للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاعتبار بما هو جار
الحرب والتهذيب:
يقولون: إن القوة بالرجال، والرجال بالمال، فأية دولة كثر مالها مُكّن لها في
الأرض، وأمكنها أن تنال منها ما تشاء ما لم تعارضها دولة أخرى تساويها أو تربي
عليها في كثرة المال، الذي هو مناط جميع الأعمال. ويقولون: إن المال لا ينمو
إلا في بلاد أظلها العدل، فحجب عنها هجير الجور الذي يحرق المال، ويجتاح
ثمار المكاسب، ويمني بالشرور والمصائب، وهؤلاء إذا رأوا في بلاد فقرًا مدقِعًا،
أو ضعفًا مُطْمِعًا، نَحَوْا على حكامها باللوم والتعنيف، والعذل والتأنيب، بل ربما
لجأوا للشتم والسباب، وسعوا بالهدم والانقلاب، وذلك شأن الأمة الأسبانية اليوم
يسعى بعض الأحزاب فيها إلى ثل عرش الملك، واستبدال الجمهورية بالملكية،
والذي نراه نحن كما يراه أكثر العقلاء هو أن لوم الحكومات وعذلها لا يكاد يفيد
شيئًا، وأن العدل في الحاكم والثروة في الأمة، وجميع أسباب القوة من حسية
ومعنوية ترجع إلى التربية والتهذيب، وانتشار العلوم والفنون في جميع طبقات
الأمة، وبين جميع أفرادها من ذكرانها وإناثها. واعتَبِرْ ذلك في حال الأمتين
المتحاربتين لهذه الأيام يظهر لك جليًّا واضحًا.
قد سمعت صدى الأحزاب السياسية في أسبانيا، وكيف اتخذوا مصائب البلاد
ذريعة إلى قلب هيئة الحكومة. وعندك نبأ من الثورات الداخلية التي أدت إلى إعلان
الأحكام العرفية في تلك البلاد. أما أهل الولايات المتحدة، فقد كانت الحرب وسيلة
إلى جمع كلمتهم، واتفاق وجهتهم، فصافح شرقيهم غربيهم، وصافى شماليهم
جنوبيهم، بعمد حقد وعداء، ومناهضة ومناصبة، استلّتْ الحرب سخائمهم،
ونزعت ما في صدورهم من غل وجعلتهم إخوانًا متقابلين، كأنهم في جنات النعيم.
علمت من قبل أن نساء الأشراف في أسبانيا أنشأن جمعيات دينية، لأجل
استمداد القوى الروحية، والاستنصار بالأسباب الغيبية أما الأميركيات فقد اتفق
بعض جمعياتهن على عدم ابتياع شيء من بضائع الأمة الفرنسوية؛ لأنها
أظهرت الميل عن الولايات المتحدة إلى أسبانيا. فقل لي بعيشك كيف تكون
تربية أمثال هؤلاء النساء لأبنائهن، وبأية درجة يكون حبهم لوطنهم؟ بل كيف
تكون حالة أبناء أولئك اللواتي رغبن الانتظام في سلك الجيش من حب الفنون
العسكرية والاستماتة في المدافعة عن الوطن العزيز؟
لا جرم أن شأن أبنائهن يكون كشأن أزواجهن الذين يبذلون النفس والنفيس في
المدافعة عن بلادهم، بل يكون أعلى وأرقى؛ لأن الترقي سُنَّة من سنن الله في
خلقه، سار فيها أولئك القوم فنهضوا وارتقوا، وصاروا هم الأعلون، وتنكبها الذين
أرشدهم إليها الكتاب السماوي، بل عَمُوا عنها فأنكروها وزعموا أن الإنسان دائمًا في
تدلٍّ وهبوط، وأن كل يوم شر مما بعده، فهبط بهم اعتقادهم هذا حتى صاروا
يعدّون الفنون الحربية والأعمال العسكرية من المصائب، وبذل المال للمدافعة عن
الوطن من المغارم.
تبصرْ حال النساء في هذا القطر وكثير من الأقطار عندما تؤخذ أبناؤهن
للخدمة العسكرية! يعقدن المآتم ويأخذن المآلي (جمع مِئلاة وهو مِنديل النائحة) ،
ويواصلن النواح، ويرددن النشيج، كما يفعلن لو اخترمته المنية من غير فرق.
فإذا كان الفرق بين الأميركيات والأسبانيات عظيمًا، فإن الفرق بين هؤلاء وبين
المصريات والسوريات أعظم. نعم إن نساء سوريا اليوم آنس بالعسكرية منهن منذ
بضع عشرة سنة، وإن نساء مصر أشد منهن في ذلك ابتآسًا وأبعد استئناسًا.
لاحظ ناظر بحرية أسبانيا السنيور (موري) أن العمل على قلب هيئة
الحكومة لا يزيد الأمر إلا فسادًا، وأن الفائدة منحصرة في التهذيب، ولقد احتج بهذا
على الحزب الجمهوري المتطرف عندما فَوَّقَ على الحكومة سهام الملام، فكان سهم
حجته أفلج. وإنني مورد قوله الذي صفقت له الأحزاب، وهتفت له جموع النواب،
وهو: (إذا كنتم لا تصلحون الرجال ولا تحسنون التهذيب الاجتماعي والسياسي
فماذا يفيد تغيير الحكومات، فإن ثورة أخرى وعاملاً آخر من عوامل الضعف كافيان
لاضمحلال جسم أمتنا الضعيف وسقوط جدارها المتداعي، ولا حاجة للحكومة في
زمن الحرب إلا إلى أمر واحد، وهو إرشاد مجلس حكومتها إلى طرق السداد، وإلا
فلا نفع منه للبلاد) .
