للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كرامات الأولياء
يعلم الناظرون في تاريخ الأممِِ المختلفةِ الأديانِ والنِحَلِ أن كل أمة منها تدَّعِي
وقوع خوارق العادات وأنواع الكرامات على أيدي رجال الدين ورؤسائها الروحيين
وتنقل من ذلك في كتبها ما يتوهم الناظر فيها أنه بلغ مبلغ التواتر المعنوي على
الأقل، وأن أولئك الرؤساء يتخذون هذا الاعتقاد من الأمة ذريعة للتصرف في
إرادتها، ووسيلة للسيطرة عليها، بل لرفع أنفسهم إلى مرتبة الربوبية، وادعاء قوة
غيبية مفاضة عليهم من الحضرة الإلهية، يتصرفون بها في العوالم الكونية، وقد
كتبنا في العدد العاشر من هذه السنة مقالة في مسألة (التصرف في الكون) بَيَّنَّا فيها
أنه لا قوة غيبية وراء الأسباب الظاهرية إلا لله تعالى وحده، وحيث كنا لا ننكر أن
الله تعالى قد يهب لبعض أوليائه من الكرامة ما يهب لغيرهم، وَعَدْنَا في تلك المقالة
بأن نكتب مقالة مخصوصة في كرامات الأولياء، وقد آن لنا أن ننجز وعدنا.
والنظر في هذه المسألة من وجوه: حقيقتها والحكمة فيها، حجج القائلين
بجوازها ووقوعها، حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها
ومضرته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات. وقد فَصَّلنَا جميع ذلك في خاتمة
كتابنا (الحكمة الشرعية) وافتتحنا الكلام هناك بمقدمة في نواميس الكون وإثبات
الألوهية، والكلام في النبوات والمعجزات فالكرامات، وإننا نثبت ههنا معظم تلك
المقدمة لتكون أساسًا لبقية المسائل، وهي:
] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [[١]
جرت سنة الله تعالى كما اقتضته حكمته في هذه النشأة الأولى والحياة الدنيا
بأن يكون جميع ما يحدث فيها من الذوات والأعيان الحيوانية والنباتية والجمادية،
وما يطرأ عليها ويعتورها من الأحوال المختلفة، ويتناوبها من الشؤون المتبائنة،
وما بين أرضنا هذه وسائر كواكب النظام الشمسي من الارتباط - كل ذلك جارٍ على
نواميس لا اختلاف فيها، وسنن ثابتة لا يعتريها تبديل ولا تحويل، فهذه الحجارة
ونحوها من الأجرام التي تزيد على الهواء بالثقل النوعي تسقط إلى جهة الأرض،
والدخان، وجميع الأبخرة التي هي أخف من الهواء ترتفع إلى جهة العلو
حتى إذا ما تكاثفت وزاد ثقلها على ثقل الهواء في طبقة من طبقات الجو، وقفت
عن التعالي والارتفاع، وربما تكاثف ما فيها من الماء المتبخر بسبب البرودة؛
فعاد كما كان سائلاً أو جامدًا، وهبط لثقله إلى الأرض، ثم تخلل في الأتربة، وفي
هذه الحالة يدلي إليه النجم والشجر خراطيم جذوره، فيمتص منه ما يحتاجه لحياته
النباتية، وقد يتخلل الأرض ويسري فيها، فيعترض سيره صخور ونحوها،
فيجتمع إليها، ويزداد عليه الضغط من الجهة التي جرى منها حتى يندفع إلى سطح
الأرض ويتفجر، فيكون ينبوعًا يرد الحيوان الناطق والأعجم فيعل منه وينهل، وللناس في الماء منافع أخرى حاجية وكمالية، وناهيك ببخاره الذي هو روح العمران
في هذا الزمان، ولولا أن ذلك كله جارٍ على قوانين ثابتة وسنن مطَّردة لما تيسر
الانتفاع به للناس.
