للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(التعليم العالي)
مدارس التعليم العالي في أوروبا وهي المسماة بالمدارس الجامعة تشتمل علي
خمسة أقسام، في كل منها قسم للتعليم الاختياري، وهذه الأقسام هي: قسم آداب
اللغة، وقسم العلوم الرياضية والطبيعية، وقسم الطب، وقسم الحقوق، وقسم العلوم
الإلهية، أما المدرسة الجامعة العثمانية فليس فيها قسم لعلم الطب محتوٍ علي قسم
آخر للتعليم الاختياري، وذلك لوجود مدرسة طبية وافية بالحاجة التي تطلب من هذا
الفرع من العلم، إدارتها مستقلة عن المدارس الأخرى، وهي تابعة لنظارة الحربية،
أما إيجاد مدرسة جامعة للإلهيات وقسم فيها للتعليم الاختياري، فقد حالت دونه
صعوبات كثيرة، فإنه كان يستلزم بلا شك إنشاء أقسام متعددة فيها بقدر عدد
الطوائف المختلفي الديانات، الموجودين في المملكة العثمانية، وفوق ذلك فإن مثل
هذه الأقسام يكون إنشاؤها من العبث؛ لأن كل طائفة من هذه الطوائف تقوم من نفسها
بما يلزم لتعليم دينها تبعًا لدرجة معارفها، إذ أنهم في ذلك لهم الحرية التامة.
يبقى من الأقسام الخمسة قسم الحقوق، وقسم آداب اللغة، وقسم العلوم
الرياضية والطبيعية، وهذه الأقسام يقوم مقامها في تركيا مدرسة الحقوق
ومدرسة الإنشاء واللغة، ومدرسة المهندسين.
(١) أما مدرسة الحقوق المعبر عنها بمكتب الحقوق، فقد تأسست في عهد
جلوس جلالة السلطان عبد الحميد علي أريكة الملك، وذلك بجعل دروس الحقوق
الابتدائية ومبادئ علم الاقتصاد السياسي التي كانت تلقى في كلية سراي غلطة عامة ,
وفي سنة ١٨٨٢م جدد ترتيب هذه المدرسة بأكمله ترتيبًا بني على قواعد ثابتة،
فجعلت مدة الدراسة فيها أربع سنين، ومواد التعليم فيها أصبحت تشتمل علي
القانون العثماني (المجلة) والفقه والقانون الروماني، أو القانون المدني،
والنظامات الرومانية من الوجهة التاريخية، وقانون التجارة العثماني، وقانون
المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وقانون العقوبات والمرافعات الجنائية،
والقانون الإداري، وعلم الاقتصاد السياسي.
(٢) ومدرسة الإنشاء واللغة المسماة (بمكتب الأدبيات العالية)
يعلم فيها هذه الدروس، وهي: إنشاء اللغات العربية واليونانية واللاتينية،
والمنطق والحكمة، وعلم الآثار القديمة، والتاريخ العام، وحكمة التاريخ.
(٣) ومدرسة المهندسين المسماة بمكتب طرق المعابر التي كانت
من قبل ملحقة بكلية سراي غلطة باسم مدرسة المهندسين الملكية (مكتب
المهندسين الملكي) قد فصلت من هذه الكلية في أول سنة لجلوس جلالة
السلطان على كرسي الخلافة، وصارت على ما هي عليه الآن، ومدة
التعليم فيها أربع سنين، كما في بقية الأقسام.
من المدارس الخصوصية يلزم أن تميز المدارس التي تتعلق بنظارة المعارف،
وتكون هي والمدرسة الجامعة معاهد للتعليم العالي للحكومة، والمدارس
الخصوصية في الحقيقة متعلقة بالنظارات المختلفة، فالأولى منها عددها ستة:
مدرسة الطب الملكية (مكتب الطب الملكي) في إستامبول التي فصلت منذ
سنة ١٨٨٢م من مدرسة الطب الشاهانية، وجعلت تابعة لنظارة المعارف العمومية،
التلامذة الذين يتخرجون من هذه المدرسة حائزين لشهادة دكتور, لهم الحق في نوال
الرتبة الثالثة، وفي التوظف بوظيفة طبيب في الدوائر البلدية ٠
ثم إذا احتاجت نظارة الحربية والبحرية لأطباء آخرين غير المتخرجين من
المدارس التابعة لها وجب عليها أن تأخذ من متخرجي هذه المدرسة بالأولوية.
