للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


طائفة من الأخبار
شرف بهذا اليوم بالعز والإجلال الساعة أربعة بعد الظهر على الطائر الميمون
للعاصمة سمو أميرنا العباس عائدًا من بور سعيد باليُمن والإقبال والمهابة والكمال ,
حيث شرف الاحتفال بإقامة تمثال دولسبس مؤسس القنال، وقد كان الاحتفال بقدومه
في محطة مصر وسائر المحطات التي مر عليها جنابه السامي بالغًا حد الغاية، ولما
حل ركابه الكريم في محطة مصر أطلق له واحد وعشرون مدفعًا، ثم سار بين
صفوف الجند والناس إلى سراي عابدين العامرة، حيث استراح هنيهة وعاد إلى
سراي القبة العامرة محفوظًا بالهيبة والجلال.
***
نهار أمس الواقع ١٧ نوفمبر سنة ١٨٩٩م تم الاحتفال ببورسعيد بكشف الستار
عن تمثال فردينان دولسبس فاتح ترعة السويس برئاسة سمو الخديوي العزيز،
وحضور آلاف من الناس، ومعظمهم من مدعوي الفرنساويين والإنكليز الذين
حضروا من أوروبا على باخرة مخصوصة؛ لأجل الاحتفال بذلك التمثال الذي أقامته
الشركة على ضفاف الترعة ببور سعيد تذكارًا لفاتحها العظيم في أول حياته، الساقط
من حالق مجده في شيخوخته بسبب إخفاق مسعاه في ترعة بناما، وما أضاع فيها
من الأموال العظيمة دون وصوله إلى فتحها، كما فتح ترعة السويس التي ساعدته
فيها أموال مصر ورجالها، وليست أمريكا كمصر، ولا يستوي القوي والضعيف.
وكان شروعه في حفر هذه الترعة في ٢٥ أبريل ١٨٥٩م بعد استحصاله على
امتياز من المرحوم سعيد باشا خديوي مصر يومئذ مؤرخ في ٥ يناير سنة ١٨٥٦م
وذلك أيضًا بعد تصديق الباب العالي عليه عقب أمور ومخابرات حصلت وقتئذ بين
الباب العالي وحكومتي فرنسا وإنكلترا وخديوي مصر، وهي أمور يطول شرحها،
وكفى بأنها أفضت إلى ما كان يحذره يومئذ على مصر كثير من رجال الآستانة العلية
من احتلال دولة أجنبية في هذا القطر، وقد حصل وسقط بيد الإنكليز الذين كانوا من أشد المقاومين لحفر هذه الترعة المحذرين للدولة عاقبة الأمر، وما تغني النذر.
وقد نشرت جريدة الأهرام الغرَّاء بقلم سعادة صاحبها ملخصًا عن كيفية
الاحتفال، أحببنا نقله لحضرات القراء وهو:
بَرَحنا القاهرة الساعة الحادية عشرة على قطار خاص أعدته شركة القنال
لمدعويها، فوصلنا هذه المدينة الساعة الخامسة مساءً، وقد شهدنا جميع المحطات
مزدانة بالرياحين والرايات المصرية احتفالاً بمرور سمو الأمير المحبوب، ولو
جعلت شركة القنال السفر من مصر الساعة التاسعة، ومن بورسعيد الساعة الحادية
عشرة غدًا لكان رأيها أصوب، وقد رأينا من النظام في محطة هذا الثغر وفي سائر
المدينة ما دل على شدة اهتمام سعادة محافظها النشيط الفاضل، أما الجناب الخديوي
فقد شرف البلدة الساعة الثامنة مساءً أمس، وكان في خدمة سموه من الإسماعيلية
حضرة المحافظ الذي نال من جنابه العالي كل رعاية، وقد قوبل سموه بمظاهر
الاحتفال والاحتفاء اللذين لا مزيد عليهما، وكان ينتظر تشريفه جميع أهل المدينة
وفي مقدمتهم حضرات النظار ورؤساء شركة القنال، وكان حلوله الشريف في يخته
المحروسة، وفي الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم (السابع عشر) حضر
المدعوون مئات وألوفًا إلى مدخل البوغاز حيث أقيم تمثال المرحوم دي لسبس، وقد
ذكَّرنا هذا الموقف احتفال صاحب التمثال بفتح البوغاز من ثلاثين سنة في مثل هذا
اليوم، كما ذكَّرنا الاحتفال الذي دعا إليه إسماعيل باشا ملوك أوربا وقياصرتها