وهذا النبات الذي يسقى بماء واحد، وثبتت أصوله في تربة واحدة، وسبحت
أفنانه وشعابه في هواء واحد - حصل فيه التباين والتخالف في أشكال ثمراته وألوانها
وطعومها وروائحها وخواصها، فكان أنواعًا متمايزة، وأزواجًا متعددة،
ومع ذلك لا يحمل نوع منها ثمرة نوع آخر، ولا يزاحمه في خاصيته التي أودعت
فيه، وإلا لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولضل سعيهم بعدم حصول المرء على
مطلبه، أو إصابته غير غرضه، وربما أفضى بهم اختلال هذا النظام إلى
التلف، وألقاهم في مهاوي الهلكة، فإن بعض النبات مغذٍّ يقتات منه الإنسان،
وبعضها سام تهلك به الأبدان، فلو أن خواص العقاقير تنتقل أحيانًا إلى الفاكهة
وبالعكس، لوقع المحذور الذي أشرنا إليه.
وهذه الحيوانات العجم من نَعم وطير، ووحش وسمك وهوام؛ فإن كيفيات
معيشتها وتوالدها وحفظ ذريتها، وأشكال أعضائها، وبنيتها الموافقة للقيام بأود
حياتها، ككون الطير ذا منقار يلتقط به الحبوب، ونحو الصقر والشاهين ذا منسر
ومخلب يمزق بهما اللحم ليطعمه، وكون الطويل الأرجل منها طويل العنق على
نسبة طول رجليه؛ ليسهل عليه تناول الغذاء حيث لم يكن مما يتناوله بالأيدي،
وكون الضعيف منها أقدر على العَدْو والطيران، أو الحيلة والروغان من القوي الذي
من شأنه اقتناصه وافتراسه؛ ليكون استيلاؤه عليه من تقصيره لا من طبيعته ونقص
خلقته، وكونها تنفر مما يضرها بالطبع والإلهام إلى غير ذلك من الحكم التي لا
تحصى، كل ذلك جاء على نظام بديع وسنن مطردة، وبه تيسر للإنسان انتفاعه بما
يمكن الانتفاع به، واحترازه مما يخشى ضرره.
وهذا الإنسان في جميع أطواره وأدواره؛ من بداوة وحضارة، وشظف
ورفاهة، وعلم وجهل، وقوة وضعف، وعزة وسلطان، وذلة وامتهان، وسائر
أنواع السعادة والشقاء التي تتناوبه مجتمعًا ومنفردًا، كل ذلك منطبق على السنن
الإلهية والنواميس الكونية، فالأعمال - نافعها وضارها - تابعة لمعارف العاملين
وما انطبع في نفوسهم من العقائد والأخلاق، وما تربوا عليه من العادات، ولولا
أن لترقى الإنسان وتدليه سننًًا ثابتة وقوانين طبيعية مطردة، لما انتظم لهذا النوع
حال، ولما طمع ببلوغ مراتب الكمال.
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وهداه النجدين، فكان بفطرته مستعدًّا لتعرف
سنن الخليقة، واستخراج النواميس من سير الطبيعة، ولكنه ظل غافلاً عن هذه
السنن، ومنصرفًا عن استنباطها من جزئياتها إلا ما يبدو للنظر ويسبق إلى الفكر
حتى منحه الله تعالى بفضله الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة بمقتضى قوله
تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: ٣٠) فاسْتَلْفَتَهُ القرآن إلى هذه السنن، وبين له أنها لن تتبدل ولن تتحول،
فالتفت هذا النوع بذلك إلى الخليقة، وصار يتعرف نواميسها رويدًا رويدًا بمقتضى
ناموس التدرج في الاتقاء، وقد شرح حكماء العلماء ما وصل إليه علمهم من تلك
النواميس والقوانين التي طبع الله عليها هذا العالم، وفصَّلوا ما عرفوه من سننه فيها،
وجعلوا ذلك فنونًا كثيرة كتبوا فيها الأسفار، ودونوا فيها الدواوين، ووضعوا لها
الاصطلاحات كما هو شأنهم في سائر فنون العلم، ولا ينفكون في كل عصر من
الأعصار التي استحكمت فيها الحضارة ينقبون عنها ويبحثون فيها ابتغاء الزيادة،
وحرصًا على كمال الاستفادة، وما كان أجدر هؤلاء الواقفين على أسرار الطبيعة
(وأعني بالطبيعة النظام الذي أنشأ الله الكون وطبعه عليه) أن يكونوا من أقوى الناس
إيمانا بالله الحكيم القدير الذي أحسن هذا الإبداع وأتقن هذا الاختراع و {أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: ٥٠) لكن قد ذهل الكثيرون منهم بإتقان الصنعة عن
وجود الصانع وعظمته، والمتأخرون الذين وصلوا إلى ما لم يصل إليه من كان
قبلهم، وعرفوا من سنن الاجتماع الإنساني ما لم يكن يعرفه الناس قبل هذا العصر
الذي مبدؤه ظهور الإسلام - قد غفلوا عن القرآن الذي كان منشأ استلفات الإنسان
إلى هذا النوع من العرفان، لا سيما وقد بَعُد العهد وطال الزمان، وأعرض المنتسبون
للقرآن عن فنون الطبيعة وعلم العمران.
