للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


(٤) استحضار الأرواح

جاءنا من الدكتور محمد سليمان المدرس بكلية الطب ما يأتي:
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير المنار الغراء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد , فقد أكثر الناس القول في موضوع الأرواح ما بين نافٍ له ومثبت إياه،
فما القول الحق في ذلك؟ وهل الأرواح التي ستحضر هي أرواح الموتى أنفسهم؟
وهل يصدق ما يأتي على لسانها من أقوال , أفيدونا مشكورين , والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص دكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد سليمان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
الجواب
يتطلب الجواب على ما تقدم الكلام في عدة مباحث نلخصها فيما يلي:
أولاً - كيف نشأت مباحث الاستحضار في الغرب:
حدث في سنة ١٨٤٦ الميلادية في قرية هيد سفيل من ولاية نيويورك بأمريكا
أن أسرة رجل اسمه جون فوكس أزعجتها عدة طرقات كانت تحدث في البيت الذي
تسكنه، فتجرأت مدام فوكس ذات يوم وسألت ذلك الفاعل المستتر قائلة هل أنت
روح؟ واتفقت معه على أن يكون علامة الإيجاب طرقتين، وعلامة السلب طرقة
واحدة، فأجابها بطرقتين ثم مازالت تسأله، وهو يجيب بواسطة الطرق، حتى
علمت منه أنه روح ساكن كان بهذا البيت , فقام جار له، ودفنه فيه , ثم سلبه ماله ,
ولم تهتد الحكومة إليه , فأسرعت المرأة إلى إنذار البوليس والنيابة , فحضر رجالها
وأخذوا كل حيطة , وتسمعوا الطرقات على طريقة صاحبة البيت , وفهموا منها ما
فهمته , وعمدوا إلى الحفر في المكان الذي دلت عليه الروح فوجدوا جثة القتيل،
وكان من أثر ذلك اهتداؤهم إلى القاتل.
وظلت الروح بعد ذلك تزور بنتي جون فوكس هذا حتى أنستا بها , وحضرت
أرواح أخرى ادعت أنها أرواح موتى آخرون , وتحسنت طريقة التفاهم بينهما وبين
هذه الكائنات فصارت بالحروف الهجائية , وذلك بأن تقرأ إحدى الفتاتين الحروف
الهجائية فتطرق الروح عند الحرف المراد كتابته طرقة فتكتب الفتاة الأخرى ذلك
الحرف وهكذا , ثم تجمع الحروف المكتوبة وتقرأ.
وقد رجت الروح الأختين في أن تعلنا أنها على استعداد لإشهاد الناس خوارق
تثبت لهم وجود الأرواح في أكبر مكان للمحاضرات في نيويورك , فأبت البنتان
ذلك خشية سوء القالة والاتهام بالشعوذة , وأصرت الروح على ذلك؛ لأنها تريد أن
تنتهز هذه الفرصة لتثبت للناس صحة خلود النفس , وقالت إنها ما تجشمت
الاستئناس بهما إلى هذا الحد إلا لهذه الغاية , وأنذرتهما بأنها لن تعود إليهما إن بقيتا
على إصرارهما , فلم يسعهما أخيرًا إلا القبول , ولكنهما اشترطا أن يكون بدء
العمل في الصالونات الكبيرة لبعض البيوت , ثم تتدرجان من ذلك إلى قاعة
المحاضرات الكبرى , وتم ذلك فأخذت البنتان تحضران في بعض تلك الصالونات
أمام جمهور من العلماء والمفكرين فتحدث خوارق عديدة رغمًا عن كل ما يتخذ من
الاحتياطات , ثم أعلنتا التحضير في قاعة المحاضرات الكبرى , فشهد هذه
الخوارق جم غفير من الناس , وكثر التحدث بها في كل مكان.
وكان القاضي أدموندس رئيس مجلس الأعيان بأمريكا من أسرع الناس إلى
بحث هذه الخوارق , فاعتقد صحتها وكتب فيها بحثًا مستفيضًا , فحملت عليه
الجرائد حملة عنيفة , ففضل أن يستقيل ويخدم البحث على أن يبقى في وظيفته
مقيدًا بتقاليدها , وكان من أكبر العاملين على نشر هذه المباحث.
