للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الكرامات المأثورة
وهي الخامسة من مقالات الكرامات
نتخوَّل القراء بمباحث الكرامات تخوّلاً خشية السآمة من اتصال الكلام في
الموضوع الواحد، وإنما نصدقهم الوعد بالتدريج بحيث لا يملّون ولا يسأمون، ولا
نحن نغفل ما يسنح لنا من المباحث الأخرى بمناسبات الزمان واختلاف الأحوال.
تبين في المقالة الرابعة أن حجج مثبتي وقوع الكرامات على ضربين: أحدهما
ما ورد في الكتاب العزيز، وقد ذكرنا ملخص ما قالوه في الآيات القرآنية التي يدل
ظاهرها على وقوع الخوارق لغير الأنبياء، وحققنا أن قصارى ما يحتج به منها
على ثبوت كرامات الأولياء هو الإلهام الصحيح لبعض أصحاب النفوس الزاكية كأمّ
موسى عليه الصلاة والسلام، وما في معناه ككلام الملائكة لمريم عليها السلام، وأنه
يحتمل أن يكون هذا مما قبله، فثبت أن الإلهام هو مما يكرم الله به أولياءه وأصفياءه
بإشرافهم أحيانًا على ما يعزب عن علم غيرهم، فنقف عند حد ما ورد وثبت، ولا
نقيس عليه غيره؛ لأن ما جاء على خلاف القياس وغير المعهود لا يصح أن يقاس
عليه كالأحكام الشاذة في سائر العلوم والفنون، وقد قضت الجهالة بالدين والعلم بأن
تخضع الأمة لكل مَنْ يظهر على يديه شيء غريب عما ألفت واعتادت، وإن كان
شعوذة أو مبنيًّا على صناعة خفية مهما ظهر صاحبه بلباس الدين وزيّ النساك أو
المجانين.
(الضرب الثاني) ما ورد عن سلف الأمة ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد
سبق القول في مقالة (حجج منكري الكرامات) بأن حجتهم الخامسة هي أنه لو كان
للكرامات أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، فإنهم صفوة الإسلام وأشد
استمساكًا به ممن بعدهم، وقلنا هناك بأن السبكي قد أجاب عن هذه الحجة بسرد
الكرامات المأثورة عن الصحابة عليهم الرضوان، ووعدنا بأن نعد هذه الكرامات في
حجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو ردًّا، وقد ضاقت عن ذلك مقالة حجج المثبتين
الماضية فنذكرها ههنا وهي:
(١) على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر أثر عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفيه أن أباها أخبر في وصيته لها عن
وفاته، وعن حمل له لم يكن معروفًا وعيَّنه بأنه أنثى حيث قال في سياق كلامه:
وإنما هما أخواك وأختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال: إن ذا بطن
بنت خارجة أراها جارية، فكان كما قال، أقول: وهذا من الإلهامات الصحيحة
التي أثبتناها، وقد ورد في الصحيح أنه كان من الأمم قبلنا محدَّثون (بفتح الدال
المشددة) أي ملهمون، وإن عمر بن الخطاب من المحدثين في هذه الأمة، وأجدر
بأبي بكر أن يكون محدثًا أيضًا.
