للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القسم الثاني
من خطبتنا في التربية

وأما تربية الأطفال العملية فهي التربية النافعة الحقيقية، وبها تناط سعادة الأمة
والبلاد إذا هي سارت على نهج الحكمة والرشاد، لنا من نفوس هؤلاء الأطفال
ألواح صقيلة قابلة لكل نقش، ومن أدمغتهم قراطيس بيضاء نظيفة مستعدة لكل رسم،
فعلينا أن ننقش فيها آيات الحكمة والفضيلة، ونرسم فيها تعليم المبادئ التي تؤدي
إلى الغايات الجليلة، علينا أن نعوِّدهم على الصدق في القول والعمل، وعلو الهمة
وإطراح الإهمال والكسل، إلى غير ذلك من الأعمال النافعة والخصال الرافعة؛
لتنطبع في نفوسهم الملكات الشريفة على الوجه الذي بينّاه أولاً.
تقرؤون في الجرائد الإسلامية، وتسمعون في المجامع الدينية أن نجاح
المسلمين لا يكون إلا بالرجوع إلى تعليم الدين، وأن المدارس الأميرية قد نسخت
الدين ومسخت العربية، والمدارس الأهلية تحذو حذوها وتقتفي أثرها، فماذا
نعمل؟ وكيف السبيل إلى بلوغ المأمل وهذه المدارس لا غناء عنها؛ لأن الموظفين لا
يكونون إلا منها؟
وتعليم الأزهر مقصور على كتب مخصوصة، قصاراها فهم أحكامها
المنصوصة، لا تجمع بين الدنيا والدين كما هو الواجب على المسلمين.
يسهل على الغني منا أن يتخذ لأولاده أستاذًا مخصوصًا يعلمهم الدين، ولكن
هل يكفي هذا لحصول الغرض الذي نبتغيه؟ كلا، لا بد من تعميم التعليم،
ولا بد من التربية بالعمل، أما تعميم التعليم على المنهاج الديني فلا بد له من تأليف
الجمعيات الإسلامية وها أنتم أولاء قد بدأتم بهذا العمل الشريف، فأنشئت فيكم
جمعيتان إحداهما هذه (مكارم الأخلاق) التي كنا نخطب فيها، والثانية جمعية (شمس
الإسلام) أما شمس الإسلام فقد شرعت بالتربية والتعليم بالفعل، وأما هذه الجمعية
فإنها تنتظر من حميتكم الملية، وغيرتكم القومية أن تمدوها بالمساعدة المالية للقيام
بتحصيل هذه الأمنية، وكأني بالدعاء وقد أجيب، وبالعمل قد ظهر عن قريب. وأما
التربية العملية فهي الركن الأول، وعليها الاعتماد والمعول، ولكن أنَّى لنا بمن
يحسنها ويقوم بها.
كتبت في مقالة أننا إذا نظرنا في ضعفنا وبحثنا في علاجه نرى أننا في حاجة
إلى أشياء كثيرة، وإذا ارتقينا في الأسباب ننتهي إلى شيء واحد إذا وجد أوجد كل
شيء ألا وهو الرجال العارفون بطرق المعالجة معرفة صحيحة تبعث على العمل،
إذا كنا نرى الأساتذة والمعلمين لا يحسنون التربية التي بها نرجو الحياة السعيدة فمن
عساه فينا يحسنها؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، ولولا أن فينا بعض قوم من
العارفين نرجو أنْ يُزْهِقَ حقُّهم الأباطيلَ ويمحو نورُهم هذه الظلماتِ لغلب الخوف
على الرجاء، واستحوذ اليأس على الأمل.