وأمرائها وعشرات الألوف من الأجانب والوطنيين، أما اليوم فأصحاب الدعوة هم
أصحاب أسهم القنال المتمولون وأرباب الأموال ملوك هذا العصر، ومما أذكرنا إياه
هذا اليوم أيضًا ما كانت عليه مصر من استقلال إدارتها وسلامة حقوقها الأهلية حين
ضافها ملوك أوربا وأمراؤها، وما وصلت إليه الآن حيث لا يضيفها الأجنبي، بل
يمتلك ناصيتها إدارة وسياسة ومالاً , وقد كان في ساحة الاحتفال نحو خمسة آلاف
نفس وحواليه مثلها من سكان المدينة، وفي مقدمة المدعوين حضرات مختار باشا
والأمراء والقناصل، وكبار الموظفين والأعيان، وعند الساعة التاسعة أطلقت
المدافع تبشيرًا بتشريف سمو الخديوي، فقابله أعضاء شركة القنال، وفي مقدمتهم
حضرة البرنس دارنبرغ الذي شكر لسموه تنازله لتشريف الحفلة، فصافحه سموه
وسائر الأعضاء، ثم تلا خطابًا مختصرًا ولكنه آية بالبلاغة، وقال فيه: إن
صاحب هذا التمثال حقق ماعدَّه غيرُه أحلامًا، ففتح البوغاز، ووصل البحرين
الأبيض والأحمر، ووسع نطاق الحضارة والتجارة، وقرب بين الشرق والغرب،
وفتح بابًا رحيبًا للمصالح العامة العظيمة، فاستحق ثناء الإنسانية والمدنية، ثم قال
أيده الله: وإني أشكر لحضرات رجال الشركة إقامة هذا التمثال، كما أشكر لهم
دعوتهم إياي لرفع الستار عنه، فصفق الحضور تصفيقًا شديدًا مكررًا ورفع الستار
بين التهليل وضجيج الاستحسان، فانبرى البرنس دارنبرج رئيس مجلس إدارة
الترعة، وأثنى على سموه لتنازله وتشريفه الحفلة جريًا بذلك على خطة أجداده
الكرام، وتكميلاً لما لهم من الأيادي البيضاء على أعظم مشروع قام به الناس في
سبيل الحضارة والاقتصاد والعلم والمدنية، وقال: إن هذا القنال الحافظ لمصالح
أوروبا والشرق سيكون أبدًا دوليًّا؛ لكثرة اشتراك المرافق الأوربية فيه، وإن مصر
هي الحارسة له، وختم خطابه المرتجل بمدح سموه وتكرار الحمد لتشريفه، فقوبل
كلامه بالتصفيق والاستحسان، وعندما انتهى من هذه الكلمات الموجزة استأنف
الكلام وألقى في نحو ثلاثة أرباع الساعة خطبة شرح فيها تاريخ المشروع، وأبان ما
كان للخديويين أجمع من الفضل فيه، وعدد مناقب دي لسبس، فقال: إنه كان ثابتًا
في رأيه، حازمًا في إنفاذه، مُجِدًّا في تحقيقه، ووصف تغلبه على جميع المصاعب
التي قامت دونه في إنكلترا وغيرها حتى اضطر إنكلترا أن تكون معضدة للقنال بعد
إتمامه بقدر ما كانت تعارضه قبل ذلك، وهنا توسع في ذكر الحوادث التي طرأت
على صاحب التمثال في مسألة بناما، وقال: إن هذا القنال نفسه سيفتتح يومًا،
وهذا اليوم قريب، فتكون لدلسبس عائدة الفضل في أحداث القنالين، وأثبت أنه لم
يخطئ بما فعله في بناما، ولكن الحوادث غلبت عزيمته، ثم امتدح شارل دي
لسبس لاشتراكه مع والده في المشروع، وكان لهذه الخطبة أحسن وقع فصفق له
كثيرًا، ثم خطب الكونت دي فوكيه العضو في المجمع العلمي والفيلسوف الشهير
خطابًا فلسفيَّا تاريخيَّا، أظهر به مجد دي لسبس كمؤرخ وجغرافي، وسياسي
واقتصادي، واستمر في خطابه نصف ساعة يتكلم ببلاغة وفصاحة تشهدان بعلمه
وبفضله، وكان آخر من تكلم في الجمع حضرة المسيو شارل دي لسبس، فشكر
سمو الخديوي لحضوره وقال: إن والده لم يكن إلا منفذ إرادة أجداده الذين مرجع
الفضل إليهم في أعظم مشروع تمّ في القرن التاسع عشر، ثم شكرلأعضاء مجلس
الشركة قيامهم بهذا الاحتفال، وأثنى على الحضور، ثم نزل عن منبر الخطابة بين
الاستحسان العام، وعند منتصف الساعة العاشرة انتهت الحفلة، فودع الخديوي
بالإجلال والتعظيم.
