ولو بإنكار أعظم المنكرات التي
يترتب على إنكارها نصر الله نصرًا عزيزًا؛ وما ذلك إلا من عدم تمسكهم بالكتاب
العزيز مشيًا منهم مع مبادئ النظر، وعدم التفاتهم إلى وعد الله عباده المؤمنين،
فإن كنت غالطا فيما أبديته نصيحة لعامة المسلمين، فالمرجو من الإخوان إرجاعي
إلى الصواب، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والسلام عليكم -
أيها المسلمون - ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي بن حسين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... العراق