(٢) ثم ذكر حديث عبد الرحمن ولده - رضي الله عنهما - في الإطعام،
وفيه أن الطعام كثر في القصعة ببركة أبيه، قال عبد الرحمن: وايم الله ما كنا نأخذ
لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال حتى شبعنا وصارت بعد ذلك أكثرمما كانت
بثلاث مرار، أقول: إذا ثبت هذا فهو الخارق الحقيقي؛ لأن زيادة الطعام حقيقة لا
تكون إلا بخلق جزء منه يوجد من العدم؛ لأن النموّ بالاستمداد من الأجسام الأخرى
كما في الحيوان والنبات لا يتأتى فيه، وقد حار العقلاء في سر الخلق وكيفية الإيجاد
من العدم حتى كاد هذا الأمر أن يكون وراء ما يقدر البشر على تصوره، ومثله
إعدام الوجود، فالإيجاد والإعدام من الأسرار الإلهية التي لم يطلع الله عليها أحدًا من
خلقه، والحكماء متفقون على أن القوة البشرية عاجزة عن إيجاد نحو ذرة أو رملة،
وعن إعدام نحو نقطة ماء من الوجود وإن بلغت من العلم ما بلغت، ولكن البراهين
العقلية تثبت أن وجود هذا العالم ممكن لا واجب، وأن الممكن لا وجود له من ذاته؛
لأنه لا يكون إلا حادثًا، وهذا هو الدليل على أن الله تعالى خالق كل شيء، أما
الخبر فهو عند الشيخين، وهو من أخبار الآحاد التي تفيد الظن لذاتها، وليس
الموضوع في نفسه من قضايا الدين، فمن اطمئن قلبه له وصدقه لثقته بروايته فله
أن يبقيه على ظاهره ويعدّه من الخوارق، وله أن يأوِّله ليطابق المعروف
في العلم موافقًا لما في الدين من أن الله تعالى جعل لكل شيء يحدث في هذا الكون
سببًا، ولذلك سُمي عالم الأسباب، فالله تعالى خلق مادة الكون بمحض إرادته المعبر
عنها في الكتاب بلفظ (كن) ثم جعل بعد ذلك لكل شيء سببًا كما هو مشاهد،
وبعض أئمة الصوفية الشيخ الأكبر يسمي ما وجد أولاً بمحض الإرادة (عالم الأمر)
وما خلق بعد ذلك بالأسباب المعبر عنها في لسان الشرع بالسنن الإلهية (عالم الخلق)
ولله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
أما طريق التأويل فمن المعهود عند الناس أن يقولوا: كأنَّ هذا الطعام أو الماء
قد زاد وبورك فيه، وكأن الإناء ينبوع إذا كفاهم من حيث يظنون أنه لا يكفيهم،
وإذا زاد مع ذلك عن الحاجة يبالغون في القول فيقولون: إنه قد زاد أو تضاعف أو
صار أكثر مما كان، وإن الإناء لينبع نبعًا، كما يقولون: إن الأرض قد طويت إذا
قطعوا المسافة في مدة أقصر مما كانوا يتوقعون، وكل هذا من قبيل التشبيه البليغ
المعهود في اللغة العربية بكثرة، ولا تكاد تخلو منه لغة من اللغات، لكن التعبير
بقوله أكثر مما كان بثلاث مرار ينأى بالكلام عن التجوز ويدنيه من إرادة الحقيقة،
وكثيرًا ما كانوا يروون الأحاديث بالمعنى، فلسنا على ثقة من نص عبارة عبد
الرحمن - رضي الله عنه - على أن هذه الكرامة مسندة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فالبحث فيها إنما هو بحث في خبر تاريخي، وإنما سَمَّينا الكلام حديثًا؛ لأن
فيه أن الطعام حمل بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه الخلق الكثير.
(٣) ما روي عن عمر الفاروق رضي الله عنه، وذكر السبكي في مقدمته
قصة سارية بن رستم الجلحي وهي مشهورة، وفيها كرامتان: إحداهما أنه اطلع
وهو على منبر حرم المدينة على جيش سارية مع العدوّ في نهاوند وأن العدو أعدَّ له
كمينًا في الجبل، والثانية أنه ناداه: يا سارية، الجبل، فأسمعه، ونحن نقول: إن
هذه القصة مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر؛ لأنها وقعت والمسلمون كلهم
مجتمعون في المسجد يسمعون الخطبة، وهي من الغرابة في نفسها وعظم الشأن في
موضوعها بالمكانة التي نعرفها، ولو حدَّث بها الجم الغفير من الصحابة لحدَّث بها
أضعاف أضعافهم ممن بعدهم؛ لأنهم كانوا أسمع للغرائب، وأولع بالعجائب، ومع
ذلك ما رواها البخاري ولا مسلم ولا أصحاب السنن الأربعة، ولا أصحاب المسانيد
من قبلهم، وإنما انفرد بها البيهقي من المحدثين، وتناقلها كثير من المؤرخين الذين
جمعوا بين الغث والسمين، وقد وطن قومنا نفوسهم على قبول جميع ما يسند إلى
عظماء الأمة على علاته صح أم لم يصح، ومن بحث في ذلك ينسبونه إلى التقصير
في تعظيم السلف، وما تعظيم السلف إلا بالاقتداء بهم، حتى إن عالمًا مثل التاج
السبكي قال في بيان هذه الكرامة: إن عمر رأى القوم في نهاوند عيانًا، وكان كمن
هو بين أظهرهم، أو طويت له الأرض وصار بين أظهرهم حقيقة وغاب عن
مجلسه بالمدينة، فكيف جوَّز انتقال عمر من المدينة إلى نهاوند وإرشاده أمير الجيش
ورجوعه كلمح البصر - ولو حصل هذا لملأ خبره الخافقين - مع أنه لم يقل به أحد
قط، اللهم إن غرامنا بالتأويل قد أطفأ فينا نور الفطرة والعقل وطمس معالم العلم
والدين، فأنقِذنا اللهم من الاحتمالات والتأويلات، وأتحفنا بعلم اليقين، إنك على ما
تشاء قدير.
