للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


موقف العالم الإسلامي السياسي

انتهت حرب الكلام بين الدول الأوربية المتناحرة، وتغيرت الأوضاع الدولية
في أوروبا؛ فأخفق اتفاق إنجلترا وفرنسا مع روسيا، وحل محله ميثاق روسي
ألماني، وكانت مفاجأة غير منتظرة وأمر أدهش له العالم أن يتفق الهر هتلر - وهو
الذي بنى دعوته الأولى على مكافحة الشيوعية الروسية، وانطوى لها على أشد
حالات الخصومة والبغض - مع زعماء هذه الشيوعية التي ندد بها ونال منها؛
ولكن القوم في أوروبا لا يعرفون إلا المصلحة المادية، وسرعان ما ينسون المبادئ
والعقائد والأفكار مهما كانت سامية نبيلة، وتبع ذلك أن تشددت عزيمة ألمانيا
فأقدمت على غزو بولونيا واجتياحها بالقوة المسلحة، وردت إنجلترا وفرنسا على
ذلك بإعلان الحرب على ألمانيا، وسوق الجيوش إلى الميدان الغربي، حيث
رابطت أمام خط سيجفريد الألماني، وكانت مفاجأة أخرى أن تقدمت روسيا
بجيوشها تجتاح القسم المجاور لها من الأرض البولونية، وبذلك تم للجيوش
الألمانية والروسية أن تقضي على استقلال بولونيا، وتتوزع فيما بينها أرضها،
وتضطر حكومتها إلى الفرار حيث تألفت في باريس من جديد، ومهما كان من
حلاف بين الروس والألمان على خط الحدود فإن الأمر الواقع الآن أن بولونيا قد
قسمت مرة أخرى بين روسيا وألمانيا.
والذي نحب أن نلفت إليه أنظار الشعوب الإسلامية أن بولونيا تضم ستين ألفًا
من المسلمين، غالبيتهم في أنحاء فيلنو ونوجرديك، وقد أقاموا في بولونيا منذ
القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت الجمهورية البولندية تسمح لهم بإقامة شعائر
دينهم بتمام الحرية، فأخلصوا لها كل الإخلاص، وحاربوا في صفوفها واشترك
عدد كبير من ضباطهم - وهم معروفون بالشجاعة والإقدام شأن المسلم المجاهد -
في الحرب الأخيرة، ودافعوا كثيرًا عن المدينة المعدودة مركز الإسلام في بولندا،
وفيها يقيم المفتي الحاج الدكتور يعقوب سليمان شينكيفتش.
والآن وقد صار هذا القسم تحت حكم البلشفية الروسية، فهل تدع حكومة
السوفيات المسلمين فيه يتمتعون بشعائر دينهم وحريتهم كما كانوا في عهد الحكومة
البولونية؟ أم أنهم سيعملون على بلشفتهم ويحاربونهم في عقائدهم ويهدمون ما بقي
لهم من مساجد ومعابد، كما فعلوا بهم ذلك من قبل حين اقتسمت روسيا وألمانيا
بولندا في أواخر القرن الثامن عشر؟ من واجب الحكومات الإسلامية - وبخاصة
الحكومة التركية التي هي على صلة بالروس، والتي هي أقرب حكومات المسلمين
إلى بولندا - أن تتحرى ذلك، وأن تعمل على حماية هذه الجالية الإسلامية الشديدة
المتمسكة بدينها القديم، ولا ندري هل تصغي حكومة تركيا إلى هذا النداء، أم
تعتبره شأنًا إسلاميًّا خاصًّا يتنافى مع ما اختارته لنفسها من أن تكون حكومة (لا
دينية) ؟
كان اجتياح بولندا سببًا في تخوف دول البلقان، وفي تردد تركيا بين
المعسكرين المتخاصمين محور موسكو برلين تارة، ومحور فرنسا وإنجلترا تارة
أخرى، ووقفت إيطاليا موقف المترقب المنتظر، ولم تحدد موقفها تحديدًا صريحًا
بعد، وأخذت اليابان ترقب هي الأخرى مجرى الحوادث، وأعلنت أمريكا سخطها
على عمل ألمانيا، ولم تعترف بالحالة الواقعة في بولندا الآن، واعتبرت الحكومة
البولونية القائمة في فرنسا حكومة شرعية، واعترفت بها، وارتفعت صيحات
بوجوب الصلح ووضع الحسام والاتفاق على ما يريح العالم من عناء الحرب، ولا
ندرى ماذا ستلقاه هذه الدعوة من الإصغاء، وما سيكون لها من النجاح - وإن كان
أغلب الظن أن هذه النفوس الظمأى الداوية بالأطماع والأهواء سوف لا يرويها إلا
الدم المتفجر من البشرية الذبيحة.
ذلك هو الموقف الدولي عامة، فما موقف العالم الإسلامي خاصة؟ ! لقد قدمنا
أن العالم الإسلامي قضت عليه ظروف وأوضاع ان يرتبط بالدول التي تسمي نفسها
ديمقراطية وهي إنجلترا وفرنسا ارتباطًا وثيقًا، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها
اشتباكًا قويًّا، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه
المصالح، مقدرة للموقف تمام التقدير، منزهة عن العبث والكيد الرخيص
والاستغلال الذي لا يتفق مع الشرف الدولي والنزاهة النبيلة، وأخذت الحكومات
المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص.
ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلاً واحدًا على تقديرها لهذا
الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح
والإطراء في الخطب والمقالات التي لا تقدم ولا تؤخر، فسوريا الجنوبية (فلسطين)
لا تزال قضيتها حيث هي، لم يؤثر فيها تصريح المفتي الأكبر بالثناء على فرنسا،
ولا كتابه للحاكم البريطاني، ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا
إنجلترا من الخلف، ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية في الاتفاق مع
خصوصها أو التقرب إليهم، وكان أقل مقتضيات رد الجميل في مثل هذا الموقف
أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالاً بالإفراج عن المعتقلين، والتصريح بالعودة
للمبعدين، والعفو الشامل عن المسجونين، وإعادة النظر في سياستها بالنسبة
للحقوق العربية الواضحة.
وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه، ولم تظفر إلى الآن
من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل، بل حوكم كثير من
رجالاتها، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين.
وسوريا الوسطى (لبنان) تغير فيها نظام الحكم تغيرًا تامًّا ولو إلي حين كما
يقول المندوب الفرنسي، وأوقف دستورها، وحكمت حكمًا أجنبيًّا مباشرًا أو ما
يقرب منه.
وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع
هذا القطر الشقيق وبخاصة فرنسا التي شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع
عن حدودها أمام خط ماجينو إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائريين
والسنغاليين.
إن شعوب العالم الإسلامي قسمان، قسم تحت سلطان الحكم الأجنبي المباشر،
وهذا لا يملك أمر نفسه ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقًا خاصة، فهو تحت رحمة
الأقدار، ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته.
وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية، فمن واجبه في هذه الظروف العصبية -
حكومات وشعوبًا - أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفآجات، فلا يتورط
في خطوات وخصومات هو في غنًى عنها ولا تعود عليه بشيء، وليلتزم الحدود
التي رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع في
إعداد العدة وتقوية نفسه تقوية تنفعه في المستقبل وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد
أن تضع الحرب أوزارها، وعليه كذلك أن يكون مطمئنًا هادئًا، فإننا إن لم نستفد
من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا، والصلح خير لنا،
والحرب ليست بضارة بنا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة:
٢١٦) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا