للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوثنية في الإسلام
جاءنا الكتاب الآتي من حضره الرحالة الشهير، والكاتب الفاضل السيد سيف
الدين اليمني نزيل سنكافور لهذا العهد فنشرناه برمته؛ لأن فيه عبرة لمن يعتبر،
وذكرى لمن يذَّكر وهو.
قال بعد رسوم المخاطبة:
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ولا زلتم في نعيم مقيم، لم أزل
كثير الإعجاب بما ترقمونه على صفحات (المنار) من النصائح المرشدة للمنهج
السوي والطريقة المثلى، وما توردونه من الحجج القاطعة الدامغة لشبه الملاحدة
المدلسين، أو الجهلة المغفلين وما جاءوا به مضادًّا للشريعة السمحاء من عند أنفسهم،
فإنهم استخدموا دقائق الحيل في هدم قواعد الإسلام {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: ٣٠) حتى لقد أوهموا ضعاف العقول أنهم يحيون ويميتون، ويخلقون
ويرزقون، ولقد رأيت من بعض من تجله العوام أمورًا مضحكة يتلقاها عنه أقوام
من الأغبياء الأغنياء بالقبول على أنها شطحات من الكرامات، وأمور من وراء
طور العقول إلى غير ذلك مما يضيق نطاق الشرح عنه، وقد نشطني لرقم هذه
الكلمات الركيكة ما رأيته في جريدة المعلومات في أعدادها الأخيرة مما يصلح أن
يكون صدًا لما في (المنار) وهو نغمة جديدة ومظهر لم نعهده من تلك الجريدة.
فلنبتهل إلى المولى أن يجعل التوفيق لنا خير رفيق، ويكفينا جميعًا شر من يتعيشون
بترويج الترهات، وشر أنفسنا، وشر كل ذي شر، بمنّه وكرمه. على أن ما أشارت
إليه تلك الجريدة من شأن الموالد ليس أول مطر أصاب ذئب الفلاة. ولا أول أذان
أقيمت عليه الصلاة، وأن أمر البدع في الموالد والزيارات ومواسمها لخطب جلل،
سيما في البلاد الهندية، وعلى كثير من القبور وعلى سدنتها بالهند سيَّما بالممالك
الإسلامية أوقاف عظيمة تذهب غلتها الجسيمة طعمة لطغام مضرين للأنام، ولو
صرف ذلك في مدارس نافعة لكان فيه سداد من عوز، وقد شافهت بهذا الأمر
حضرة وقار الأمراء بهادر كبير وزراء الدولة النظامية بالهند، فلم يصادف قولي
قبولاً، ولقد جارى جهالُ مسلمي الهند مشركيها في كثير من العوائد الخسيسة،
فتراهم يسجدون للقبور وللدجالين كما يسجد مواطنوهم للأصنام، وقد شاهدت هذا
الأمر من عدد وفير وجم غفير، وأنكرت عليهم، فما كان جوابهم لي إلا قولهم:
ذلك وهابي ذو جدل، وقد رأيت بعض من يسمونه عالمًا يعتذر لهم ويقول: إنهم لم
يقصدوا السجود وإنما قصدوا تعفير الجباه ولثم التراب و ... ومن عجيب ما رأيت
أني دخلت على رجل من مشايخ الطريق عندهم له جاه وصيت عظيم، وقد صف
تلامذته بحذائه، وكان منهم رجل لي معه بعض معرفة، وكنت أظن صلاحه، فما
هو إلا أن خروا لشيخهم ساجدين، فخرجت من عندهم مهرولاً محوقلاً، ولما لقيني
صاحبي عذلته على فعلته، فكان من جوابه قوله: إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم
لسرٍّ هو بعينه الآن موجود في الشيخ، وقد علمنا ذلك بالذوق، فنحن نسجد له كما
سجد الملائكة لآدم لئلا نطرد كما طرد إبليس، أما مَن يعتقد منهم وحدة الوجود
والإباحة إلى غير ذلك فهم كثير، وليس اعتقاد إحدى الطائفتين ببعيد من اعتقاد
الأخرى، أي أهل الأصنام وأرباب الضريح.
وفي شرقي الهند أي ما بين مدراس ومليبار كثير من المشاهد، وهي عبارة عن
بناء يبنونه على اسم شخص مشهور، ثم يزورونه ويقيمون له سدنة، وينذرون له،
ويعملون له موسمًا، ويبنون له هيكلاً من خشب مزخرف على نحو هياكل
الأصنام، ثم يطوفون به وقت الموسم بالنيران والزمر والطبول، كما يطوف
المشركون بأصنامهم حذو النعل بالنعل، وبسنقافور منها بعض أبنية، ويسجدون لها،
ويوقدون عليها السرج ليلاً ونهارًا كما يفعل الوثنيون، وترى المعظَّم عندهم من
يختلق لهم رؤيا كاذبة في شأن تلك المشاهد، ويكثر الاعتكاف عندها،
ويحرضهم على ما هم فيه، نعوذ بالله من ذلك.
ولما وصلت بلد ناقور الكائنة بين ناقفتام وكاريكال الفرنساوية (محل بشرقي
الهند) وجدت هناك مسجدًا كبيرًا يقيم به طوائف من أهل الكسل بجوار قبر شخص
يسمونه شاه الحميد - إن سمح لي الزمان شرحت لكم شيء من أخباره - وقد
أوقدوا على ذلك القبر سرجًا كثيرة عديدة نهارًا، وبقربه رجال ونساء كثير بين
راكع وساجد، بعضهم من جهلة المسلمين، وبعضهم وثنيون، والسدنة يمسحونهم
بالدهن من تلك السرج، وينفضون على رؤوسهم ووجوههم الغبار بالمكانس التي
يكنسون بها ذلك المكان، فوقفت على مقربة من أولئك القيام، فأتى إليّ أحد السدنة
ليوسخ ثيابي بالدهن، فزجرته، فقال لي: ألست زائرًا؟ قلت: لا، بل متفرج،
فقال لي: ما مذهبك؟ قلت: الإسلام، فهز رأسه وقال: وهابي، وكان ناظر ذلك
المسجد قريبًا، فبصر بي وبنكوص السادن عني، فجاء واستفهم منه، وكان الرئيس
يحسن من العربية مقدار ما أحسن من الهندية، فاستفهمني فأخبرته أن ما يعملون
مضاد للشريعة السمحة، فأخذ بيدي وقال لي: افقه، ليس المقصود إلا جمع
الربيات، وبما ترى من الوسائط نستغل سنويًّا أكثر من مائة ألف روبية، وما
نبالي بما هدمنا إذا حصلنا ...
وأمثال هذا كثير، والمحذر معدوم خوفًا من نفرة العوام، أو لأجل حظ من
الحطام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
في ١٥ ربيع أول سنة ١٣١٧هـ