وتلاه الأستاذ (مابس) معلم علم الكيمياء بالمجمع العلمي , فانتهى أمره
بتصديقها ونشر مباحثه على رءوس الأشهاد , وحذا حذوه الأستاذ (روبيرت هير)
وأطال البحث والتنقيب , فظهر له صدق صاحبيه المتقدمين , فوضع كتابًا حافلاً
أسماه (الأبحاث التجريبية على الظواهر النفسية) , وكان من أثر هذه الكتابات أن
انتشرت الفكرة وتعدت أمريكا إلى غيرها من بلدان العالم الغربي.
ثانياً - اختلاف الآراء في صحة هذه البحوث:
كان طبيعيًّا أن تختلف آراء الناس في نتائج هذه البحوث , وأن يكون هناك
المصدقون المتشيعون والمنكرون المتشككون، وكان طبيعيًّا أن تثير هذه الناحية
حربًا كتابية وعلمية وذلك ما حدث فعلاً , وكان من المصدقين بصحة هذه البحوث
وصدق نتائجها كثير من أعلام العلم الكوني في بلدان أمريكا وأوروبا المختلفة ,
وكثير منهم كتب كتابات في غاية من القوة والدقة التحليلية، مما يدل على اقتناع تام
بما يقول , وكثير منهم ألف فيها الرسالات والكتب القيمة ولم يبالوا بما يتعرضون
له من هزء المتقدمين وسخريتهم , وكثيرًا منهم كان ملحدًا صميمًا فعاد مؤمنًا بالحياة
الروحية كل الإيمان، وهذه نماذج من كتابات هذا الفريق:
(١) العالم الكيماوي (وليم كروكس) ، وقد ألف كتابًا دعاه (مباحث على
الظواهر النفسانية) ، قال فيه: (بما أني متحقق من صحة هذه الحوادث، فمن
الجبن الأدبي أن أرفض شهادتي لها بحجة أن كتاباتي قد استهزأ بها المنتقدون
وغيرهم ممن لا يعلمون شيئًا في هذا الشأن، ولا يستطيعون بما علق بهم من
الأوهام أن يحكموا عليها بأنفسهم، أما أنا فسأسرد بغاية الصراحة ما رأيته بعيني
وحققته بالتجارب المتكررة) .
(٢) العالم الكبير (ألفرد روسل) ، وقد وضع في هذه المباحث كتابين:
أحدهما (خوارق العصر الحاضر) ، والثاني (الدفاع عن الأسبرتزم) ، وقد قال في
الأول ما نصه: (لقد كنت ملحدًا بحتًا مقتنعًا بمذهبي تمام الاقتناع، ولم يكن في
ذهني محل للتصديق بحياة روحية، ولا يوجد عامل في هذا الكون كله غير المادة
وقوتها؛ ولكني رأيت أن المشاهدات الحية لا تغالب؛ فإنها قهرتني , وأجبرتني
على اعتبارها حقائق مثبتة قبل أن أعتقد نسبتها إلى الأرواح بمدة طويلة , ثم أخذت
هذه المشاهدات مكانًا من عقلي شيئًا فشيئًا، ولم يكن ذلك بطريقة نظرية تصويرية،
ولكن بتأثير المشاهدات التي كان يتلو بعضها بعضًا على صورة لا يمكن تعليلها
بوسيلة أخرى) .
(٣) العالم الإيطالي الكبير (سيزارلومبروز) ، وقد رمى المصدقين بهذه
المباحث بالجنون، وكتب عنهم فصولاً انتقادية في مؤلفاته، ثم عاد فبحث هذه
الخوارق مع الأستاذ (كاميل فلامريون) الفرنسي، والأستاذ (شارل ريشييه)
مدير الجريدة العلمية والمدرس بجامعة الطب الباريزية، ثم انتهى به الأمر إلى أن
ألف كتابًا قال في مقدمته: (لم يكن أحد أشد مني عداء للاسبرتزم بحكم تربيتي
العلمية وميولي النفسية , وكنت أعتبر من البديهيات العلمية أن كل قوة ليست إلا
خاصة من الخواص المادية , وأن كل فكر وظيفة من الوظائف المخية، وكنت أهزأ
دائمًا من الأخولة المتكلمة؛ ولكن غرامي بإظهار الحقيقة وتجلية الحوادث المشاهدة
قد تغلب على عقيدتي العلمية) .