ما لا يدرك كله لا يترك قِله، فعلينا أن نوجه العناية التامة إلى تربية أبنائنا
وبناتنا بكل ما في استطاعتنا. البحث في هذه التربية طويل الذيل، متدفق السيل،
وإنما وقفت لأبين بالاختصار ما يجب أن نتوجه إليه، ومتى صح القصد وصدق
العزم نهتدي إلى سواء السبيل، فالعمل يمد العلم، والعلم يقوّم العمل، ولكن لا بد من
تنبيه وجيز يسهل على كل أحد تعقله والأخذ به، أهم شيء أنبه إخواني عليه أن
التربية لا تكون بالقول بل بالمعاملة، لو كان الإنسان يتربى ببيان الرذائل له، وقولنا
له: اتركها، وسرد الفضائل له وقولنا له: الزمها، لكان الأجدر بها العقلاء الكبار
دون الأطفال الصغار؛ لأن الكبير أوعى للقول وأفهم للخطاب، لا يكاد أحد من
الجماهير المجترحين للسيئات - لا سيما الكبائر - يجهل أنها محرمات، وما عساه
يوجد من جاهل بها، فحسبه أن يعلم معظمها في حضور مثل هذا الاجتماع، وإنما
التربية المثلى تكون بالمعاملة الحسنى، فإذا أردت أن يكون وليدك أو تلميذك صادقًا
مثلاً، فعامله بالصدق، وحُلْ بينه وبين الكاذبين لا سيما من أخدانه وأترابه؛ فإن
الصغير يقلد كل ما رآه، ويقتبس من كل من عاشره، وتتكيف نفسه بكل ما يرد
عليها من أي طريق جاء. سبحان الله ما أشد غفلتنا، يكذب أحدنا على ولده من
أول النشأة بالقول والفعل، ولا يمنعه من معاشرة الكذابين والمجرمين؛ فتنطبع في
نفسه ملكة الكذب حتى إذا ما شب ورأى والدُه مضرة ذلك ومعرّته فيه قال: يا بنيّ لا
تكذب؛ فإن الكذب حرام، فأنّى تمحو هذه الكلمة ما رسخ في نفسه بكرور السنين،
وصار صفة من صفاته؟ إن فشوّ وباء الرذائل جعل التربية عسيرة على العارف
بها والبصير بدقائقها، فكيف حال الغافل الجاهل؟ ربما يتيسر للغني حجب ولده عن
قرناء السوء من أترابه، وأن ينتقي له أصدقاء مهذبين، ويتخذ له ولهم في داره من
الألاعيب والألاهي ما فيه غنية عن الرياضة في خارج الدار، ولكن أنّى يتسنى
للفقير مثل ذلك، لا يزيل هذه العقاب والعواثير من طريق التربية إلا العزيمة
الصادقة المنبثقة عن العلم بأن بوجود هذه التربية حياتنا، وفقدها موتنا وهلاكنا.
جماع ما يؤخذ به في تربية الأولاد: (١) المنع عن قرناء السوء، فإن الولد
يستفيد من مثله أكثر مما يستفيد من أبيه وأمه؛ لأن أفكار تِرْبِه في درجة أفكاره،
ورغباته من جنس رغباته، وأعماله من قبيل أعماله (٢) الحيلولة بينه وبين كل
ما يضره الاطلاع عليه أو التلبس به في جسده أو عقله ونفسه، ولكن من حيث لا
يشعر؛ إذ أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، والمحبوب مطلوب والنهي عنه إغراء
به، و (٣) أن يحمل على كل ما يطلب منه بالعمل، وأن يكون الباعث له على
العمل التشبه والاقتداء، ولذلك كان بعض شيوخ الصوفية يرتاض مع مريديه حتى
كأنه سالك مثلهم، و (٤) أن يرجح الترغيب على الترهيب. هذا ما يجب أن نأخذه
بقوة واجتهاد {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: ٢٩) .
اهـ.
