للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ذكرى لرؤساء الأمة

] إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا [[١]
ويلٌ للمفرِّطين الذين هم في غمرة ساهون، تلمع لهم بروق الهداية ولا
يبصرون، وتصيح بهم رعود النذر ولا يسمعون، وتفيض عليهم سماء النعم ولا
يشكرون، أنذرهم الله بطشته بسوء الحال وقلة المال وزلزلة الاستقلال، فتماروا
بالنذر- وأعرضوا عن الآيات والعبر، واعتذروا بالقضاء والقدر، وما أذنب
القضاء ولكنهم هم المذنبون، وما قصر القدر ولكنهم هم المقصرون، يجادلونك في
الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وما هي إلا كلمة واحدة
تذهب باستقلالهم، وتقطع حبال آمالهم، وتجتاح ثمرات ما كان من أعمالهم،
أستغفر الله لأنهم قوم لا يعملون، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم
يخصمون.
ويل للغافلين الذين هم في سكرة يعمهون، أضلهم الهادون، وأغواهم
المرشدون، وفتك بهم الحرَّاس الحافظون، فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون،
تفرقت بهم السبل فأعيتهم الحيل، واختلف فيهم الأدلاء فلا يدرون كيف العمل،
وغلبت العادات السيئة فكثر الخلل، وقوي سلطان التقاليد الباطلة فعمّ الزلل، فإذا
قيل لهم: ارجعوا إلى قرآنكم، قالوا: إنما نحن مقلدون، وإذ قيل حَكِّموا العقل، قالوا: إنما نحن مؤمنون، كلا، إنه لا يشقى بالإيمان العالمون {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم
بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦)
ويل للمرءوسين من الرؤساء، وويل للرؤساء من المرءوسين، ويل لعلماء
السوء، وويل لخطباء الفتنة، ويل للذين يغرون الناس بأقوالهم، ويفتنونهم بأفعالهم
وأحوالهم، يزهدونهم وهم طامعون، وينفثون في أرواحهم سموم الخرافات وهم
يعلمون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ
المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ١١-١٢)
ويل للأمراء الظالمين، والسلاطين الجائرين، الذين جعلوا الرعية عبيدًا، بل
حسبوها حجارة أو حديدًا، يستعبدونها كما يشاؤون، ويستعملونها بما يشتهون، لا
يتقيدون بشريعة ولا قانون، ويرى كل منهم أنه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} (الأنبياء: ٢٣) .
حسبكم حسبكم أيها الرؤساء، وأفيقوا من نومكم أيها المرءوسون، فقد ذهبت
تلكم الأزمان، وتغيرت طبيعة العمران، ودخل البشر في طور جديد، فمنهم شقي
وسعيد، فأما الذين سعدوا في دنياهم، وكاد يخلص لهم ملكها دون من سواهم، فهم
الذين نظروا في الأكوان واسترشدوا بسنتها، وسبروا أحوال الأمم الأمم فأخذوا
بنافعها ومستحسنها، وطهروا أنفسهم من ضارها ومستهجنها، وبذلوا جل العناية في
اختبار طرق التربية والتعليم، واختيار ما ثبت لهم أنه الصراط المستقيم، وإنما
تعرف المبادئ بغاياتها، وصحة الأسباب بصحة مسبباتها، وهذه آثارهم بين أيديكم،
وهي أكبر حجة عليكم، يدير الواحد منهم شؤون الملايين من سائر الأمم، كأنه يدير
الآلات الصماء أو يرعى النَّعَم.
وأما الذين شقوا فهم الذين تنكبوا الطريق الأَمم، وأعرضوا عن النظر في
أحوال الأُمم، وجهل علماؤهم سنن الله في الخلق، وزعموا أن في تعلمها إعراضًا
عن الحق، بل أوهموا أمتهم أن سنن الله وأحكامه في خليقته، مخالفة سننه وأحكامه
في شريعته، وأن العالم بالخليقة كافر أو منافق، والمشتغل بكتب الفقه
(التي زعموا أن الشريعة محصورة فيها) هو المؤمن الصادق، هيهات هيهات،
لقد أضل الواهم قومه وما هدى، وإنما {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: ٥٠) {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ
قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: ١٠١) وهم الذين يحاربون الإصلاح باسم الدين، وهو
ما كان عليه آباؤهم منذ مائة سنة أو خمسين، فيقولون: ليس في الإمكان، إلا إبقاء
ما كان علي ما كان؛ لأن سعادة الأمة في حاشيتي التجريد والصبان، ومعرفة حكم
مناكحة الإنس والجان، وقطع السنين الطوال في أمور لا تتعلق بها الأعمال،
كأبواب الرقيق وما فيها من التدقيق، وإذا قيل لهم: اقتدوا سلفكم الأولين من
الصحابة والتابعين، ومن يليهم من الأئمة الوارثين، الذين جمعوا بين مصالح الدنيا
والدين، ولم يكن عندهم الصبّان ولا ابن عابدين، فارجعوا إلى كتبهم، وتأدبوا
بأدبهم، واستمسكوا بسببهم، فأما أدبهم فالسنة الصحيحة والقرآن، وإتقان لغتهما
بالكتابة واللسان، وأما سببهم فالاستعداد للقوة بقدر الإمكان، بحسب حال الزمان
والمكان، وبذلك فتحوا البلدان، ودوخوا الفرس والرومان، إذا قيل لهم هذا يقولون:
أما اقتفاء آثارهم في الآداب والعرفان، فلا يستطيعه اليوم إنسان، لفساد طبيعة
الزمان... وأما اتباعهم في القوة، والنجدة والفتوة، فهو مطلوب من الحكام، لا من
العلماء الأعلام، فإذا قلت: كيف؟ وإن المدافعة عن الأوطان هي عند كم من
المفروض على الأعيان، حيث تحقق شرطه في هذا الزمان، وهي متوقفة علي علم
تقويم البلدان، ونحوه من العلوم التي يذمها منكم الجمهور الأكبر، ويقولون: يجب
أن لا يتلوث بها الأزهر - يجمجم قوم ويهمهم آخرون، ويعرض عن الجواب
المتكبرون، انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون، لكل نبأ مستقر وسوف
تعلمون، وهم الذين استبدل حكامهم قانون الإفرنج بقانون الديّان؛ لأن سوء التعليم
أبعد الفقه عن متناول الأذهان، وجهل الفقهاء بأحوال العصر جعله غير منطبق على
مصالح الإنسان، وتجاوزوا الحد في الاستبداد، والعلو في الأرض والفساد، فجعلوا
لأنفسهم الحق في إبطال الشريعة الإلهية، والعفو عمن يحكم عليها بأحكامها العدلية،
على إنهم لم يتقيدوا بالقوانين الوضعية، ونظام الأمم المتمدنة الغربية، فيالها من
تجارة بائرة، وصفقة خاسرة، وما هو إلا خسران الدنيا والآخرة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: ٤٥) لا أٌطيل في القول، فشقاء
أمتنا في كل مكان، قد شعر به مِنَّا كل إنسان، ولم يزل منزلة الرؤساء من الأمة
منزلة الوالدين من الولدان، وأمام هؤلاء الرؤساء الآن فرصتان لإصلاح الشان،
إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العليّة، وهي
السياسية الإدارية، فإذا انتهز علماؤنا وفضلاؤنا الأولى، ودولتنا الثانية، فُزْنَا إن
شاء الله تعالى بالعيشة الراضية، وإلا أضاعوا ما تنتظره الأمة من المجد في دنياها
وهم غافلون، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.