للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

عرضنا لهذا الموضوع في الجزء الخامس من هذا المجلد بعد ثبوت هذه
الحرب الطاحنة بشهور قلائل، وقد جرت الحوادث مسرعة، وتطورت الأمور
تطورًا عظيمًا، فقد فاجأت ألمانيا الدول المتحالفة باحتلال الدانيمرك، ثم بغزو
النرويج وهولندا ولوكمسبرج وبلجيكا، والاستيلاء عليها بعد مقاومات لم تستغرق
طويلاً من الوقت، ثم وجهت بعد ذلك قوتها إلى فرنسا، فهزمتها في أسابيع قليلة،
واحتلت باريس مع قسم عظيم من الأراضي الفرنسية، واستقرت الحكومة الفرنسية
في فيشى بعد سقوط باريس، وعقدت هدنة بين فرنسا وألمانيا، تخلت بها فرنسا
عن حليفتها إنجلترا تخليًّا تامًّا.
ومن عجائب القدر أن توقع شروط هذه الهدنة في نفس غابة دكا بيبان التي
وقعت فيها شروط الهدنة السابقة بين الألمان المنهزمين والحلفاء المنتصرين، وأن
يكون ذلك في عربة القطار ذاتها التي وقِّعت فيها شروط الهدنة السابقة، ولقد بين
الماريشال بيتان رئيس الحكومة الفرنسية والقائد العام لجيوش فرنسا حينذاك عن
أسباب انهيار فرنسا بكلمات قلائل، ولكنها عظيمة المرمى حقًّا، فقال: (لقد دمرت
روح اللهو والملذّات ما شيدته روح التضحية) ثم خاطب الفرنسيين فقال: (أدعوكم
إلى أن تهتموا بأخلاقكم قبل كل شيء) وكذلك يريهم الله آياته في الآفاق وفي أنفسهم
حتى يتبين لهم أنه الحق، وكذلك يصدق قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي
كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام
: ١٢٣) .
وبهذا التحول في شئون السياسة العالمية سقطت ثلاث دول من دول الاستعمار
الكبرى وهي: فرنسا وبلجيكا وهولندا، إن فرنسا تبسط سلطانها على الهند الصينية
وعلى سورية وعلى المغرب بأقسامه: تونس والجزائر ومراكش، وعلى المستعمرات
الإفريقية الأخرى، ومعظم سكانها من المسلمين، وبانهزامها يكون لهذه الأمم الحق في
تقرير مصيرها، ويكون من واجبها أن تعمل لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي كله
أن يساعدها على التحرير وعلى أن تنال حقوقها التي طال عليها الأمد، وأن هولندا
تحكم أكثر من سبعين مليون من المسلمين في أندونسيا وما يجاورها، ومن حق هؤلاء
- وقد أصبحت هولندا نفسها محتلة - أن يتحرروا وأن ينالوا حقوقهم، ومن واجبهم
أن يعملوا لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي أن يعينهم على العمل، ولقد أخذت
اليابان تتطلع إلى هذه الأجزاء من الممالك الإسلامية في آسيا، وأخذت ألمانيا وإيطاليا
تمهدان للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من ذلك في سورية، وفي المغرب
الأقصى، وتطلعت أسبانيا من جانبها إلى اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من جسم المغرب
الذي اغتصبته فرنسا لتحل محلها فيه.
هذه أماني باطلة، وهذا ظلم لا بد أن تكون له عاقبه، فعلى هذه الدول أن تفكر
في أساس جديد حقًّا يصلح لإقامة سلام إنساني، ولن يكون هذا إلا بالعدل والإنصاف،
ومنح الشعوب حريتها واستقلالها ومعاملتها بروح التعاون على خير الإنسانية كلها،
ومن واجبنا نحن المسلمين أن نعمل لذلك ما استطعنا.
ثم دخلت إيطاليا ميدان القتال وقد قاربت فرنسا الهزيمة وإيطاليا تجاور مصر
قلب العالم الإسلامي في إفريقية، وبذلك وقع الالتحام بين القوات الإيطالية
والإنجليزية على الحدود المصرية، وتوغل الإيطاليون فعلاً في أرض مصر حتى
وصلوا إلى سيدي براني، وعسكرت قواتهم هناك، وأخذوا يهددون البلدان والمدن
المصرية بالغارات الجوية في كثير من الأحيان.
وبدا لإيطاليا أن تنذر اليونان باحتلال أرضها، فقاومت اليونان ووقعت
الحرب، فعم وحمي وطيسها، ونحن نكتب هذه الكلمات والمعارك على أشدها بين
القوات اليونانية والإيطالية في ميدان كوريتزا بألبانيا وأبيدوس وغيرها، ولا تزال
القوات اليونانية صامدة للغزاة صمودًا باسلاً أخلف ظن إيطاليا التي ما كانت تقدر أنها
ستلقى هذه المقاومة على ما يظهر، ولقد شدت إنجلترا ظهر اليونان، وأمدتها
ببعض المساعدات من الطائرات والرجال، وانتهزت الفرصة السانحة فأخذت تغير
على الأسطول الإيطالي والسواحل الإيطالية وتلحق بها أضرارًا جمة.