هذا ملخص الخطبة، وقد كتبت منها أكثر جملها وتركت بعضها عمدًا؛ لكونها
جاءت في (المنار) من قبل، أو لعدم فائدتها، وما كتبته فهو قريب مما قلته في
اللفظ والفحوى، ومن عادة الرئيس أن يتعقب كل خطيب بكلام يثني عليه به ويلم
بمعنى ما تكلم به إجمالاً، وقد جاء في تعقبه إياي بكلمات أبان فيها عن ارتياب في
كون الأولاد يقتبسون العادات والأخلاق من معاشريهم، وحصر ذلك في الآباء
مستدلاًّ بالقول المشهور (الولد سر أبيه) وصرح بأنه يكتفى في تربية الولد
التربية الصالحة أن يرى أباه يعمل الصالحات، وهذه غفلة من حضرة الأخ الفاضل
الشيخ زكي الدين عن الوجود؛ لأننا نرى أكثر أولاد الصالحين فساقًا لاشتغالهم
بأنفسهم عن تربية أولادهم، ومن الأمثال المشهورة في هذا (خبث الرجل الصالح
في منيه) وهو تعليل شعري، والعلة الصحيحة هي عدم التربية الصحيحة، أما
قول (الولد سر أبيه) فهو إشارة إلى الوراثة، وللوراثة أثر لا ينكر في الاستعداد
والقابلية، ولكنّ الاعتماد على التربية فهي التي لا يغلب سلطانها، وليست التربية
إلا العملية كما قلنا. وألمَّ أيضًا بما قلته من أن المرأة يثقل على طبعها أن يحملها
الرجل على ما يريده بالقوة والإلزام، وأن الأولى أن يأخذها بالرفق واللين، وسبق
إلى فهمه أن هذا منافٍ أو مناقض لقولي، ينبغي لمن يحاول تربية نفسه أن يستعين
على ذلك ببعض آخوانه وأصدقائه، بأن يجعله مسيطرًا عليه ومنتقدًا له، يذكّره إذا
نسي ما التزمه من ترك المنكر وعمل المعروف، ويعاتبه بل ويؤنبه إذا هو نقض
العهد عمدًا.
وصرحت حضرته في التعقيب بأنه كيف يثقل على المرأة إشراف زوجها
عليها بالأمر والنهي من سماء السلطة، ولا يثقل على الرجل مثل ذلك من صديقه
وليس له عليه من السلطة مثلما للرجل على المرأة؟ والجواب عن هذا ظاهر من
وجوه (أحدها) أن ما يكون من الصديق لصديقه لا استعلاء فيه؛ لأنهما كفئان فلا
يثقل على النفس. (ثانيهما) أننا قلنا: إن ذلك ينبغي أن يكون بالمواطأة بينهما،
وأنه هو الذي يجعل صديقه رقيبًا عليه، ومهيمنًا على أعماله، ومن يثقل عليه هذا
لا يأتيه، وإذا وجدت امرأة عاقلة تواطأت مع زوجها على أن يؤنّبها إذا هي قصرت
بما يطلب منها، فيكون حكمها حكم الصديق. (ثالثها) إن النساء أسرع من الرجال
انفعالاً، وأقل منهم احتمالاً، ولذلك شبههن النبي صلى الله عليه وسلم بالقوارير،
ولو أنه ذاكرنا في المسألتين قبل أن ينتقد لانجلت الحقيقة، ويمكنه بعد ذلك إيضاحها
للجمهور، ولكنه تعجل في بيان ما اعتقده عملاً بأثر (خير البر عاجله) وحيث ألقى
الكلام للجمهور اضطررنا أن نبينه لهم بهذه الكلمات لئلا تكون الشبهة علقت ببعض
الأذهان فتصد أصحابها على العمل الذي حملناهم عليه، ولم نشأ أن نتعقبه بالقول
في محل رئاسته أدبًا معه، ولئلا نحفظ قلبه، فإن وداد مثله من الفضلاء نعده من
أعلاق الذخائر.
إذا تأمل هذا الذين لم يفهموا قولنا الذي نكرره دائمًا: (إن العلم اليقيني الذي
يمتزج بالنفس هو الذي يحملها على العمل جزمًا) يتجلى لهم السبب في عدم عمل
الناس بالنصائح التي يسمعونها، فإنها إذا كانت مجملة كاتحدوا واتفقوا، واتركوا
المحرمات وتمسكوا بالصالحات، لا ترشد سامعها إلى ما يجب أن يعمله، وإذا كانت
مفصلة يعرض للتفصيل مثل هذه الشَََُّبَه التي عرضت لرجل من أمثل وعاظنا، فما
بالك بالشُّبَه العامة التي ذهبت بالجزم على الوعيد من النفوس كقول بعض العلماء:
يجوز أن يخلف الله تعالى وعيده، وكالاعتقاد بالمكفرات والشفاعات إلخ ما بيناه في
مقالة (تأثير العلم بالعمل) وعسى أن يحمل حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين
كلامنا على الإخلاص فيتلقاه بالقبول، فالحكمة ضالة المؤمن، والعصمة في تبليغ
الحق إنما هي للأنبياء دون سائر البشر، والسلام.