***
مساء الخميس الماضي ورد تلغراف من مرسليا يبشر بقيام صاحبة العفة
والعصمة دولتلو البرنسس نظله هانم كريمة المرحوم مصطفى فاضل باشا قادمة من
البلاد المغربية، حيث قابلت مولاي عبد العزيز حاكم المغرب الأقصى، ولقيت منه
كل حفاوة وإكرام لائقين بمقامها العالي.
وقد توجه بهذا اليوم للإسكندرية عزتلو عثمان بك عبد الحميد العبادي
وصحبته رجال دائرة البرنسس المشار إليها؛ لأجل استقبال ذاتها الكريمة، ولقد
علمنا أنه قد كان لتشريف المومأ إليها لبلاد المغرب حسن الوقع عند الحاكم المشار
إليه ورجال دولته، وعموم سفراء الدول الفخيمة، والحق يقال إنها لأميرة يفتخر
بها، وهي أول أميرة مسلمة شرقية زارت تلك البلاد، ولقد اتصل بنا أيضًا أن
دولتها لما وصلت إلى البلاد الأسبانية وعاينت ثمة آثار الأندلس العربية الإسلامية
تحركت عندها عواطف الأسف على تلك الأمة العظيمة، فلم تتمالك أن استرسلت في
البكاء، وأنشدت أبياتًا ترثي بها تلك الأطلال وأهليها، متى وقفنا على الأبيات
نزين بهم صفحات المجلة، إن شاء الله.
***
نشرت جريدة (أقدام) التركية الغرَّاء مقالة مسهبة عن أحوال الأفغان بإزاء
الروسية والإنكليز، وتكلمت عما وصلت إليه هذه الإمارة من القوة والاستعداد لكل
طارئ يطرأ عليها، أو مهاجم يحاول مس استقلالها، ومما قالته بهذا الصدد: إن
قوة الأفغان العسكرية قد بلغت أقصى درجات الكمال بحيث إن المعامل التي أنشأها
الأمير عبد الرحمن لعمل السلاح هناك أصبحت تصنع أجود أنواع السلاح المستعمل
عند الدول الأوربية، كمدافع كروب، ومكسيم من آخر طرز، وبنادق موزر،
ومارتين كذلك، وغير ذلك من الآلات النارية المجربة، وإن لدى هذا الأمير جيشًا
عاملاً على أحسن نظام وترتيب يبلغ عدده ٥٠٠ ألف مقاتل يمكن أن يزاد وقت
الحاجة إلى مليون ونصف، وإن ذلك الأمير الجليل دائب في تعزيز المعاقل
والحصون، وتشييد القلاع على حدود بلاده مما يلي تركستان والهند
وبينما كنا نقرأ هذه الأسطر في تلك الجريدة إذ جاءنا في برقيات (روتر) أن
جريدة (التيمس) علمت من أخبار بطرسبرج أن الاستعداد الأخير في روسيا يراد
به الزحف على (هرات) بحجة القلاقل والفتن التي تتوقع عند وفاة أمير أفغانستان،
وأن الحكومة الروسية أتمت السكة الحديدية بين مرو وكشك وأقامت الحصون
والمعاقل المنيعة في كشك وكمبرلي وجعلت هناك عدة فرق من الجيش الروسي
و١٥ مدفعًا، وأن في كشك الآن كل ما يلزم لإيصال السكة الحديدية إلى هرات حتى
العربات اللازمة لنقل المدافع.