اشتغلوا - كما - قلنا بالصنعة عن الصانع وغرَّهم شيطان الوهم الخادع بأن
هذه النواميس هي الفاعلة والمدبرة لهذه الأكوان مع أنهم ما علموا إلا أقل القليل منها
{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:٨٥) وعَلَّلوا الكثير من ذلك القليل بعلل لا
يقبلها العقل، وقد صرح بعضهم أن النواميس ليست عللاً وأسبابًا للترتيب
والنظام الطبيعي، وأنّى يحكم العقل بأن ثبوت كل جرم من الأجرام الفلكية، وحفظ
النسبة بينه وبين الكواكب الأخرى إنما هو بِعِلَّة شيء مجهول أو معدوم، وهو الذي
سموه الجاذبية العامة، وأين هذه الجاذبية؟ وما حقيقتها؟ وما الدليل عليها؟ نعم
إذا قالوا: إنا وجدنا الأمر هكذا، فوضعنا له هذا الاسم، فإننا نسلم لهم إذ لا
مشاحة في الاصطلاح، ثم إننا نقيم الدليل من ذلك على أن له صانعًا حكيمًا،
وكذلك يقال في جاذبية النقل، وجاذبية الملاصقة والالتصاق وغيرها.
وأكثر الناس قد أرشدتهم الفطرة أو هداهم النظر إلى أنه لابد لهذا الكون المحكم
الصنع، البديع الإتقان من فاعل مدبر له، ثم أخطأوا في تعيينه لما عنَّ لهم من
الشبه في ذلك، فبعضهم زعم أنه الشمس أو كوكب آخر، وتخيل بعضهم أن صانع
العالم هو جوهر النار (وإذا التفتنا إلى قول المحققين: إن النار عرض يكون إله
العالم عند هؤلاء عرضًا تابعًا في وجوده لغيره) وبعضهم أسند الألوهية إلى بعض
الحيوانات، ومنهم من ارتقى به هذا الوهم، فأضافها إلى بعض البشر، إلى غير
ذلك من النِحَل التي لا تحصى، وشبهة الذين أشرنا إليهم هي ما شاهدوه من
المظاهر العجيبة التي أظهر الله تعالى بها الشمس والنار، أو قوة الحرارة وما خص
به بعض الحيوان من المنافع أو المضار، وما ظهر على أيدي بعض البشر من
الخوارق والعجائب التي لم تُعْهَد من أمثالهم، قالوا: ولولا أن سر الألوهية في هذه
الأشياء لما وجدت فيها تلك الخصائص أو المنافع دون غيرها، والحاصل أن البشر
يشعرون بفطرتهم أن للعالم إلهًا ومدبرًا به قامت الأكوان [٢] ، ولما كان غيبًا مطلقًا
لم تهتد نفوسهم إلى التوجه إليه وعبادته وتعظيمه إلا بتقييده لما يعرفون، فكان من
أمرهم ما كان.