(٤) ومنها قصة الزلزلة , نقل السبكي عن الشامل لإمام الحرمين أن
الأرض زلزلت في زمن عمر - رضي الله عنه تعالى - فحمد الله وأثنى عليه،
والأرض ترتجف وترتج ثم ضربها بالدرة وقال: قري ألم أعدل عليك؟ فاستقرت
من وقتها. اهـ.
أقول: إن الزلزلة ليس لها زمن معين، فيقال: إنها استقرت قبل انقضائه
كرامة لعمر- رضي الله تعالى عنه - ولا أذكر أنني رأيت لهذا الأثر رواية صحيحة،
ولئن صحت الرواية فقد علمت ما فيها، وقد أطال السبكي الكلام في هذه المسألة
وزعم أن الفاروق كان يؤدب الجمادات كالأرض كما يؤدب الناس؛ لأنه خليفة في
الظاهر والباطن، وزعم أن الأرض لا تزلزل إلا لسببين: جور الحكام واليوم المعلوم
المشار إليه بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: ١) وتكلم
في تفسير السورة بما يخالف الجماهير، وقد بيَّنا الحق في هذا كله، وبينا أسباب
الزلازل بحسب ما يدل عليه العلم في كتابنا (الحكمة الشرعية) ، وأنها لا علاقة لها
بالجور ولا بالعدل.
(٥) ومنها قصة النيل , قال السبكي: إن النيل كان في الجاهلية لا يجري
حتى يلقى فيه جارية في كل عام فلما جاء الإسلام وجاء وقت جريان النيل أتى
أهل مصر إلى عمرو بن العاص فأخبروه أن لنيلهم سُنَّة، وهو أنه لا يجري حتى
يلقي فيه جارية بِكْرٌ بين أبويها، ويجعل عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون،
فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا ثلاثة أشهر لا
يجري لا قليلاً ولا كثيرًا (لعله يريد أنه لا يجري زيادة عن العادة) حتى هموا
بالجلاء، فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: قد أصبت،
إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل، ففتح عمرو البطاقة
فإذا فيها (من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من
قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك نسأل الله الواحد القهار
أن يجريك) فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب، وقد تهيأ أهل مصر
للجلاء والخروج منها، فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، قال السبكي:
فانظر إلى عمر كيف يخاطب الماء يكاتبه ويكلم الأرض ويؤدِّبها.
أقول: إن هذه الحكاية مبنية على أن التصديق بأن النيل كان قبل الإسلام لا
يفيض فيضانه إلا بعد وضع الجارية العذراء فيه، وإنها لخرافة إذا جاز أن يصدقها
أغبياء الوثنيين الذين يعتقدون أن النيل من الآلهة لا يفيض إلا إذا أرضوه بمثل ذلك،
أو أن الآلهة يُجرونه بحسب أهوائهم، وأن إلقاء الجارية من ذرائع استجدائهم،
فلا يجوز أن يصدقها مسلم يعتقد أن الحكيم العليم أقام هذا الكون بنظام ثابت وسنن
مطردة لا تتغير ولا تتبدل، منها أن الأنهار تجري من ينابيع كالعيون الصغيرة
تتفجر من بطن الأرض وتستمد في أيام الشتاء من الجداول والوديان التي يجتمع
ماؤها من المطر، وإن ماء الينابيع من المطر على ما بيناه في المقالة الأولى من
مقالات الكرامات {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْض} (الزمر: ٢١) وقد عُلم أن النيل يجري من بحيرتين عظيمتين في الأقاليم
الاستوائية، وإنما يفيض على مصر فيضانه المعلوم في فصل الصيف؛ لأن صيف
هذه البلاد شتاء في تلك البلاد، ولا يكون الفيضان إلا تدريجًا؛ لأن المطر يكون
كذلك، وإنما يقل الفيضان ويكثر بقلة المطر وكثرته في تلك البلاد التي ينبع منها
ويستمد مما دونها، ويجوز أن يقل الفيضان في أول عهده، ثم يكثر في آخر المدة تبعًا
لأحوال المطر، ولكن لا يتأتى أن يجري في يوم واحد ستة عشر ذراعًا، ولو
حصل ذلك لكان ضرره أضعاف نفعه، فإن زيادة عظيمة كهذه في نهر عظيم كالنيل
إذا جاءت دفعة واحدة لا يكون شأنها إلا هائلاً وعظيمًا.