هذا، وظاهر أن روسيا تغتنم فرصة اشتغال إنكلترا بحرب الترنسفال في هذا
الأمر، فإنها هي تتنازع معها النفوذ في تلك البلاد، بل إن غرض روسيا من
الزحف على أفغانستان ما وراءها وهوالهند , والبلاد الأفغانية مجنّ أمام وجه الهند
بالنسبة لروسيا فلا يتسنى لها إصابتها إلا بعد سقوط المجنّ أو كسره، وما سَاسَ
إمارة أفغانستان أحدٌ كالأمير عبد الرحمن فإنه بدهائه وحزمه أمكنه أن يحفظ استقلال
بلاده وكرامتها بين روسيا وإنكلترا، وهما أقوى دول الأرض وأدهاها، وإن البلاد
التي تحفظ برجل قد تذهب بذهابه، ولقد اجتهد الأمير عبد الرحمن بالقوة الحربية
والسياسية، ولكنه قصر بترقية المعارف، ولم ينظم في بلاده حكومة شوروية تأمن
بها بعده الثورات والفتن التي هي من سجايا أهل تلك البلاد، ومَن لنا بمَن ينادي
بصوت جهوريّ بين ظهراني تلك الأمة أن أدنى مظهر من مظاهر الافتراق
واختلاف الكلمة بعد وفاة أميرها الجليل يؤدي إلى ضعف قوتها القائمة الآن باجتماع
الكلمة، ومتى ضعفت تلك القوة هان على الروس تدويخ بلاده وسلب استقلالها،
وربما أدى ذلك إلى اقتسام المملكة الأفغانية بين الدولتين الروسية والانكليزية،
فنسأل الله تعالى السلامة لهذه المملكة الأفغانية ولسائر الممالك الإسلامية، آمين.
***
أنبأتنا جرائد سورية عن وصول وفد علمي من الآستانة العلية إلى دمشق
مؤلف من تسعة أشخاص من العلماء بقصد إرسالهم إلى لواء الكرك ومعان؛ ليبثوا
بين العربان الضاربين في تلك الأنحاء مبادئ الدين، ويرشدوهم إلى سبيل السعادة،
وهي مأثرة جميلة من مآثر مولانا أمير المؤمنين - أيد الله دولته وأبد صولته -
وحبذا لو أن جلالته أصدر إرادته السنية بانتخاب هؤلاء العلماء ممن يتكلمون
بالعربية ليتمكنوا من إرشاد هؤلاء الأعراب بلسانهم ولغتهم، إذ إن الفائدة المنتظرة
من وراء هذا الفكر الجليل لا يمكن الحصول عليها إلا بواسطة أناس يتكلمون باللغة
العربية، بل ويعرفون ولو قليلاً من أحوال وأخلاق أولئك الأعراب؛ ليطمئنوا إليهم
ويسترشدوا بنصائحهم، وإنا لنعلم من أخلاق بعضهم النفور الشديد عن الاطمئنان
إلى أهل الحضر، ولو كانوا من أهل لغتهم، فكيف يكون حالهم مع من هو غريب
عنها، على أنه قد أدرك هذا الأمر دولة ناظم باشا والي سورية الهمام، ورفع
ملاحظته بشأنه إلى المرجع الأعلى، كما نقلت إلينا ذلك جريدة الثمرات الغراء،
فعسى أن تحل ملاحظته محل القبول، فلا تذهب الأموال التي ستصرف في هذا
السبيل أدراج الرياح.
وأما ما يشيعه بعضهم بشأن هذا الوفد، وأنه أرسل ممن يتكلمون بالتركية
بإيعاز مخصوص من بعض المقربين الذين جعلوا دأبهم الإيهام والتغرير لزيادة
التقرب، ونوال الزلفى من مولانا أمير المؤمنين، فلم نقف له على حقيقة، ولم يأتنا
شيء عنه من مكاتبنا في دار السعادة، وسواء صح هذا الخبر أو لم يصح، فنحن
نرفع إلى الله أكف الضراعة والابتهال أن يمد مولانا أمير المؤمنين بروح القوة في
إصلاح حال الأمة، ويسدد أعمال رجاله الكرام، ووزرائه العظام، إنه على ما
يشاء قدير.