فتبين بهذا أن العقل البشري لا يستقل بما يجب من المعرفة الحقيقية لله تعالى،
وما ينبغي أن يقوم له به العبد من العبادة والشكر في مقابلة نِعَمه التي لا تُحصى،
ولذلك تفضل سبحانه وتعالى على الخلق فأرسل إليهم رُسلاً من أنفسهم جعلهم سفراء
بينهم وبينه في بيان ما يرضيه من الناس أن يكونوا عليه، وأيدهم بما يدل على
صدقهم من خرق بعض تلك النواميس على أيديهم، ووقوع بعض الأمور على
خلاف ما تقضيه السنن المطردة التي لم يعهد فيها خرق وانتقاض، أو فعل شيء لم
يعهد في العالم، ولا دخل فيه للبشر بصناعة ولا كسب، بحيث يجزم العقل بأنه لا
يقدر على ذلك إلا الذي سَنَّ تلك السنن ووضع تلك النواميس وأبدع جميع الأشياء
بقدرته الباهرة، فهدى الله تعالى بهم من شاء من الخلق فعرفوه بما يجب أن يُعرف
به، وعبدوه بما يجب أن يعبد به، وقد مضت سنة الأولين بأن المؤمنين بالأنبياء
يكونون في زمنهم بغاية الطاعة والخضوع وكمال الانقياد للشرائع والاتباع للهدى،
وأنه كلما طال الأمد على البعثة، وبعُد العهد بالأنبياء تقسو القلوب، ويميل الناس عن
الحق، ويؤولون تعاليم أنبيائهم بحيث تنطبق على أهوائهم، ومنهم من حَرَّفوا حتى في
اللفظ، ومن نسوا حظًّا مما ذكروا به، فكان لذلك من رحمة الله تعالى بعباده أنه كلما
طال الزمن من بعد رسول يبعث إليهم رسولاً آخر حتى ختم الله النبيين بالسيد
الأعظم، والسند الأقوى والأعصم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم،
وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم أجمعين، وكان مما أنذر به أمته في كتابه
العزيز قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ١٦) ولكن لا تبديل لسنة الله؛ فإنه كلما طال
الأمد وبَعُد الزمان تقسو القلوب، ويفسق الكثير عن أمر ربهم.
من مقتضى ختم النبوة أن تكون شريعة الخاتم عليه السلام باقية إلى آخر
الزمان، وأن تكون الآية الدالة عليها باقية ببقائها، ولذلك كانت المعجزة العظمى
للنبي صلى الله عليه وسلم محفوظة من التحريف والتبديل، وهي القرآن الكريم
الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) وحيث قد جعلوا كرامات الأولياء تابعة للمعجزة، دالة على صدق
نبوة من ينتسب الولي إلى دينه، ويعرف بكمال الاتباع له، كان وجودها بمعنى
وجود المعجزة يجذب بالقلوب إلى مرضاة الله تعالى، والاعتصام بالدين، قال
البوصيري:
والكرامات منهم معجزات ... حازها من نوالك الأولياء
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي بعد أن ذكر أن الكرامة تحصل بكمال الاتباع:
(والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن
لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي على يدي وارثه ومتبعه في سائر
حركاته وسكناته) ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: إن كرامات الأولياء من تتمة
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تشهد بالصدق المستلزم لكمال دينه،
المستلزم لحقيقته، المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة، وكانت الكرامة
من جملة المعجزات بهذا الاعتبار. اهـ
وقال العلامة تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:
(اعلم أن كل كرامة ظهرت على يد صحابي أو ولي، أو تظهر إلى يوم القيامة،
فإنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن صاحبها نالها بالاقتداء به، وهو
معترف له بأنه سيد البشر الذي من بحره تستخرج الدرر) اهـ
هذا ما جاء في كتابنا (الحكمة الشرعية) في معنى المعجزة والكرامة،
والحكمة فيهما، وسنذكر بقية المباحث في الأجزاء التالية، إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))