وحاصل القول: إنه إن صح أن فيضان النيل كان يتوقف قبل الفتح الإسلامي
على إلقاء البنت العذراء فيه وأن هذا بطُل بالإسلام، فإن الخارق للعادة والآتي على
خلاف سنة الكون هو ما كان قبل الإسلام لا ما بعده، وهذا قلب لقصد القائلين
بالكرامة هنا، ولو بنيت هذه القصة على أصل معقول لكانت هكذا، كان قدماء
المصريين يعتقدون أن النيل نهر مقدس كما يعتقد الهنود بنهر الكنج , وكان من
تقاليدهم أنه متى جاء وقت الزيادة فيه يزينون إحدى بناتهم ويلقونها فيه معتقدين أن
الزيادة لا تأتي أو لا تفي بحاجة البلاد إلا إذا فعلوا هذا كما يلقي الهنود أنفسهم في نهر
الكنج اتباعًا لتقاليدهم الدينية، وإن عادة المصريين استمرت إلى عهد الإسلام، وأن
الفاروق - رضي الله عنه - أمر بإبطالها لاعتقاده ببطلانها ومخالفتها للإسلام، وأنه
اتفق أن الزيادة كانت قليلة في أول تلك السنة، والفيضان بطيئًا، وأن عمر لما بلغه
ذلك تضرع إلى الله تعالى أن يغيث عباده ويزيد في النيل؛ لئلا يعتقدوا أن منعهم
من إلقاء البنت هو الذي منع فيضان النيل، وإن الله تعالى رحم تضرعه واستجاب
دعاءه بأن كثرت الأمطار في تلك الأثناء في البلاد التي ينبع النيل منها ويجري فيها،
وأن كتابه ما وصل إلى عمرو بن العاص إلا والنيل قد طفق يزيد زيادة صالحة
حتى وصل في يوم عيد الصليب إلى ستة عشر ذراعًا، وهي الزيادة المعتدلة التي
تكفي البلاد كما هو مقرر في كتب التواريخ {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: ١١٨) وإن هذه الزيادة الكثيرة في أواخر مدة الفيضان كانت من
زيادة المطر قطعًا، فإن كانت مما اقتضته طبيعة تلك السنة كما يكون في بعض
السنين في كل عصر، فذلك توفيق من الله على يد أمير المؤمنين حكمته إبطال تلك
العادة السيئة، وإن كان حصل بدعاء عمر فهو كرامة له؛ لأن استجابة الدعاء بما
يخالف العادة المطردة في الخلق كرامة بلا ريب، ولكل أحد أن يعتقد من ذلك ما
ترتاح إليه نفسه، هذا وإن الحكاية لم ترد بطرق صحيحة موثوق بها، فتستحق هذه
العناية، ولكن العناية والرحمة تجبان لأمة يصدّق أكابر علمائها (كالتاج السبكي)
صاحب (جمع الجوامع) بأن النيل لا يجري إلا إذا ألقيت فيه فتاة صفتها كيت
وكيت، وإن عمر أدّبه بكتابه له، فرجع عن غيه، وقد ابتليت هذه الأمة بتقديس
الأموات والتسليم لهم بكل ما قالوا، ولولا أن حالة العصر أنارت بعض الأذهان
وأعدتها لقبول الحقائق ورفض الخرافات لما كان لنا أن نكتب ما كتبنا، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))