وكثير غير هؤلاء لا يحصيهم العد درسوا هذه المباحث وتشيعوا لها من
الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكان وغيرهم , وشايعهم على ذلك كثير من
الكتاب والأدباء وأصحاب الصحف والمجلات التي اقتنعت بفكرتهم , وتأسست
للدفاع عن هذا الرأي الصحف والمجلات الكثيرة في كل بلد من بلدان أوروبا
وأمريكا , وقد انتدبت الجمعية الملكية بإنجلترا لجنة من ثلاثين عالمًا في الفنون
المختلفة، عهد إليها بحث هذا الأمر، فعكفت على ذلك ثمانية عشر شهرًا، وعقدت
للبحث والتجربة أربعين جلسة، ورفعت تقريرًا مطولاً في مجلد ضخم ترجم إلى
أكثر اللغات، وقد جاء فيه:
(عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها في البيوت الخاصة بالأعضاء؛ لأجل نفي
كل احتمال في إعداد آلات لإحداث هذه الظواهر أو أية وسيلة من أي نوع كانت،
وقد تحاشت اللجنة أن تستخدم الوسطاء المشتغلين بهذه المهمة أو الذين يأخذون أجرًا
على عملهم هذا؛ لأن واسطتنا كان أحد أعضاء اللجنة، وهو شخص جلل الاعتبار
في الهيئة الاجتماعية ومتصف بالنزاهة التامة، وليس له غرض مادي يرمي إليه
ولا أي مصلحة في غش اللجنة. كل تجربة من التجارب التي عملناها بما أمكن
لمجموع عقولنا أن تتخيله من التحوطات عملت بصبر وثبات، وقد دبرت هذه
التجارب في أحوال كثيرة الاختلاف، واستخدمنا لها كل المهارة الممكنة لأجل
ابتكار وسائل تسمح لنا بتحقيق مشاهداتنا وإبعاد كل احتمال لغش أو توهم.
وقد اكتفت اللجنة في تقريرها بذكر المشاهدات التي كانت مدركة بالحواس
وحقيقتها مستندة إلى الدليل القاطع، وقد بدأ نحو أربعة أخماس اللجنة تجاربهم وهم
في أشد درجات الإنكار لصحة هذه الظواهر، وكانوا مقتنعين أشد اقتناع بأنها كانت
إما نتيجة التدليس أو التوهم، أو أنها تحدث بحركة غير اعتيادية للعضلات، ولم
يتنازل هؤلاء الأعضاء المنكرون أشد الإنكار عن فروضهم هذه إلا بعد ظهور
المشاهدات بوضوح لا تمكن مقاومته في شروط تنفي كل فرض من الفروض
السابقة، وبعد تجارب وامتحانات مدققة مكررة، فاقتنعوا رغمًا منهم بأن هذه
المشاهدات التي حدثت في خلال هذا البحث الطويل هي مشاهدات حقة لا غبار
عليها) .
ولقد سرى أثر هذه المباحث الغريبة إلى مصر، فتناولها كثير من الكتاب
المعتنين بهذه الناحية بالبحث والكتابة والتجربة، وفي مقدمة هؤلاء الكاتب الأستاذ
محمد فريد وجدي، الذي تحمس للفكرة أشد التحمس، ولا زالت كتبه أهم المراجع
العربية للباحثين في هذا الشأن فيما نعلم، ومنهم كذلك الشيخ طنطاوى جوهري -
رحمه الله -، والأستاذ أحمد فهمي أبو الخير، الذي مازال يوالي تجاربه الروحية
بحماسة شديدة.
ولقد كتب الأستاذ محمد فريد وجدي منذ شهر تقريبًا في جريدة الأهرام اليومية
يسوق إلى القراء نبأ عناية جامعة كمبردج بهذه المباحث، واعتبارها علمًا رسميًّا
مقررًا يدرس في الجامعة، وإنشاء قسم خاص بهذه المباحث يتقدم إليه من يشاء من
الطلاب إلى شهر مايو من هذا العام ١٩٤٠ الميلادية.
