للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


المرأة المسلمة

كتب إليَّ كاتب فاضل يطلب أن أكتب عن المرأة وموقفها من الرجل،
وموقف الرجل منها، ورأي الإسلام في ذلك، وحث الناس على التمسك به
والنزول على حكمه.
لست أجهل أهمية الكتابة في موضوع كهذا، ولا أهمية انتظام شأن المرأة في
الأمة، فالمرأة نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير؛
لأنه المدرسة الأولى التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي
يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة، وهي بعد ذلك المؤثر
الأول في حياة الشباب والرجال على السواء.
لست أجهل كل هذا، ولم يهمله الإسلام الحنيف وهو الذي جاء نورًا وهدى
للناس، ينظم لهم كل شئون الحياة على أدق النظم وأفضل القواعد والنواميس،
أجل لم يهمل الإسلام كل هذا، ولم يدع الناس يهيمون فيه في كل واد، بل بيَّن لهم
الأمر بيانًا لا يدع زيادة لمستزيد.
وليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل وعلاقتهما
وواجب كل منهما نحو الآخر، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس؛ ولكن المهم
أن نسأل أنفسنا، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟
الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية
من حب التقليد الأوربي والانغماس فيه إلى الأذقان.
ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون
أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم
الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالاً سيئًا يخرجها عن
صورتها الإسلامية إخراجًا كاملاً، ويجعلها نظمًا أخرى لا تتصل به بحال من
الأحوال، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي وكثيرًا من النصوص التي
لا تتفق مع أهوائهم.
هذا خطر مضاعف في الحقيقة، فهم لم يكفهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون
المخارج القانونية لهذه المخالفة، ويصبغوها بصبغة الحِلّ والجواز، حتى لا يتوبوا
منها ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام.
فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى، وأن نعد
أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله - تعالى - ونواهيه، وبخاصة في هذا الأمر الذي
يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة.
وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكر الناس بما عرفوا وبما يجب أن يعرفوا
من أحكام الإسلام في هذه الناحية.
أولاً: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات،
وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها،
واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته، هي منه وهو منها: {بَعْضُكُم مِّنْ
بَعْضٍ} (آل عمران: ١٩٥) وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية
كاملة، وبحقوقها المدنية كاملة كذلك، وبحقوقها السياسية كاملة أيضًا، وعاملها
على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب، يُشكر إذا أدى واجباته،
ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا
المعنى وتوضحه.
ثانيًا: التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة
التي لا مناص منها بين الرجل والمرآة، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل
منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما.
وقد يقال: إن الإسلام فرق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال
ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن
يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئًا في ناحية فإنه قد عوضها خيرًا منه في
ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر،
وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي
كتكوين الرجل سواء بسواء؟ وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن
الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به
الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؟
أعتقد أن الكونين مختلفين، وأن المهمتين مختلفتين كذلك، وأن هذا الاختلاف
لابد أن يستتبع اختلافًا في نظم الحياة المتصلة بكل منهما، وهذا هو سر ما جاء في
الإسلام من فوارق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.
ثالثًا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة
بينهما، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها هي التعاون على حفظ النوع
واحتمال متاعب الحياة.
وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكاه، وصرفه عن المعنى
الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي يعظم غايته ويوضح المقصود منه،
ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام، ولنسمع قول الله-
تبارك وتعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) .
وعلى ضوء هذه الأصول الثابتة ننظر إلى ما وضع الإسلام من نظم وطرائق.
... ... ... حسن البنا
((يتبع بمقال تالٍ))