صدق الوزير، ولقد رمى عن قوس الحكمة فأصاب كبد الحقيقة، ولو أن كل
النواب ورؤساء الأحزاب مثله لما حدثت تلك المشاغب السياسية التي جاءت فوق
الحرب والقحط ضِغثًا على إبالة.
التطوع والتبرع في الحرب:
إن تطوع الإنسان بنفسه وتبرعه بماله في سبيل الأمة والوطن هما أفضل
الفضائل عند الأمم الغربية المتمدنة، ولذلك ترى التطوع والتبرع في الولايات
المتحدة وأسبانيا يزدادان يومًا فيومًا على نسبة المدنية في الأمتين. يستوي في ذلك
النساء والرجال، والأغنياء والفقراء استواءهما في الوطنية. ومن أخبار الأميركيين
في التطوع أن المتطوعين مائة ألف أو يزيدون استولى قيادتهم ثلاثة من أمراء
العسكرية منهم المستر تيودور روزفلت معاون ناظر البحرية سابقًا أو نائب ناظر
الحربية (خلاف) .
وروي أن هذا لما تطوع جعل قائد آلاي من الفرسان، ولما علم بتطوعه
أصحابه والعارفون به نفر كثير منهم للتطوع خفافاً وثقالاً، ومنهم كثير من الشرطة
(البوليس) الذين كان رئيساً عليهم، وكثير من رعاة البقر في الولايات الغربية
التي كان فيها، وقد صار الكل تحت لوائه سواء، لا فرق بين الأمراء، ورعاء
البقر والشاء، (هكذا تكون الوطنية وهكذا يكون التهذيب) .
ذكرنا في العدد الماضي أن كثيرًا من أبناء المدارس الكلية في أميركا، قد
تطوعوا، وقد جاء في بعض الجرائد أن أولاد الأغنياء من أولئك التلامذة المنغمسين
في الترف والتنعم يأتون في البوارج المِهَنَ المهينة، والأعمال المتعبة، كحمل الفحم
على كواهلهم، وإيقاد النار، وتعهد آلات البوارج التي تطوعوا فيها، (فليعتبر
أغنياء بلادنا الذين يتفادون من الخدمة العسكرية بالاحتيال، وإن لم تَفْدِهم الحيل
الكاذبة فبالمال) ، ومن أخبارهم في التبرع أن المستر أستور تبرع بتجهيز فرقة
(أورطة) من المدفعية بعشرة آلاف جنيه، وبنقل الجنود ومِيرتهم وذخائرهم على
سككه الحديدية، وأنه عرض يخْته على نظارة البحرية، وبالختام تبرع بنفسه وبذلها
للجهاد في سبيل الوطن. وقد تبرعت الفتاة العذراء هيلانة بنت غولد المُثري بمائة
ألف ريال، وروي أن الحكومة لم تقبل ذلك منها فجهزت به فرقة من الفرسان
لتنضم إلى الثائرين في كوبا. هذا بعض من حال تلك البلاد وحال حكومتها في
الثروة، ولذلك يقول العارفون بالسياسة: إن التقاء الأسطولين (الأميركي
والأسباني) المنتظر لا يكون خاتمة الحرب إلا إذا كانت الغلبة فيه للأميركيين؛ لأن
هؤلاء إذا غلبوا فإن لديهم من المال ما يقتدرون به على استئناف القتال، فإذا فرغت
خزائن الحكومة فإن خزائن الأمة لا تفرغ، وقد جاء في بعض الجرائد الأميركية:
أن أعضاء إدارة الرسومات تداولوا في تخصيص ستمائة مليون ريال للحرب، فأين
الأسبانيون من هذه المبالغ. إن وطنية هؤلاء لا تنكر، ولكنهم مُقِلّون في الأكثر؛
ولذلك لم يرو عنهم من التبرع ما يستحق الذكر إلا ما كان من الأسبانيين الذين في
جمهورية الأرجنتين بأميركا الجنوبية، فقد نقل أنهم أرسلوا للحكومة مليوني فرنك،
مليونًا في أول الحرب ومليونًا في أثنائها.
فعسى أن يتنبه الشرقيون مما يساق إليهم من أخبار الأمم إلى الفضائل الحقيقية،
ويميزوا بين الإسراف والتبذير، وبين الكرم والسخاء، فقد تلاشى الكرم الشرقي من
بلاد الشرق أو كاد. وليس من الكرم ما يأتيه محبو المحمدة الباطلة والمجد الكاذب
من إنفاق الألوف من الدراهم والدنانير في عرس ونحوه، بل ذلك من السفه الذي
يتبرأ من صاحبه الدين والفضيلة، ويمقته العقلاء والفضلاء، وإنما يظهر الكرم في
مثل إعانة التأسيسات العسكرية وإعانة جرحى حرب السودان التي تجمع في هذه
الأوقات، وفي نحو ذلك من الوجوه التي تعود بالخير على الوطن وأهله، كإنشاء
المكاتب والمدارس. ومن الأسف أن نرى أغنياء بلادنا لا يلتفتون إلى الأعمال التي
تفيد البلاد إلا قليلاً منهم، وفي قليل من الأعمال، بل يكلون ذلك كله للحكومة، ثم
ينسبونها للتقصير وهم يعلمون أن جميع وارداتها لا تكاد تفي بحاجة الأمة من ذلك.
فكم أنفق مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى من جيبه الخاص على المعارف
فوق ما تنفقه الحكومة، وكم للحكومة الخديوية من العناية في ذلك لا سيما في
عصر العباس حفظه الله تعالى. ولكن لا يقوم بحاجة البلاد إلا أغنياء البلاد، فنسأل
الله أن يوفقهم لعقد الجمعيات المالية، لمثل هذه الأعمال الخيرية، إن ربي سميع
مجيب.