وإلى جانب هذا الفريق المتحمس قام فريق ينكر صحة هذه الظواهر ويحملها
على خداع الوسطاء، أو تدليس المجرمين، أو انخداع المشاهدين، أو غلبة
الوهم والخيال، وقد نقل المقتطف في بعض مجلداته كلامًا في هذا عن بعض
العلماء الأوربيين الكونيين كذلك، ومن هؤلاء:
(١) الدكتور مرسير من أطباء الأمراض العقلية بمستشفى تشريح كروس
ببلاد الإنكليز، وقد ألف كتابًا في الرد على السير أوليفرلودج فيما ذكره عن
المباحث النفسية، وقال إن الاشتغال بهذه المباحث يؤدي إلى اختلال العقل،
ويعرض أصحابه للجنون.
(٢) والدكتور (روبرتصن) مدير المستشفي الملكي بأدنبرج، الذي رمى
المشتغلين بهذه المباحث بأن فيهم ضعفًا خلقيًّا في الإرادة يجعلهم مستعدين للتصديق
بالاسبرتزم ومناجاة الأرواح وما كان هذا القبيل.
ولكن المتتبع لهذه الحركة العلمية وخصوصًا بعد مضي هذا الزمن الطويل
عليها وهي لا تزال تضم إلى جانبها كثيرًا من أساطين رجال العلم المادي حتى
انتهى الأمر باعتبارها علمًا رسميًّا يدرس في جامعة محترمة كجامعة كمبردج، لا
يسعه إلا أن يصدق بكثير من نتائج هذه البحوث، ويؤمن بوجود قوى روحية تظهر
حقيقة للذين يزاولون هذه التجارب ويتعرفون عليها، وليس هناك من حرج عقلي
أو ديني على المسلم أن يؤمن بوجود هذه القوة الروحية وظهورها للناس وتخاطبها
معهم؛ فإن هذا الكون لا زال مملوءًا بالأسرار المادية والروحية التي لم يصل العقل
الإنساني بعد إلى معرفة كنهها وحقيقة أمرها، وهذه الكشوف التي وصلنا إليها من
أعجب العجائب التي لو ذكرت للناس من قبل لخيل إليهم أنها فوق المستحيل، وقد
أصبحت الآن فيما بينهم أمورًا عادية صرفة.
ولكن الذي يحتاج إلى إمعان النظر حقًّا هو الحكم على شخصية هذه القوى
التي تدعى أنها أرواح الموتى، أهي حقًّا أرواح الموتى، أم هي قوى روحية
أخرى تنتحل هذه الصفات؟ هذا هو الأمر الذي يعنينا نحن المسلمين أن نتعرف
خلاصة القول فيه، وهو ما سنتناوله بإيجاز.
(٢) شخصية الأرواح:
يذهب معظم الباحثين في هذه النواحي النفسية والمؤمنين بها إلى أن هذه
القوى الروحية التي تخاطبهم هي بنفسها أرواح الموتى، ويستدلون لذلك بأمور منها:
(١) تكلم الروح بلغة المتوفى، واستخدامها عبارته المألوفة، وتذكير أهله
بحوادث قديمة كانوا نسوها لبعد العهد بها ولا يدرِ بها أحد سواهم.
(٢) دلالتها على أوراق ومستندات ضائعة وضعها المتوفى في تلك الأماكن
قبل موته بدون إطلاع أحد عليها.
(٣) كتابتها بخطه والتوقيع بتوقيعه والتعبير بأسلوبه حتى ولو كان كبار
الكاتبين، بحيث عرض ذلك على الخبيرين في الخطوط فحكموا بتشابه الخطين
والإنشاءين.
(٤) ظهورها متجسدة على صورته التي كان بها على الأرض، وتكلمها
بصوته ولهجته.
(٥) إجماعها في كافة بقاع الأرض على التأكيد بأنها أرواح الموتى، وأنها
ليست من الملائكة ولا من الجن ولا هي أرواح أخرى ذات طبيعة مجهولة.
(٦) حبها لأهلها وتوصيتها الحضور بهم وتكليفهم البحث عنهم ومساعدتهم.
ومع هذه الأدلة فإن كثيرًا من المؤمنين باستحضار الأرواح يرى أنها لم تصل
بعد إلى حد اليقين، وليست ملزمة أو محدودة لشخصية الروح وإن كانت ترجح
ذلك.