ولقد بدا لألمانيا من قبلُ أن تُحدِث انقلابًا في رومانيا، فتم لها ما أرادت،
وخلع الملك كارول، وتنازل لابنه الملك ميشيل عن العرش، وطبقت النظم النازية
في شئون الحكومة تحت رياسة الجنرال أنتونسكو رئيس حزب الحرس الحديدي
النازي المبادئ، وتولت أمر الجيش الروماني بعثة عسكرية ألمانية، وبذلك انتقل
مسرح الحوادث إلى البلقان.
وفي هذه الأثناء وقعت اليابان مع ألمانيا وإيطاليا تحالفًا عسكريًّا كان الرد عليه
من جانب إنجلترا فتح طريق بورما، الذي تستمد منه الصين حاجتها من الذخائر
والأسلحة، ووقعت الانتخابات الأمريكية لرياسة جمهورية الولايات المتحدة، ففاز
بها الرئيس روزفلت للمرة الثالثة، وكان لذلك مغزاه في تقرير المساعدات لإنجلترا.
هذه هي الصورة الموجزة المجملة للحوادث التي مرت بالناس خلال هذه
الفترة، وهي حوادث غيرت وستغير أوضاع الأمم وأنواع الحكومات والدول،
وعجيب أو طبيعي أن يكون العالم الإسلامي كله إلى الجمود أقرب منه إلى الحركة
والعمل.
فأما أن ذلك عجيب فلأن كل شيء في الحياة الآن يتغير ويتجدد ويتبدل
ويترقب، وأما أنه طبيعي فلأن المسلمين حرموا التفكير، أو بعبارة أدق حرية
العمل لأنفسهم زمنًا طويلاً، ولا زالت القيود الثقيلة التي وضعها الغرب في أيديهم
وأعناقهم شديدة الوطأة ضيقة الحلقات، ولكن واجبهم المُلِحّ الآن أن يعملوا على
تحطيم هذه القيود، وأن يجدُّوا فيما فيه خيرهم وسعادتهم.
إن مصر والعراق واليمن والحجاز وإيران والأفغان وتركيا وفلسطين
وسورية والهند والمغرب وغيرها كلها في موقف المترقب المنتظر، ولا يدري
كثير منها عن موقف الآخر شيئًا، ولقد قالوا إن هناك سعيًا جديًّا لإنشاء وحدة
عربية بين العراق والحجاز واليمن ومصر وسورية وفلسطين تعمل على استنقاذ
هذه البلاد جميعًا، وتوحيد خطتها أمام الخطر الداهم الذي يهدد الجميع، ولكنا لم نر
بعد بوادر سعي جدي لهذه الغاية، وقيل إن هناك تفكيرًا في تكوين وحدة عربية
تركية تشمل هذه الدول، ومنها تركيا وإيران والأفغان، ويضم إليها بقية البلدان
الإسلامية، فتعود بذلك الجامعة الإسلامية من جديد، ولم نر كذلك بوادر سعي جدي
كذلك.
لعل من خير العالم الإسلامي الآن أن يقف وقفته هذه حتى يتبين له وجه العمل
المنتج المثمر النافع، ولا غضاضة في الانتظار ما لم نستبن الطريق؛ ولكن من
واجبه مع هذا أن يستعد كل شعب من شعوبه بأسرع وأقوى ما يمكن لمواجهة
الأحداث الطارئة، وليست منه ببعيد، ومن واجبه كذلك أن يتواصل ويتحد، فقد
انتهى عهد الدويلات الصغيرة، ولم يبق صالحًا للبقاء إلا الإمبراطوريات
العظيمة بعددها وعددها ومبادئها، وحق قول الشاعر العربي القديم: (وإنما العز
للكاثر) ومن واجبه كذلك أن يقدر نعمة الله عليه بنظام الإسلام الحنيف ومناهجه
في إصلاح المجتمع، ومن واجب العالم الإسلامي الآن أن تقدر كل أمة من أممه
هذه الحقائق فتهب لتأسيس نهضة جديدة، يكون شعارها النظام الإسلامي الاجتماعي
في الداخل والتحرر من كل سلطان أجنبي في الخارج، والتعاون التام بين الأمم
الإسلامية في جميع أنحاء الأرض، فإلى أمراء المسلمين وملوكهم وزعمائهم وإلى
الشعوب الإسلامية يوجه القول، ولله الأمر من قبل ومن بعد.