ثانيًا وثالثًا ورابعًا مدارس المعلمين الثلاث، وهي دار معلمي الصبيان، ومنها
يخرج معلمو المدارس الابتدائية الدنيا، ودار المعلمين الرشدية، وفيها يتخرج معلمو
المدارس الابتدائية العليا ودار المعلمات التي يتخرج منها البنات المعدات لوظيفة
التعليم.
خامسًا مدارس الألسن التي أسست بإرادة سنية أصدرتها جلالة السلطان عبد
الحميد في شهر أكتوبر سنة ١٨٨٣م لتخريج مأموري ومستخدمي الباب العالي
ونظارة الخارجية الذين لم يتجاوز سنهم الخامسة والعشرين، ومدة التعليم فيها خمس
سنين يتعلم الطالب فيها نحو اللغة الفرنساوية، وفن التزام طبع الكتب والجرائد
باللغة الفرنساوية، والترجمة من التركية إلى الفرنساوية، وبالعكس، واللغات
التركية والعربية والفرنساوية وتعليم هذه الثلاث إجباري، ثم اللغات اليونانية
والأرمنية والأنكليزية والألمانية والروسية، وتعليمها اختياري.
مستخدمو مصالح الحكومة والإدارة العمومية هم الذين لهم الحق دون غيرهم
في دخول هذه المدارس، بل إن للطلبة من الأجانب أن يدخلوها أيضًا إذا دفعوا
خمسة وعشرين جنيهًا مجيديًّا في السنة، والشهادات التي تعطى من المدرسة
المذكورة تخول حاملها حق التوظف في مصالح الحكومة المختلفة، وفي أقلام
الترجمة.
سادسًا مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها جلالة السلطان عبد الحميد في سنة
١٨٨٣م في كلخانة (إستامبول) بجانب المتحف الملوكي العثماني التابعة لإدارته،
وهي تحتوي على جملة أقسام أحدها لتعليم فن التصوير اللوني، والثاني لفن
التصوير المادي، والثالث لفن النقش علي المعادن والأحجار، والرابع لفن العمارة،
وإدارة هذه المدرسة هي على مثال إدارة مدرسة الفنون الجميلة في باريس من
الوجهة النظرية علي الأقل.
قد كانت المملكة العثمانية فيما سبق تزهو بفنونها، لكنها وإن كانت دائمًا قادرة
علي مباراة الغرب بآدابها وعلومها التي هي مساوية له فيها إلا أنها ليس حالها كذلك
الآن من حيث الفنون الجميلة، فقد كانت العمارة والتصوير المادي والتصوير اللوني
سقطت في هاوية التلاشي، أولئك المعامير المهرة الذين ندين لهم برفعهم القواعد من
جامع السليمانية وجامع السلطان أحمد والجامع الجديد، وغيرها التي تباهي
وتفاخر أعظم الأبنية والآثار في أوروبا، وأولئك المصورون الماديون الذين أبدعوا
بمآحيهم كل الأشكال الغريبة التي كأنها أساور حجرية، وأولئك المصورون بالألوان
الذين زينوا الأواني الصينية بالصور البديعة، وحلوا السقوف بتلك الأشكال الجميلة
التي يهتز لها الأجانب عجبًا واستحسانًا، جميعهم ذهبوا في بطون الأرض، ولم
يتركوا أثرًا من حياتهم فيمن خلفهم، قد ابتدأت تركيا من اليوم الذي رقى فيه جلالة
السلطان عبد الحميد عرش المملكة أن تتحرك من خمودها الصناعي، وتنفض عن
نفسها غبار الكسل في تعاطي الفنون، كانت جميع الآثار القديمة التي تكتشف في
الأرض العثمانية ترسل فيما سبق إلى البلاد الأجنبية لتكون زينة لمتاحف أوروبا،
وبهذه الواسطة يتحلى الآن متحف برلين بالأثر الجليل المسمى جيجانتوماخيا،
ويتحلى متحفا لوندره وباريس بآثار مدينة نينوى، أما الآن فقد انكفت أيدي السارقين
عن الحكومة العثمانية، فلم يبق في وسعهم أن يسرقوا ما هو ملك حلال لها وأصبح
متحف القسطنطينية جديرًا باسمه يبعث زائريه على الإعجاب بما يحويه من النفائس
كقبر إسكندر الأكبر الذي اكتشف في صيدا من خمس سنين، وهو قبر لا مثيل له.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))