أما نحن فننظر إلى هذه المسألة على ضوء التعاليم الإسلامية الروحية، وذلك
يدعونا إلى أن نلخص موقف الإسلام من عالم الأرواح.

موقف الإسلام من الروح:
نستطيع أن نوجز الكلام في هذا البحث الخطير في عدة نقط:
(١) الروح مجهولة حقيقتها؛ فهي من أمر الله ولم يتعرض القرآن ولا
السنة لبيان هذه الحقيقة.
(٢) الروح هي أصل الحياة والتفكير والإدراك في الإنسان، وانفصالها
عن هذا الجسد هو الموت.
(٣) الروح بعد الموت (في مستقر يعلمه الله - تبارك وتعالى -، وهي
في مستقرها هذا إما منعمة إن كانت ممن عمل الصالحات في حياته الدنيا، وإما
معذبة إن كانت ممن ارتكب المعاصي والآثام أو لم يعرض بالرسل والأنبياء -
صلوات الله وسلامه عليهم - بعد بعثهم.
(٤) يجوز أن تتصل الروح وهي في مستقرها هذا بالأحياء أهل هذا الكون
اتصالاً جزئيًّا؛ فهي تعلم كثيرًا من شئونهم، ويزيدها سرورًا في حياتها البرزخية
هذه أن تعلم من أهلها خيرًا، ويؤلمها أن تعلم عنهم غير ذلك، كما أنها ترد السلام
على من سلم عليها إن كانت من أهل النعيم والصلاح، كما أنها قد تراءى لهم في
بعض الرؤى والحالات، وقد ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة النبوية.
(٥) إن الروح هي في العالم البرزخى، وبعد أن تجردت من ظلمات هذا
الجسد لا سلطان لأحد عليها إلا الله، وهي لا تخبر بغير الحق، ولا تقول إلا
الصدق، ولخروجها عن قوانين هذه الحياة الأرضية وبُعدها عما فيها من آثام، ولا
أعلم أنه ورد في ذلك نص صريح من كتاب أو سنة، بل هو مقتضى الخروج من
هذه الدار إلى تلك الدار.
(٦) إن كثيرًا من القوى الروحية (أعني الخفية) الأولى تتصل بهذه
الروح في هذه الحياة الدنيا، وقد تسلط عليها بالوسوسة والإيحاء، وقد تشكل بها
بعد هذا الانتقال إلى حياة البرزخ، وقد ورد شيء من هذا في الأحاديث الصحاح.
هذا مجمل ما يمكن أن يقال في نظرة الإسلام إلى عالم الروح.
فإذا نظرنا على ضوئه إلى شخصية القوى التي تظهر في الاستحضار وعرفنا
أن هذه القوى تخبر بأنها في نعيم وقد يكون أصحابها معروفين بالكفر أو الآثام في
الدنيا وهي مع هذا تسوق كثيرًا من الآراء التي تناقض تعاليم الأديان، رجحنا أن
تكون هذه القوى الروحية عوالم أخرى من عوالم الكون غير المادي تقدر على
التشكيل بما تشاء من الصور، وتتصل بالإنسان في حال الحياة فتعلم كثيرًا من
شئونه وما يحيط به، ثم تخبر بذلك حين الاستحضار وليست هي أرواح الموتى
حقيقة، وإلى هذا القول تطمئن النفس.
وبذلك نجمع بين التسليم بوجود عالم وراء عالم المادة وهو ما ينهدم بوجوده
مذهب الماديين من أساسه، ونخلص من الحرج الاعتقادي الذي نقع فيه إذا سلمنا
بأنها أرواح الموتى، وحقائق الأمور عند الله.
(وبعد) : فلا شك أن هذا البحث من أدق البحوث وأولاها بالعناية وطول
التفكير، وقد اشتجرت فيه الأقلام جيلين من الزمان إلى الآن، ومن واجب العلماء
في الأمم الإسلامية أن يسابقوا علماء الغرب في هذا المضمار، وأن يكثروا من
التجارب الدقيقة لمعرفة حقيقة هذه الأمور بأنفسهم؛ إنهم حراس أضخم ميراث
روحي عرفته الإنسانية، وهم أولى الناس بتعرف حقائق هذه البحوث، والله يتولى
الحق وهو يهدي السبيل.